عصبوية الأنا وحق تقرير مصير الآخر

مشعل التمو

الصورة الاثنوجغرافية للعالم تتبدل , حيث تنهار دول وتتشكل دول تنسجم مع التوزيع السكاني , وترتبط بحركات أقلوية معززة بذاكرة تاريخية ونزعة قومية , زادتها تعصبا سياسة الدول الاتحادية في عدم رؤية الاختلافات في الهوية والثقافة , ومحاولة تغليب عصبوية محددة سواء بالتمثل القومي أو باستخدام التطهير العرقي , وهي بمجملها وسائل زادت من عوامل الفرقة والتفتت والاستقطاب الحاد , والذي أدى إلى صدامات عنفيه في الكثير من الدول المتفككة .
ان فشل عملية التمثل القومي أو التطهير , هو بحد ذاته فشل في توفير ميكانيزم الاندماج الوطني , فشل في توفير المساواة والكرامة والإخاء والتآخي وعدم التمييز بين البشر , والفشل في إيجاد حواضن وطنية , يعيد الجدل إلى المعادلة النقيضة والتفضيلية وهي حق الشعوب في تقرير مصيرها , فبموازاة التوترات الاجتماعية وحالة العداء والإقصاء التي أوجدتها ثقافة الصهر والحسم البربري , تبرز ثقافة تصحيح الراهن المتوتر وتحقيق المساواة في إطار من التنوع والوحدة , مع وضوح في المطالب القومية بعد سنين من الطمس والتغييب , وهو ما يفترض توزيعا جديدا للسلطة , عبر تطبيق حلول عملية تنسجم مع القانون الدولي وتنبثق من رؤية ثقافية وسياسية , تأخذ بعين الاعتبار الحق الممنوح للأخر لتقرير مصيره واثبات ذاته .
اعتقد بان المنحى الذي تفترضه العولمة من حيث تمسك الشعوب بخصائصها وثقافتها ومحاولة الدفاع عنها , يعجل في تحول الدول المركزية والمفرطة في استخدام طرائق الصهر العنصري , إلى دول إما مفككة أو اتحادية ,  وطبيعي ان التحليل السياسي الواضح والمقترن بمقاربة تاريخية , هو من يؤسس لدول ضامنة وديمقراطية وتعددية وتعاقدية , تكون نقيضا للتفكك والتبعثر , والأمر هنا لا يرتبط بالأكثرية والأقلية , إنما بذوات مميزة ولها خصوصيتها , وهي أخر , والاعتراف بالذات في الرؤية السياسية والثقافية الصحيحة , هو ما يستوجب الاعتراف بالأخر , بما هو أيضا ذات , ووجود الأنا والأخر , يسهل الاعتراف بالهويات المختلفة , وعلى النقيض فالثقافة الاقصائية هي بمثابة إعلان حرب على الآخر , والخطاب الحربي لا خيار فيه سوى اقتلاع الآخر سبيلا لتأصيل الذات , والاقتلاع وثقافته , هو السبب المباشر وغير المباشر في الصراعات الاثنية , وهو المسوغ لتشكل دول جديدة على أنقاض الدولة المركزية ذات الادعاء والوهم الهويوي الوحيد .
قد يفيد التذكير بأنه كان هناك 32 دولة لحظة الإعلان عن تشكل عصبة الأمم عام 1918 , وأصبحت 60 في عام 1932 , وتشكلت مائة دولة جديدة من عام 1945 إلى عام 1985 , بنتيجة تطبيق حق الشعوب في تقرير مصيرها , وفي تفكك الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا السابقة أضيفت اكثر من عشرين دولة أخرى , ناهيك عن الكثير من الدول الصغيرة ولعل أصغرها هي نورو (10000) نسمة وبمساحة 21,2 كم مربع ؟ وهذا السياق التاريخي في تشكل الدول , يفترض بالعقل السياسي المدرك لبديهيات التطور الإنساني ومدى أهمية ممارسة الخصوصية الثقافية والسياسية , وصحة تطبيق مبدأ القوميات كوسيلة وحيدة لفض النزاعات وإحلال السلام في الدول المتعددة القوميات ,  ان يسعى أولا إلى الاعتراف بما هو موجود , ومن ثم استخلاص العبر والتعقل من التاريخ , والإصغاء إلى صوت الشعوب , لإيجاد آليات توافقية تؤمن التعايش المشترك , والفشل في الإفادة , من منطق الحياة , يجعل البديل المتوفر في تفكك الدول , هو خيار الشعوب للتخلص من الصهر والتطهير العرقي .
عادة تسعى الدول المتطورة والمدنية , المتعددة القوميات , إلى إعادة النظر في دساتيرها , بين الفترة والأخرى , وتعديل تلك الدساتير ليتلاءم مع أوضاع مكونات مجتمعاتها , وبما يوسع حقوقها ويوفر فرص المساواة وتكافؤ الفرص , وحتى في بعض الدول المدنية , تتجه الأقليات في المحطات الديمقراطية واستنادا إلى مبدأ المواطنة المدنية , إلى الاقتراع على الاستقلال أو البقاء ضمن المتحد الراهن , وهذا الاقتراع يحترم من الغالبية , بل يتم توفير فرص استخدامه , في موازاة توسيع الحاضنة الوطنية وترسيخ العدالة والمساواة كرد طبيعي ومنطقي .
في سورية لا يسود فقط  , منطق الإنكار لوجود القوميات الأخرى , بل في الوعي التدميري السائد ما هو ابعد من التنكر لهوية وانتماء المختلف , فثمة إنكار ومنع وصهر وتمييز عنصري , والى ما هنالك من وسائل يبدع فيها العقل القوموي العروبي , والسلوك المنافي لاستقرار ووحدة الدول , لا ينتمي إلى فصيلة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية التي تحميه , ناهيك عن انه يدفع باتجاه اللااستقرار الاجتماعي والتوتر السياسي المزمن , والعبث البعثي في خريطة الأشياء والهويات , يراكم عوامل الفرقة والتشتت , والخلل الراهن ليس لدى السلطة الأمنية , وهي التي لا جدوى في المراهنة عليها , بل في النخب السورية الأخرى والتي نتفق وإياها في المشترك العام , فهي في اغلبها ممزقة ومغتربة , تبدي استجابة ظاهرية للاعتراف بالواقع , وتطرح حلولا مضمرة , تنكر ما اعترفت به ؟
اعتقد بان فهم تداعيات الماضي ومقاربة التاريخ , يتيح لنا جميعا فهما أوسع للحالة القومية , ورؤية اكثر صحة ودقة للخروج من المأزق , فنحن بحاجة الآن , اكثر من أي وقت مضى , بالاعتراف بضرورة بناء الدولة التعددية , الدولة العقلانية غير المستبدة , الدولة الضامنة للحق في الحياة , تستطيع احتضان الهويات المتنوعة , وتوفر لها البيئة اللازمة لممارسة تلك الخصوصيات في إطار التعاقد والتعاضد .
ان التستر على المشاكل الهويوية , وإنكار وجودها , أو الالتفاف على هذا الوجود , سواء تحت يافطة الأمة العربية ووحدتها , أو الحدود الجغرافية ” الاستعمارية ” وقدسيتها ,  وهي ذرائع واهية , رافقها سياسات غاية في العداء لكل ما هو متمايز قوميا , ورغم التستر وعمليات الصهر القسري , حافظت الهويات المختلفة على ذاتها , بل وزادت من وتيرة دفاعها , بالتزامن مع متغيرات الراهن الإقليمي والدولي ومخاضات الوضع الداخلي , وبالتالي فعندما ندعوها إلى الاعتراف المتبادل , نحاول ان نجد أرضية أو مرتكز تقف عليه الدولة الضامنة التي نطمح إلى بنائها , ويهمنا ان تدرك النخب السورية ذلك , إذ لا خيار مستقبلي لنا جميعا , سوى بالتشارك على أرضية حقنا في تقرير المصير , وشراكتنا الكاملة في سورية , سورية التي نريدها وطنا لكل أبناءه , خالية من الاستبداد والقمع والصهر والتطهير العرقي .
ان سورية على الصعيد الاثني , تتكون من العديد من الجماعات والقوميات والطوائف , وهي ليست بالتجانس الذي يدعيه العروبيون ومن تشرب من ثقافة البغض والقهر , وإذا كان الاستبداد والقمع يضع غطاء على تموجات المجتمع , فان بقاء التموج والغليان في قاع المجتمع , يهدد بناء المجتمع ككل , والجميع مطالب بزرع ثقافة قبول الاختلاف , والعمل بأجندة توافقية مناقضة لما تزرعه وترعاه السلطة , فقد يأتي اليوم الذي لا يستطيع احد منا فعل شيء حيال ما أوجده الاستبداد من فرقة وتشتت وتذرر , حيث لا ينفع وقتها شعار براق , ولا خطب عصماء , ولا ثقافة , امة عربية واحدة ؟؟ .

*الناطق باسم تيار المستقبل الكوردي في سورية

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف تعود سوريا اليوم إلى واجهة الصراعات الإقليمية والدولية كأرض مستباحة وميدان لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والإقليمية. هذه الصراعات لم تقتصر على الخارج فقط، بل امتدت داخليًا حيث تتشابك المصالح والأجندات للفصائل العسكرية التي أسستها أطراف مختلفة، وأخرى تعمل كأذرع لدول مثل تركيا، التي أسست مجموعات كان هدفها الأساسي مواجهة وجود الشعب الكردي، خارج حدود تركيا،…

روني آل خليل   إن الواقع السوري المعقد الذي أفرزته سنوات الحرب والصراعات الداخلية أظهر بشكل جلي أن هناك إشكاليات بنيوية عميقة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد. سوريا ليست مجرد دولة ذات حدود جغرافية مرسومة؛ بل هي نسيج متشابك من الهويات القومية والدينية والطائفية. هذا التنوع الذي كان يُفترض أن يكون مصدر قوة، تحوّل للأسف إلى وقود للصراع بسبب…

خالد حسو الواقع الجميل الذي نفتخر به جميعًا هو أن سوريا تشكّلت وتطوّرت عبر تاريخها بأيدٍ مشتركة ومساهمات متنوعة، لتصبح أشبه ببستان يزدهر بألوانه وأريجه. هذه الأرض جمعت الكرد والعرب والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين والأيزيديين والآشوريين والسريان وغيرهم، ليبنوا معًا وطنًا غنيًا بتنوعه الثقافي والديني والإنساني. الحفاظ على هذا الإرث يتطلب من العقلاء والأوفياء تعزيز المساواة الحقيقية وصون كرامة…

إلى أبناء شعبنا الكُردي وجميع السوريين الأحرار، والقوى الوطنية والديمقراطية في الداخل والخارج، من منطلق مسؤولياتنا تجاه شعبنا الكُردي، وفي ظل التحولات التي تشهدها سوريا على كافة الأصعدة، نعلن بكل فخر عن تحولنا من إطار المجتمع المدني إلى إطار سياسي تحت اسم “التجمع الوطني لبناء عفرين”. لقد عملنا سابقاً ضمن المجتمع المدني لدعم صمود أهلنا في وجه المعاناة الإنسانية والاجتماعية…