المواطنة والإصلاح*

المحامي مصطفى أوسو

 المواطنة تعريفاً ومفهوماً:
  المواطنة: هي مجموعة من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية…والحريات المدنية التي يكتسبها الفرد ( قانونياً وفعلياً ) من خلال عضويته في مجتمع معين وعلى قاعدة المساواة مع غيره من الأفراد .وهذا يعني أن المواطنة كمفهوم تقوم على ركنين أساسيين، وهما: 1- المساواة في الحقوق والواجبات.

2- المشاركة الفعالة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية…الخ.

من خلال ما سبق نستطيع أن نقول: أن مبدأ المواطنة، تعني الحرية والمساواة بين المواطنين المكونين لمجتمع معين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الجنسية أو الطائفية أو المذهبية…الخ.
كما نستطيع أن نقول: إن التجسيد العملي لمبدأ المواطنة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية…، يحتاج إلى الكثير من الجهد والتعب والعمل المضني للتخلُّص من الموروثات والرواسب والآثار السلبية التي تعيق الوصول إلى هذا المبدأ الإنساني السامي.
ونستطيع أن نقول أيضاً، ومن خلال ما نشهده في العديد من دول العالم : إن عدم تطبيق مبدأ المواطنة هو المسؤول إلى حد كبير عن تدهور الأوضاع وتقهقرها في ميادين الحياة المختلفة.

فالمواطن أياً كان، عندما يفقد الإحساس بمواطنتيه وتهدر كرامته الإنسانية وعندما يجد أن حقوقه وحرياته الأساسية غير مصانة، لا يمكن أن يكون لديه أدنى شعور بانتمائه الوطني أو ارتباطه بواقعه السياسي والاجتماعي.
ومن هذه النقطة تحديداً، تبدأ الفجوة بالاتساع بين الطبقات السياسية الحاكمة وعموم أبناء المجتمع بمكوناته المتعددة، وتتبلور التباينات بين الطرفين شيئاً فشيئاً، إلى أن تصل حد التناقض نتيجة عدم الثقة بين طرفي المعادلة وتباين المصالح والعلاقات…، مما يؤدي إلى بروز الأزمات والمحن وتصاعد التوترات والاحتقانات…، والذي من نتائجه المزيد من الانقسام والتشظي وإقامة الخنادق والمتاريس بين أبناء المجتمع الواحد والوطن الواحد.
إن تطور حس المواطنة وتبلور قيم الانتماء الوطني، غير ممكن في ظل غياب الديمقراطية والمشاركة العامة والعدالة المجتمعية، وبناء عليه فإن العنصرية والقمع والاستبداد وتكميم الأفواه وانعدام الحريات العامة كلها عوامل مناقضة ومنافية لمبدأ المواطنة، كما أن غياب العدالة وتكافؤ الفرص بين أبناء المجتمع في مجالات الحياة المختلفة، يهدم مستلزمات الوحدة الوطنية ويدق إسفيناً في مشروع العيش المشترك والوفاق الوطني.

فالحقوق والواجبات لا تكون وفق معايير الولاء والمحسوبية وإنما على أساس المواطنة، فهي المعيار الوحيد لترتيب نظام الحقوق والواجبات، والاختلافات السياسية والقومية والمذهبية…في المجتمع الواحد والوطن الواحد ينبغي ألا تشرع لحالة العداء والافتراق والانكفاء، بل للتجاور والتعاون والتبادل المعرفي وإثراء الثقافة الوطنية بالمضامين الحية القادرة على اجتراح تعايش حيوي وفعال بين مجموع مكونات الحالة الوطنية .

وكذلك فإن غياب المؤسسات الدستورية التي تأخذ على عاتقها ضبط نزعات الحكم المطلق وأشكاله في البلاد، يؤدي إلى تضخم مستوى الاستبداد السياسي والاستفراد بالرأي، ولا بد هنا من التأكيد على أن الوحدة الوطنية التي تبنى بوسائل القمع والقسر لا تدوم، فالوحدة الوطنية تقوم على أساس احترام حقوق الإنسان وخصوصيات التنوع الموجودة في المجتمع، وذلك لأن البناء السليم هو الوحيد القادر على مجابهة التحديات والاستجابة الفعالة لمقتضيات العصر.
المواطنة والواقع السوري:
خلال العقود الأربعة ونيف الماضية، تعرض مبدأ المواطنة في سوريا للتدمير الكلي نتيجة السياسات الخاطئة التي سلكتها السلطات السورية، وأوصلت البلاد إلى وضع يدعو للقلق الشديد على سلامتها الوطنية ومصير شعبها، نتيجة احتكار السلطة لكل شيء، مما أسَّسَ لنظام شمولي تسلطي، أدى إلى انعدام السياسة في المجتمع، وخروج الناس من دائرة الاهتمام بالشأن العام، مما أورث البلاد هذا الحجم من الدمار المتمثل بتصدع النسيج الاجتماعي الوطني للشعب السوري، والانهيار الاقتصادي الذي يهدّد البلاد، والأزمات المتفاقمة من كل حدب وصوب، في ظل تفاقم ظاهرة الفقر والبطالة والتشرد والفساد والإفساد والمحسوبية..، ولا تزال هذه السلطات تمارس القمع والإجراءات العنصرية بأعلى درجات الشدة والعنف.
وفي الجانب القانوني، فإن حالة الطوارىء والأحكام العرفية والمحاكم والقوانين الاستثنائية لا تزال سارية المفعول، مما يضع قيوداً قاسية على الحقوق والحريات العامة والحراك السياسي والمجتمعي للشعب السوري، كما أن الدستور السوري النافذ حالياً والذي يحتوي على العديد من المواد والمبادىء التي تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، مايزال هو الآخر حتى الآن عصياً على التعديل الذي يناسب المرحلة الحالية، ولا يوجد حتى الآن قانون عصري ينظم الحياة السياسية والمدنية في البلاد، وقانون المطبوعات المعمول به حالياً يفرض القيود الصارمة بالعقوبات الزجرية القاسية والمالية الباهظة على الصحفيين ويمنع أي تعددية في مجال الصحافة والإعلام، ولا يوجد حتى الآن أي تعديل على قانون الانتخابات الحالي الذي يكرس هيمنة السلطة التنفيذية ( حزب البعث ) الكاملة على العملية الانتخابية برمتها.
وعلى صعيد التعامل مع الشعب الكردي في سوريا؛ فمنذ تشكُّل الدولة السورية وحتى الآن، يتم إتباع سياسة التجاهل والإنكار تجاه الشعب الكردي والشطب على وجوده التاريخي، وإقصاء دوره في بناء القرار السياسي الوطني، وتمارس السلطات بحقه أبشع أنواع سياسة الاضطهاد القومي، وإفرازاتها من المشاريع العنصرية والقوانين والإجراءات الاستثنائية – كالحزام العربي والإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة وعدم إعطاء سندات التمليك للملاكين الكرد وتعريب الأسماء التاريخية للقرى والبلدات الكردية وخضوع الولادات الجديدة في محافظة الحسكة لموافقة جهاز الأمن السياسي- تهدف بالدرجة الأساسية على صهره واحتوائه، وقد تجلت آخر تلك السياسات في المجزرة الدموية التي ارتكبت بحق أبنائه في مدينة القامشلي وبقية المناطق الكردية في 12 -13 آذار 2004 والتي راح ضحيتها حوالي ثلاثين مواطناً، وكذلك في كتاب وزارة الزراعة حول نقل / 150 / عائلة عربية إلى المنطقة الكردية في ديرك كحلقة أخرى من حلقات تطبيق الحزام العربي.
في ظلال هذا الواقع المثقل بالأزمات والإخفاقات ونتائجها الكارثية على المواطن السوري، أعتقد أنه لا مناص أمام السلطات السورية، إلا الانخراط في مشروع الإصلاح السياسي والثقافي والاجتماعي، الذي يُخرِج المجتمع السوري من ظلمات التخلف والتعصب والاستبداد والقمع…بكل صنوفه وأشكاله، المشروع الذي ينقله من واقع التناحر الداخلي بعناوينه المختلفة إلى رحاب الوحدة الوطنية الكاملة، وحجر الأساس في هذا المشروع الإصلاحي، هو إعادة الاعتبار للفرد والتعامل معه على أساس المواطنة الكاملة، بصرف النظر عن انتمائه العرقي أو الديني أو المذهبي…، والعمل على إيجاد الحلول العاجلة للقضايا العالقة في المجتمع السوري، وأهمها:
1-  إنهاء جميع مظاهر الدولة الأمنية ومرتكزاتها السياسية والقانونية، كحالة الطوارىء والأحكام العرفية والمحاكم والقوانين الاستثنائية وهيمنة الحزب الواحد، والإقرار بالتعددية السياسية والقومية في البلاد، وإغلاق ملف الاعتقال السياسي بشكل نهائي وضمان عودة المنفيين والملاحقين سياسياً وإنهاء كافة أشكال الاضطهاد السياسي والقومي والديني.


2-   ضمان سيادة القانون وفصل السلطات الثلاث ( التشريعية، التنفيذية، القضائية ) وضمان استقلالية السلطة القضائية.
3-  إطلاق الحريات الديمقراطية، ولا سيما حرية التنظيم السياسي والنقابي وحرية الرأي والكلمة وحرية الصحافة والنشر، وحرية التظاهر والاعتصام والاحتجاج والإضراب…، وإصدار قانون عصري للأحزاب والجمعيات ينظم الحياة السياسية والمدنية في البلاد، وقانون جديد للإعلام والمطبوعات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية… وصياغة قانون جديد للانتخابات العامة يضمن العدالة لكل مكونات المجتمع السوري.
4-  إفساح المجال أمام كل الاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية والحقوقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية…، لممارسة نشاطاتها وفعالياتها والتعبير عن آرائها وتوجهاتها وتمكينها من ممارسة دورها الوطني.
5-  تحقيق مبدأ مساواة المرأة بالرجل، وضمان حقوقها كاملة، بما ينسجم مع القوانين والمواثيق الدولية في هذا الصدد، كما يجب مراعاة وحماية حقوق الطفل وضمان رعايته الكاملة.
6-  فصل الدين عن الدولة، وتأكيد علمانية الدولة، واحترام كافة المعتقدات والمذاهب الدينية في البلاد وحمايتها من أي اعتداء بسببها، مع نشر ثقافة التسامح والاحترام المتبادل والعيش المشترك.
7-  صياغة دستور عصري جديد، يستند على المبادىء الديمقراطية، يؤسس لنظام ديمقراطي برلماني يحقق سيادة القانون وتعزيز مفهوم دولة القانون والمؤسسات المبنية على مبادىء الحرية وحكم الشعب والتداول السلمي للسلطة، ينتفي بداخله احتكار السلطة أو الهيمنة في العمل السياسي أو المدني أو أي عمل آخر، ويحمي الحقوق، ويضمن المساواة التامة بين كافة الأفراد وكل مكونات المجتمع السوري، ويقر بالتعددية السياسية والقومية والاعتراف بالشعب الكردي كقومية أساسية وشريك رئيسي والإقرار بحقوقه القومية الديمقراطية.
8-  توحيد الأجهزة الأمنية وإعادة النظر في مفهومها كأجهزة قمع وإنهاء هيمنتها على مقاليد الأمور واقتصار دورها على حماية الوطن وأمن المواطن كتوفير عوامل الآمان والاستقرار للمواطنين.
9-  إلغاء السياسات والمشاريع العنصرية والقوانين الاستثنائية المطبقة بحق الشعب الكردي في سوريا، وإلغاء نتائجها، وتصحيح الأوضاع الشاذة وتعويض المتضررين منها.


10 – رفع الحظر عن اللغة والثقافة الكرديين والاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية في البلاد.
          إن حل هذه القضايا المشار إليها أعلاه، سوف يؤدي بلا أدنى شك إلى شعور المواطن السوري بمواطنيته وانتمائه الوطني، وإلى الوحدة الوطنية في البلاد، والذي يؤدي إلى تطور البلاد وازدهارها ومواكبتها ومجاراتها لتطورات العصر ومجابهة التحديات والأخطار.
وشكراً لكم جميعاً
16 / 11 / 2007

المحامي مصطفى أوسو
رئيس مجلس أمناء المنظمة الكردية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة في سوريا ( DAD )

* قدمت هذه المداخلة في الندوة التي أقامها مركز عمان لحقوق الإنسان بالتعاون مع معهد آسبن في العاصمة الأردنية عمان حول دور منظمات المجتمع المدني في الإصلاح السياسي في العالم العربي في الفترة من 21 – 23 / 11 / 2007م.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…