القمع أولاً وأخيراً

المقال الافتتاحي لجريدة العدالة *

 يبدو أن السلطات السورية، قد حسمت أمرها واختارت القمع ومصادرة الحقوق والحريات العامة..، في تعاطيها مع أي شكل من أشكال الحراك السياسي والاجتماعي المدني والحقوقي…، عبر قوانينها وأدواتها القمعية التي تسيطر على المناخ السائد المحكوم بحالة الطوارىء والأحكام العرفية وغياب قانون عصري للأحزاب والجمعيات ينظم مشاركة المواطنين في الحياة العامة…، وعبر دستور يصادر التعددية السياسية والقومية، ومحاصرة حرية الرأي والتعبير بقوانين تعسفية، وممارسة سياسة الاضطهاد القومي وإفرزاتها السلبية في المجتمع، والتعريب القسري، وتفعيل المحاكم الاستثنائية (محكمة أمن الدولة العليا).
ويبدأ القمع باتهام كل من يدلي برأي أو يعبر عن موقف أو يقوم بعمل…، يخالف أراء ومواقف وأعمال… أصحاب السيادة والسلطان، ونعتهم بأقذع الألفاظ والعبارات والصفات، من قبيل ” الخائن ” ” العميل ” ” المرتبط “…الخ.

وهي نعوت وصفات تتوزع على شخصيات لها وزنها ومكانتها الاجتماعية وتاريخها النضالي العريق إن كان على المستوى المحلي أو العالمي.
ولا يتوقف القمع عند هذا الحد وحسب، بل أنه يستمر ويستمر…، ليصل إلى مستوى الاستدعاءات الأمنية المتكررة المترافقة عموماً بالتهديدات المباشرة أو غير المباشرة أو بالاثنين معاً.
ويبلغ القمع درجات أعلى، بالاعتقال، حيث يتم اعتقال المواطنين بسبب نشاطهم في الشأن العام، وتوجه إليهم تهم واهية وغير حقيقية، ويُحَالون إلى المحاكم (الاستثنائية والعادية) التي تتشدد في محاكمتهم وإصدار أحكام قاسية بحقهم، غالباً ما تكون تجاوزاً على القانون وإكراهاً لرجال القضاء، بإيعاز من الأجهزة الأمنية وخضوعاً لإرادتها ومشيئتها.


ويستمر القمع ليصل إلى أقصى درجات الشدة والعنف، من خلال إزهاق الروح البشرية، سواء بإطلاق الرصاص الحي والمتفجر عليهم أو من خلال عمليات التعذيب…، ويحمي القانون مرتكبي هذه الجرائم من المساءلة القانونية.


          ولعل أبرز مظاهر القمع خلال الفترة الماضية، تجلى فيما يلي:
– إطلاق الرصاص الحي عشوائياً من قبل الأجهزة الأمنية على المواطنين الذين شاركوا في التظاهرة السلمية التي جرت يوم 2 / 11 / 2007 في مدينة القامشلي احتجاجاً على الحشود التركية على الحدود التركية – العراقية، والذي نتج عنه مقتل شاب ويدعى عيسى خليل ملا حسن وجرح اثنين وهما: بلال حسين حسن وشيار علي خليل، واعتقال العشرات من المواطنين لا يزال مصيرهم مجهولاً.
– قيام الأجهزة الأمنية في مدينة كوباني ( عين العرب )، في يوم 2 / 11 / 2007 بضرب المتظاهرين المحتجين على الحشود التركية على الحدود التركية – العراقية، واعتقال العشرات منهم بينهم نساء وأحداث، وأغلبهم لا علاقة لهم بالتظاهرة لا من قريب ولا من بعيد، بل شاءت الصدفة أن يتواجدوا في الشارع في تلك اللحظة.
– منع الأجهزة الأمنية في يوم 1 / 11 / 2007 سفر كل من الأساتذة المحامين: مصطفى أوسو رئيس مجلس أمناء المنظمة الكردية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة في سوريا ( DAD )، رديف مصطفى رئيس مجلس إدارة اللجنة الكردية لحقوق الإنسان، حسن مشو عضو مجلس أمناء منظمة حقوق الإنسان في سوريا ( ماف )، للمشاركة في ورشة العمل التي عقدت في القاهرة من 1 – 3 / 11 / 2007 برعاية الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان بالتعاون مع مركز القاهرة لحقوق الإنسان والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان.


– عدم سماح هذه الأجهزة بسفر الأساتذة المحامين:  مهند الحسني رئيس المنظمة السورية لحقوق الإنسان (سواسية)، وخليل معتوق المدير التنفيذي للمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، للمشاركة في نفس الورشة.


– رفض السلطات السورية السماح للأساتذة المذكورين أعلاه لحضور ندوة خاصة عن “دور منظمات المجتمع المدني في الإصلاح السياسي في العالم العربي” تلبية لدعوة من مركز عمان لدراسات حقوق الإنسان ومعهد آسبن في برلين.

في الفترة الممتدة ما بين 21 – 23 /11 / 2007
– قيام دورية من الأمن الجنائي يوم 6 / 11 / 2007 في منطقة ركن الدين بدمشق باعتقال المغدور أحمد سليم الشيخ تنفيذاً لنشرة شرطية سابقة وضربه في الشارع العام على مرأى من المارة إلى أن فارق الحياة.
– منع الأجهزة الأمنية الأستاذ راسم الأتاسي رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان من السفر إلى تركيا للمشاركة في الملتقى العالمي للقدس في استانبول من 15 – 17 / 11 / 2007م.
– تقديم الأستاذ المحامي أنور البني في يوم 14 / 11 / 2007 إلى القضاء العسكري، بتهم ذم وقدح إدارات الدولة، على خلفية مذكرة سابقة كان قد تقدم بها للدفاع عن نفسه أمام محكمة الجنايات بدمشق في حزيران الماضي و ردَّ فيها على ما وَرَدَ في مذكرة الشؤون الاجتماعية والعمل التي اتخذت من نفسها مدعية في تلك القضية، واستعرض فيها بعض أوجه الفساد في جمعية رعاية المساجين وأسرهم.
هذا غيض من فيضن عما تمارسه السلطات السورية من أوجه سياسة القمع تجاه (مواطنيها) ومصادرة حقوقهم وحرياتهم التي كفلتها لهم القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والتي وقعت عليها سوريا، لا بل أن القوانين السورية وبشكل الدستور ينص في مواده على حماية هذه الحقوق، فماذا عسى أن يكون عليه حال المواطن المسكين وشعوره بإنسانيته وكرامته وانتمائه الوطني؟!!
لا شك أن مواطناً كهذا، مسلوب الإرادة، مقموعاً، غائباً، مغيباً، مهمشاً، تحيط به ترسانة هائلة من القوانين الزجرية، محاصراً بعقلية أمنية تتحكم في كل مفاصل الحياة، لن يكون قادراً على المبادرة والابتكار والتجديد…، ويبقى الوطن والمواطن هما ضحية هذه الممارسات والتصرفات القمعية واللامسؤولة.
نعتقد أن العلاقة الصحيحة والسليمة بين المواطن السوري والسلطة الحاكمة، تبدأ بإطلاق الحريات الديمقراطية وإلغاء القوانين الاستثنائية والمشاريع العنصرية وإنهاء سياسة القمع والهيمنة والاحتكار…، والاعتراف الدستوري بالتعددية السياسية والقومية وإرساء مبدأ سيادة القانون واحترام سلطة القضاء واستقلاليته…، والقضاء على آليات الفساد والإفساد، وتهيئة المناخ للحوار الوطني الشامل ، مما يؤدي إلى خلق المواطنين الأحرار القادرين على المساهمة في بناء وطنهم والعمل على تطوره وازدهاره ونموه ومواجهة تطورات المستقبل بآفاق أرحب.


* جريدة تصدرها المنظمة الكردية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة في سوريا (DAD
)، العددان (15 –  16) تشرين الأول – تشرين الثاني 2007

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

النقل عن الفرنسية إبراهيم محمود باريس – أكد البروفيسور حميد بوزأرسلان على ضرورة تحقيق الكُرد للاندماج الداخلي، وشدد على أن المسألة الكردية، بسبب الاستعمار فوق الوطني لكردستان، لا تقتصر على دولة واحدة بل هي شأن إقليمي. وتحدثت وكالة الأنباء ANF عن المسألة الكردية مع حميد بوزأرسلان، مؤرخ وعالم سياسي متخصص في الشرق الأوسط وتركيا والمسألة الكردية، يقوم بالتدريس في كلية…

درويش محما* خلال الاعوام الستة الماضية، لم اتابع فيها نشرة اخبار واحدة، وقاطعت كل منتج سياسي الموالي منه والمعادي، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم اتواصل معها ولا من خلالها، والكتابة لم اعد اكتب واصبحت جزءا من الماضي، كنت طريح الخيبة والكآبة، محبطا يائسا وفاقدا للامل، ولم أتصور للحظة واحدة خلال كل هذه الأعوام ان يسقط الاسد ويهزم. صباح يوم…

إبراهيم اليوسف من الخطة إلى الخيبة لا تزال ذاكرة الطفولة تحمل أصداء تلك العبارات الساخرة التي كان يطلقها بعض رجال القرية التي ولدت فيها، “تل أفندي”، عندما سمعت لأول مرة، في مجالسهم الحميمة، عن “الخطة الخمسية”. كنت حينها ابن العاشرة أو الحادية عشرة، وكانوا يتهكمون قائلين: “عيش يا كديش!”، في إشارة إلى عبثية الوعود الحكومية. بعد سنوات قليلة،…

سمير عطا الله ظهر عميد الكوميديا السورية دريد لحام في رسالة يعتذر فيها بإباء عن مسايرته للحكم السابق. كذلك فعل فنانون آخرون. وسارع عدد من النقاد إلى السخرية من «تكويع» الفنانين والنيل من كراماتهم. وفي ذلك ظلم كبير. ساعة نعرض برنامج عن صيدنايا وفرع فلسطين، وساعة نتهم الفنانين والكتّاب بالجبن و«التكويع»، أي التنكّر للماضي. فنانو سوريا مثل فناني الاتحاد السوفياتي،…