خورشيد شوزي*: انتفاضة الكرد 2004
استهلال
بانفراط عقد الدولة العثمانية، تهدّمت أطر الدولة التقليدية التي كانت تحكم باسم الإسلام وباسم الهوية العامة للأمة الإسلامية، ومع أنه يمكن لأواخر القائمين على شؤون إمبراطورية ما معرفة الكثير من الأسباب التي أدت إلى تفككها، فالانهيار نتج بسبب الضغوط الخارجية و الأخطاء الفادحة التي ارتكبت في الداخل، إضافة إلى بروز رباط سياسي لا يساعد على بناء إمبراطوريات جديدة أو ترميم إمبراطوريات قائمة.
ففي أوروبا، وبعد مخاض طويل وصراع مرير ومستمر مع سلطة الكنيسة برزت عوامل قوية لإعادة تأسيس العلاقة بين الشعوب وأنظمتها على قواعد ومفاهيم جديدة، رسمت ملامح العلاقة بين المواطن والدولة الجديدة على أساس البرنامج السياسي الذي يقدمه الحزب الحاكم في إطار أهداف مشتركة لإنجازات عملية. بعكس السائد سابقاً والذي يدعو الجميع إلى مبادئ ومثل واحدة.
أما بالنسبة إلى الكرد فقد شعروا بالكثير من الخذلان والمرارة حيال الإمبراطوريات الأوروبية التي تركتهم دون كيان قومي خاص بهم، بناء على المصالح الإمبراطورية في تقسيم الغنائم والمصالح بعد الحرب الكونية الأولى. وكانوا الخاسرون الوحيدون جراء تقسيم جغرافيا الإمبراطورية العثمانية، وبالتالي قسّمت كردستان بين دول جديدة وأخرى موجودة. والدول التي تقاسمت كردستان لم تكن أياً منها رحيمة بهم، وقد عومل الكرد على أساس شوفيني محض، حيث مورس بحقهم سياسات تراوحت بين طمس الهوية ومسخ الثقافة الكردية من ناحية، وبين سياسات التطهير العرقي والإبادة الجماعية من ناحية ثانية. وقد شهدت هذه الحقبة أنواعاً مختلفة من فنون اضطهاد الكرد، ومن طرائق سحق ثقافتهم وحرمانهم من التكلم بلغتهم، وحتى من تأسيس مدارسهم ومؤسساتهم الثقافية. وكانت نتيجة هذا التشطير الذي فرض على الشعب الكردي أنهم وقعوا ضحية للأنظمة (الديكتاتورية والشمولية في الغالب) التي تتالت على حكم وإدارة الدول التي ضمت أجزاءً منهم. وقد نهجت هذه الحكومات، طوال القرن العشرين وإلى الآن، صهرهم في بوتقة التفريس والتتريك والتعريب، وبعضهم حرمت الكرد من التكلم بلغتهم، وحتى من ارتداء ملابسهم التقليدية و الغناء بلغتهم.
بناء على ما ذكرنا فإن واقع الإنسان الكردي في سوريا، وبخاصة بعد الاستقلال منذ نضج الفكر القومي في المختبر الشوفيني البعثي، وهو بداية الإجهاز على الرابط الديني في الدولة الإسلاميّة، والتحول الى الدولة القومية!، ومع هذا التحول طال الكردي وغيره من المكونات التي تعيش ضمن الدولة المنشأة بعد الانتداب الفرنسي بعدة سنين، صنوف من القهر والاستعباد ومحو الهوية والتعريب حسب مقولة: “كل من نطق بالعربية فهو عربي”.
وإذا وضعنا الأخلاق والضمير جانباً، فإن واقع الكرد حالياً انهم أصبحوا أسرى التوازنات الإقليمية والدولية، وبذلك فهم تحت ضغط شروط كثيرة، في غالبيتها تجعلهم أداة استنزاف للقوى المحلية، وأداة مساومة بيد القوى الدولية الكبرى، فقد وعدوا سابقاً بدولة من قبل فرنسا وبريطانيا، ولكن الوعد تحول إلى الحرمان من كل شيء، ومن قبل الولايات المتحدة -التي حلت محل الاستعمار القديم بشكل جديد- إلى التآمر والبيع.
لكن انتفاضة الثاني عشر من آذار 2004م، دفعت المسألة الكردية إلى مسار آخر، بعد سنوات من التعتيم والتحوير، والتحريف على أيدي البعث، والهدف القديم الجديد هو طمس المسألة الكردية.
القضية الكردية في سوريا
المسألة الكردية في سوريا الحالية ليست وليدة بضع سنوات من الآن، وليست وليدة ظروف فجائية للأحداث التي تمر بها المنطقة عموماً، وإنما هي نتاج اتفاقات دولية (كما أسلفنا) أعادت تقسيم العالم بعد الحرب الكونية الأولى، ففي العام 1920م لم تكن الحدود السورية الحالية موجودة، لا بل حدود كل دول أحواض المتوسط من ضمنها تركيا أيضاً، فالخارطة الجديدة ضمت شعوباً وأراض إلى أخرى، واستحدثت دولاً بحدود لم تكن سابقاً موجودة، كل ذلك تم بمعزل عن الشعوب التي سكنت هذه المناطق منذ فجر التاريخ، ابتداءً من إدارة الانتداب الفرنسية وحكومة أتاتورك التي ورثت جزءا من أراضي الإمبراطورية العثمانية بتعديلات على اتفاقية لوزان لعام 1923 على أنقاض اتفاقية سيفر لعام 1920 (والتي أقرت قيام كيان كردي على جزء من شمالي كردستان وحتى ولاية الموصل جنوباً)، بحيث يكون الخط الحديدي لقطار الشرق السريع حداً فاصلاً بين الدولتين الناشئتين (أكثر من 350 كيلومتراً من هذا الخط الذي يربط المنطقة بأوربا).
وبذلك نجم عن تطبيق هذه الاتفاقية اللاإنسانية فصلاً كاملاً للأرض والشعب في هذه المناطق كانت قائمة منذ مئات السنين، بعشائرها وقراها وأنهارها ومزارعها ومراعيها، بين الشمال الذي أصبح اسمه تركيا والجنوب الذي أصبح اسمه سوريا. كذلك فصلت الاتفاقية ما بين جبال كرداغ وامتداداتها الشمالية الواصلة إلى مناطق عينتاب وأورفه، وأسكنت قبائل عربية في منطقة جرابلس لتفصل بين جزأي الأراضي الكردستانية التي أتبعت لسوريا.
وبعد دخول الاستعمار الفرنسي سوريا وترسيم الحدود بشكل نهائي بين سوريا وتركيا عام 1939، ألحق جزء من كردستان بسوريا كما أسلفنا، وأصبح جزءاً من سوريا الحديثة، وارتبطت منذ ذلك الحين صيرورة التطورات فيه بسياسات الدولة السورية، في الوقت الذي انقطعت صيرورة التطور السوري عن مسار المصالح العثمانية لترتبط بالمصالح الاستعمارية الفرنسية.
والدولة السورية الناشئة باتت فيها جملة من القضايا المتراكمة والمستفحلة منذ الانتداب الفرنسي وحتى الوقت الحاضر، وحل هذه القضايا باتت ضرورة قصوى، وعلى رأسها قضية الشعب الكردي الذي يعاني أشد حالات الاضطهاد من نكران لوجوده وحقوقه منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة في العشرينيات من القرن الماضي.
لقد جاءت أحداث 12 آذار- لتشير بوضوح إلى وجود مشكلة كردية في سورية، وأن أساليب معالجتها حتى الآن – كانت على درجة من الخطأ وسوء النوايا والممارسة، بل وإن عدم الاعتراف بها لم يعد مجدياً البتة، حيث أن كلمة “كردي” في سوريا كانت في رأس قائمة الممنوعات، ولا سيما في الإعلام الرسمي، وهنا علينا أن نتذكر، أن مجموعة من الشباب الكردي، قضوا زهرة شبابهم في السجون، في بداية السبعينيات من القرن الماضي؛ لمجرد أنهم هتفوا في احتفال عام: عاشت الأخوة العربية الكردية؟!، كما إن الكثير من المثقفين والحزبيين الكرد كانوا ملاحقين، وبعضهم أدخلوا السجن لسنوات طوال بدون محاكمة في عهد البعث، وفي عهد الوحدة. إن أي تمعن في مثل هذه المفارقات الصارخة، تؤكد وبجلاء ساطع، تلك القاعدة التي ينبني عليها تراكم الممارسات المجحفة، بحق الكردي، خلال هذا الشريط الزماني.
هذه الممارسات المجحفة بحق الكردي، وفي ظل ممارسات الضغط، وكتم الافواه، هي إعادة إنتاج للأساليب التي تم الاعتماد عليها في مواجهات الإشكالات العامة في سوريا، مع كافة أشكال الفسيسفاء- وهي في الأصل سبب كل ما آلنا إليه- لن تكون ناجعة البتة، فهي تنتمي في جوهرها إلى الفباء العنف، الذي أكد المواطن السوري -على مختلف انتماءاته- عدم جدواها.
ومع أن الكرد أمة مكتملة التكوين، ومن حقهم أسوة بكل أمم الأرض، أن تكون لهم طموحاتهم القومية، فإنهم يختلفون فيما بينهم حول تجسيد طموحاتهم، حيث يتبنى بعضهم إقامة دولة قومية مستقلة، ويتبنى آخرون الدولة الفيدرالية القومية، وهذه المطالب تطرح بالتوازي مع حالة ميزان القوى الإقليمي والمحلي والموقف الدولي من هذه المطالب. بينما القوى الاقليمية والدولية فإنها تختلف في وجهات نظرها، فمنها ما ترى بأن الكرد مجرد جماعة اثنية، ولا يشكلون في رأيهم أمة بالمعنى الحديث، وبالتالي لا يمكن إعطاؤهم دولة خاصة بهم، ومنها ما ترى بأن الكرد أكبر أمة في العالم لم تحصل على دولتها الخاصة.
وبقراءة متأنية لوضع الكرد والظروف المحلية والإقليمية والدولية السائدة، فإن قيام دولة كردية واحدة (كردستان الكبرى) حالياً غير ممكنة التنفيذ (مع العلم بأنها حقهم الطبيعي)، ولذلك فإن الفيدرالية هي الطريق الأمثل للكرد في الدول التي تحكمهم حالياً. وهذا يطرح على هذه الدول الخروج من المآزق الحالية وإيجاد قاسم مشترك بين أطراف النزاع المحلية يؤسس لعلاقة عادلة يتحقق من خلالها الحقوق المشروعة للجميع وإقامة عقد اجتماعي يقر التعددية القومية والدينية، لتكريس نظام سياسي قائم على الحرية والعدالة والمساواة، يكفل لجميع مواطنيه الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإقامة نظام ديموقراطي يسمح بانضواء الكرد كقومية لها ذاتيتها وشخصيتها المتميزة في نطاق هذه الدول، يقود إلى حل فيديرالي مقبول، يخرجهم من مستنقع المعادلة الدولية.
الكرد و الفكر الشوفيني
حاضر الكرد امتداد لماض متخم بالقمع والاضطهاد وسلب الإرادة وجعلهم فئة دونية مهمتها خدمة مستعمريهم، ونتيجة للسياسات التي مورست معهم تعرض الكثيرين منهم – خاصة الذين هاجروا وانتشروا في مختلف بقاع الأرض – للضياع حتى ان الكثيرين منهم نسوا لغتهم وأصلهم.
كما هو معروف فإن اللغة هي إحدى أهم معالم شعبٍ ما، ولذلك حاول ويحاول مغتصبو كردستان والسياسيون والكُتّاب العنصريون طمس وتشويه التأريخ الكردي وإظهار الشعب الكردي وكأنه شعب طارئ على المنطقة وبلا تأريخ ويفتقر إلى اللغة. ويبدو أن الكرد على مدار التاريخ هم الضحايا والوقود لتنفيذ المخططات في مناطقهم، والورقة الكردية دوماً تحشر في أجندات الدول الحاكمة لهذا الشعب المظلوم، والعلاقات التركية الإيرانية السورية التي سادها التوتر لمدة سبعة عقود تقريباً، تغيرت بشكل كلي عقب حرب العراق 2003، ودخلت تركيا في علاقات مع سوريا وإيران، اللتين ارتبطتا معاً بتحالف استراتيجي قوي، وخاصة بعد استيلاء الأسد الابن على السلطة في سوريا، في وقت كانت أمريكا تحاول عزل هذين البلدين، وتقاسمت الدول الثلاث، تصور الخطر المشترك من إمكانية إنشاء دولة كردية، تدعم النزعات الانفصالية بين أقلياتها الكردية، ولهذا وقعت الدول الثلاث سلسلة من الاتفاقات الأمنية لمنع قيام دولة كردية، وحتى إقليم فيدرالي.
وهذا ما أدى الى اصدار سيل من القوانين والأوامر الإدارية والقرارات الاستثنائية البربرية التي أنتجها العقل البعثي الشوفيني على مدى خمسة عقود ونيف ضد الكرد، قد خلق شعوراً بالإحباط والغضب لدى الكردي من كل ما يتعلق بالدولة أو الوطن الذي يعيش فيه. ولكنه لم يفقد الأمل، في أن تعاد الأمور إلى مساراتها الصحيحة، وتعيد الكرامة والحرية إلى الإنسان السوري عموماً وإلى الانسان الكردي كامل حقوقه المشروعة كشعب يعيش على أرضه التاريخية، في ظل دستور عصري يعترف بالجميع ويحمي حقوقهم، ويقرّ بالتنوع اللغوي والثقافي وتعدد الهويات في سورية المستقبل.
وبعيداً عما تم داخل ــ ملعب نادي الجهاد ــ من إصرار مسبق من قبل جمهور نادي الفتوة على الإساءة إلى جمهور قامشلو المضيف، من خلال أشرطة الفيديو المسجلة وشهادات عينية، فإن واقع كرد سوريا، بات يزداد سوءاً، يوماً بعد يوم، فالمواطن الكردي حرم من أبسط حقوقه: المواطنة (المجردين من الجنسية مثالاً) والسياسية منها، والثقافية.. والكردي هو الإثني الوحيد في سوريا الذي لا يجد على طول البلاد وعرضها مدرسة يتعلم فيها ابنه بلغته الأم، بالإضافة إلى اللغة الرسمية، ومحرم من انتخابات مجلس الشعب، أو الإدارة المحلية، واللتان سمتهما العامة التزوير، وعدم التعيين في التشكيلات الوزارية، أو الإدارات العامة وسواها.
لقد أكدت أحداث انتفاضة 12/آذار عدم مصداقية، آراء المسؤولين في الدولة، على اختلاف مراتبهم، ومهامهم، واستمرارهم في تهميش استحقاقات الكرد، والاستهتار بها بشكل مدروس ومخطط، منذ عهد الوحدة، ثم استيلاء حزب البعث على السلطة، فهم أنفسهم يتحملون المسؤولية لا سيما أنهم كانوا يشيعون بين عموم الشعب السوري مواقف الارتياب من الكردي، والتشكيك به، إلى درجة كتم الافواه، والإدانة، والخيانة، تحت حجج وذرائع واهية.
مؤكد أن العام 2004 سيظل وشماً على الذاكرة والضمير الكرديين، بل الوطنيين، والإنسانيين، بعامة، حيث إنه استهل كردياً بحمامات الدماء الذي هزت ضمائرنا، ودخلنا بسببها فيما بعد في دوامة من الألم والحوارات على أسس جديدة حتى هذه اللحظة، تكفل لكل مكوناتها الاثنية حقوقهم، في الدولة المنشودة.
الروابط التاريخية بين الكرد والعرب
لعلّ ما كان يربط الكردي والعربي معاً (تأريخياً)، هو الغطاء الإسلامي حيث بيّن الكردي، طوال انخراطه في إهاب الدين الإسلامي وفاءه -من طرفه- حيث نسيانه الكثير من خصوصياته، لصالح الاندماج في المجتمع الجديد. ومن المؤكد إن الكرد ما كانوا ليقبلون بالانتماء إلى الإسلام، لو أن ذلك كان سيعني الانتماء إلى قومية أخرى، فالعروبة كما أرادها القومويون العرب لاحقاً أن تكون قومية أحادية..!، هي طلقة غادرة في الوشائج المعتقدية، التي كانت تربط وبقوة كل الأقوام المنضوية تحت لواء الإسلام.
ومن هنا، يمكن الحكم على التقويم الزماني لرفع الكردي أي شعار خاص به، كرد فعل، جد متأخر عن سياقه الفعلي، لاسيما عندما نبصر أمام أعيننا كيف أن الفارسي والتركي والعربي شركاءه في المكان، كل منه بات يفكر بذاته، وبخلاصه، وإن كان على حساب الآخر..، وهو ما كان – كل منهم على حدة ومعاً يمنعونه على الكردي..!!
ومع اختفاء العدالة والقيم تحولت سوريا إلى دولة فاسدة طائفية بامتياز، عانت فيها كل المكونات الاثنية والدينية محن واعتقالات واختفاءات ومجازر رهيبة، وفي ظل كون الكرد اثنية كبيرة تأتي بعد العربية، عانوا مثلما عانى باقي السوريين إضافة إلى قوانين استثنائية وغير دستورية حرمت الكثيرين منهم من الجنسية والأرض والعمل والدراسة وحتى أسماءهم وأسماء قراهم وبلداتهم ومدنهم، وأصبحوا لاجئين في أرضهم التاريخية.
إن الكثير من الكتاب العروبيين كتبوا بأن الكرد جاؤوا إلى سوريا مهاجرين بسبب حملة التتريك التي قادها حزب الاتحاد والترقي في الدولة العثمانية، والتي استهدفت الأرمن، وترافقت مع المذابح والتهجير، فاتجهت جموع كثيرة منهم نحو سورية…! وأن هذا اللجوء كان كثيفاً في الشمال، ثم توزع في الجزيرة وحلب وعفرين وحماة ودمشق- الخ، واندمجوا مع الحياة السورية، وتحولوا إلى مواطنين سوريين (تعربوا) ومارسوا كل الحقوق.
إن هؤلاء نسوا أو يتناسون بخبث بأن وجود الكرد في سوريا (التي أنشأتها سايكس بيكو)، موغل في القِدم، يسبق مرحلة الأيوبيين، ناهيك عن أن باني مدينة حماة هو أبو الفداء الكردي، ولم يأت الكرد إلى هذه المنطقة مؤخراً، فعلى سبيل المثال ومن القرن الثامن عشر، هناك سندات تمليك عثمانية لملكية أراضي أغلبية القرى الكردية في سوريا، تدحض هذا الاجتهاد، وكذلك ما يقال عن كرد دمشق، وهو أمر يتناوله الكرد في سوريا في منتهى الوعي، لأن وضع المواطن الكردي في منطقة الجزيرة أو كوباني أو عفرين، مختلف عن وضعه في المحافظات السورية الأخرى من حيث قدم علاقته بمناطق سكناه..!
أنظمة حكم البعث تقول: إن التعريب هو الهدف الأخير من المواطنة، ويرون أن التعريب هو وسام رفيع يعلق على صدر الكردي، واذا كانت الأمور بهذه السذاجة لكان الله سبحانه وتعالى خلق العالم جميعاً بلغة واحدة، كي يلفظ جميعهم إسمه الواحد… ما دام أنه خالفهم أجمعين…!!.
أما الإجراءات الاستثنائية التي اتخذت وتتخذ بحق الكرد، فيسوغها البعث العروبي الشوفيني تحت بند الهجرة إلى الأراضي السورية، وإن تباطؤ-السلطات في وضع حل لمسألة الإحصاء-وسواها، إنما يعود إلى تأنيها للتفريق بين الكرد الوافدين والكرد السوريين، فضلاً عن أن الإحصاء الاستثنائي قد تم في محافظة الحسكة -فقط- في العام 1962 والذي حرم آلاف العائلات الكردية من الجنسية وحقوق المواطنة، وذلك للاستيلاء على أراضيهم وإرغامهم على الهجرة إلى الداخل السوري، وليكونوا خدماً في أعمال هامشية لا تكفي لسد رمقهم، وإسكان عائلات من عرب الغمر في أراضيهم لزيادة العنصر العربي في الجزيرة، وقد مرت قرابة ست وخمسون عاماً على هذا الإحصاء المشؤوم دون أن يجد حلاً من الأنظمة المتعاقبة.
نظرة الشوفينيين الى الكرد في سوريا
إن مشكلة هذا النمط من العروبيين (بناء على نظرة ساستهم) ممن يتناولون القضية الكردية، تكمن في إنهم يرون أن الكرد غرباء عن وطنهم، دخلاء عليه، وأن أية مطالبة من قبلهم بالاعتراف بوجودهم تعتبر (في عرفهم) خيانة عظمى، وخروجاً عن عصا الطاعة…!. و يرون في أية علاقة للشعوب المتعايشة مع الكرد بالشعوب الأخرى – خارج خرائطهم – مسوّغة تماماً، و يستنكرون على الكردي مثل تلك العلاقات، دون أن يحققوا له كمختلف ذي خصوصية يعيش فوق أرضه..!.
ثمة معاناة عامة يعانيها الكردي في سوريا تتعلق بمسألة الديمقراطية والحريات، وهناك معاناة خاصة فهو محروم من أبسط حقوقه السياسية، والثقافية، ولعل الحركة الكردية صاغت مطالبها على نحو واقعي، ومن الممكن التفاوض معها مباشرة فهي لسان حال الكرد السوريين قاطبة.
وختاماً،
أثناء وبعد الانتفاضة حاول النظام تصوير الأحداث وكأنها صراع عربي ـ كردي، لكن الأمر لم يكن كذلك.. ولو إن محافظ الحسكة فرق الجمهور المذعور حول الملعب، بالحسنى، وواجههم برش المياه، أو الغازات المسيلة للدموع، بدل عما قام به ووعد وبمعاقبة من افتعل الفتنة -أياً كان- لما حدث كل ما حدث ولظل اسمه محفوراً في ذاكرة أبناء المحافظة.
أما تهمة رفع أحدهم في اليوم الثاني من الأحداث علم أمريكا ؟، فإن بعض المهرة في صناعة التهمة، صوروا الأمور وكأن موكب التشييع، برمته، سار تحت ظل العلم الامريكي وسوى ذلك من الاتهامات ذات المعيار الثقيل للتغطية على الجريمة، بغرض تمريرها، وصرف الانتباه عنها، إنها حقاً مهزلة!.
لا يمكن للكرد وخاصة أبناء قامشلو أن ينسوا من رشقوهم بالرصاص، دون أي ذنب اقترفوه، ليتكرر ذلك في اليوم التالي أثناء تشييع جنازات الشهداء، كي تضاف كوكبة جديدة إلى قافلة الشهداء، والاعتقالات التعسفية المهينة، وتعذيب الأطفال والنساء! عبر أساليب يندى لها الجبين.
ورغم ان الأحداث تسببت بخراب المؤسسات، فإن الخسارة الكبرى هي كوكبة الشهداء من الشباب الذين حرموا من ممارسة دورهم الوطني والإنساني، ناهيك عمن عذبوا بعد أن ألقي القبض عليهم دون ذنب اقترفوه، ومورس بحقهم أبشع أنواع التعذيب اللاإنساني.!.
لذلك في ذمة كل كاتب كردي، أن يواجه أبواق التضليل التي راحت تصور الكرد: مردة و مارقين و مجرمين و دعاة تمزيق خريطة الوطن ومسيئين إلى رايته، وداعين إلى راية أجنبية معادية.. إلخ..، وهي أكاذيب أطلقت زوراً، للتعتيم على الجرائم الفظيعة التي ارتكبت، كي يجد المدبر فتوى، في مثل هذا التزوير، لعله يستطيع أن يؤسس لمؤامرة أكبر…
إضاءات و توضيحات
– ما يثير للدهشة تقاطر جمهور الفريق الضيف منذ ساعات الصباح الأولى ليوم المباراة، ففي الساعة التاسعة والنصف تقريباً يتفاجأ أبناء المدينة بوصول موكب هائل، حيث مئات الدراجات النارية، والآليات بعضها مغطى بلافتات استفزازية، مثل: ما لنا غير اثنين، الفتوة وصدام حسين …، يجوبون شوارع المدينة، ولتتصدر اللافتة المكتوب عليها: الموت القادم من الشرق!، والتي ستنزع عن المركبة، كي تغرس في أرض الملعب، و إمعاناً في التحدّي أكثر ترديد عبارات مثل:
(بالرّوح بالدم نفديك يا…صدام….! ، بالقوّة بالزور تربح ديرالزور، .. وكيل الشتائم الطالباني..! و البارزاني..! ).
جمهور قامشلو أراد أن يلوذ بالفرار خارج الملعب، ووابل الحجارة يسقط فوق رؤوسهم، وأعمدة اللافتات سرعان ما تنفك عنها أقمشتها، فإذا بها قضبان حديدية، ترتفع و تهوي على الأجساد، ويظهر ملثّم يخرج مسدساً كاتماً للصوت ويطلق العيارات الناريّة على الحشد المضيف…!؟ عدد الجرحى وصل المئات، والدماء تسيل على ملابسهم، بل وتترك آثارها على أرض الملعب، والشرطة لم يفعلوا شيئاً ووقفوا متفرجين.
– بتكليف من رئيس تحرير صحيفة “المحرر العربي” نهاد الغادري قام الصحفي وليد الهبل بتقديم أسئلة إلى عدد من المهتمين بالشأن الكردي من سياسيين ومثقفين في سوريا ومنهم: عبدالحميد درويش، نصرالدين إبراهيم، نذير مصطفى، مشعل تمو، إبراهيم اليوسف، وآخرون.
وبعد الإجابة عن الأسئلة التي كانت ستنشر ضمن ريبورتاج كامل، اعتذر السيد الغادري عن نشرها، واستبدلت بها مواد مسيئة للكرد نشرت (نبيه البرجي مثالاً) على صفحات هذه الجريدة، وهذا دليل على حجم ديمقراطية هذا المنبر. والديمقراطية تلك تنطبق على عدد من الصحف العربية: الحياة، السفير، النهار، المستقبل.. حيث إن مثقفين كرد أرسلوا إلى هذه الصحف بآرائهم، وردودهم، ولكن، للأسف، لم تلتزم هذه الصحف بلعبة النشر، وهو ما يوضح بجلاء نمط الديمقراطية، والرأي والرأي الآخرعند هؤلاء..!.
– في الأيام التالية للانتفاضة نفذت عناصر الأجهزة الأمنية القمعية حملات انتقامية واعتقالات عشوائية للمواطنين من منازلهم، وتعرضوا للتعذيب بواسطة الصعقات الكهربائية، وتكسير الأصابع، والضرب على مختلف أنحاء الجسم بالكابلات، و لوحظ آثار التعذيب على أجسادهم بعد الإفراج عن بعض المعتقلين.
– في جامعة دمشق تم استدعاء 28 طالباً وطالبة للتحقيق معهم، وقد فصل الكثير منهم من الجامعة والسكن الجامعي، بحجة اشتراكهم في الأعمال المخلة بأنظمة الكليات والمدن الجامعية، والاشتراك في أعمال ذات طابع سياسي، وتوزيع النشرات، و وضع إعلانات هدفها النيل من جبهة الصمود والتصدي، وتدعوا الى اقتطاع جزء من الأراضي السورية.
– سليم كبول – محافظ الحسكة المجرم، وعقب زيارة بشار الأسد ظهر على شاشة التلفزيون، قائلاً: إن من عطاءات السيد الرئيس بناء سوق حرة في منطقة قامشلي، وسيستفيد منها 4000 مواطن، وستضع حداً للركود الاقتصادي، والبطالة… وللعلم لم ينفذ هذا المقترح.
– عدنان بوظو مقدم برنامج الرياضة في التلفزيون في نهاية السبعينيات وتحديداً في 1979م، قال عن جمهور مدينة قامشلو: إنه حضاري، وذوّاق، بل إن ريبوتاجه المتميز الذي استغرق فترة طويلة عن نادي الجهاد وجمهوره، عن صعود الجهاد من الدرجة الثانية إلى الأولى، عبّر فيه عن مثل هذا الإحساس -آنذاك- خير دليل على هذا الكلام، لدرجة أنه تعرض للمساءلة، إلى أن اضطرّ لإيقاف تلك الحلقات، بيد أنه أجابهم: لم أخترع شيئاً من نفسي، هذا هو الجهاد وجمهوره، اذهبوا إلى هناك بأنفسكم، لتروا كلّ شيء.
– إحدى الأمهات وهي تشيع جثمان ابنها إلى مثواه الأخير – وهو أحد شهداء اليوم الثاني – كانت تطيب خاطر من حولها من النسوة وتخفف عنهن ألم الصدمة، فكانت تقول لهن: أرجو أن يكون دم (جوان) مهراً لحرية الكرد وسلامهم.. اللهم احم شبابنا.
– وفد من الشيوعيين السوريين التقى في مكتب مدير المنطقة بقامشلو أولي الأمر من رجالات السلطة ممّن تركوا المحافظة وجاؤوا إلى “غرفة العمليات” هذه، فقالوا لهم: نحمّلكم أيها المسؤولون كامل المسؤولية، وأشاروا إلى سوء تصرّف المحافظ… هذه الغرفة التي سيوقع مسؤولو الحزب والأمن كافة فيها –ما يبدو– على الوثيقة المتسربة أنترنيتياً بإباحة قتل الكرد بتاريخ 12-3- 2004.
– تم استدعاء ممثلين عن الحركة الكرديّة: الاستاذ عبد الحميد درويش – نصر الدين إبراهيم – صالح كدو، وربما آخرون أيضاً، فدخل رئيس أحد الفروع الأمنية ليقول بتغطرس: أوعجبك يا أستاذ عبد الحميد ما فعلتموه؟…. ولقد كان عليه أن يصوغ سؤاله على نحو آخر: أعجبك ما فعلناه؟”.
فيما يلي بعضاً مما جاء في تقرير لجنة حقوق الانسان السورية:
– الممارسات الأمنية تجاه الكرد، خاصة في منطقة الجزيرة، تنطوي على تمييز في التعامل، تجلى لنا في شكوى الكثيرين، من توقيفهم من قبل عناصر أمنية أثناء الأحداث، وسؤالهم بشكل استفزازي، هل أنت كردي أم عربي؟ ثم الانهيال عليهم بالشتائم والإهانات، ومجموعة من الشبان التقيناهم، كانت تتساءل بمرارة، “بأي حق يسألوننا نحن كرد أم عرب، نحن سوريون وانتهى”.
– لم تلحظ اللجنة أي مظاهر عداء بين “الكرد والعرب” في جميع المناطق التي زارتها، وكان الجميع يؤكد أن هناك علاقات مصاهرة ونسب بين الطرفين، ولا توجد أية مشاعر حقد أو كره متبادل، والكثير من العائلات العربية، توافدت إلى منازل الضحايا لتعزية ذويهم. وفي القرى القريبة من مناطق “الغمر”، كان المزارعون يؤكدون، ليس بيننا وبين العرب أي مشاكل، جميعنا أبناء هذه الأرض، مشاكلنا مع “المغمورين” الذين ينعمون الآن بخيرات أرضنا!!
– طالب الشارع الكردي بتحقيق عاجل في مسألة إطلاق الرصاص الحي على المواطنين، و أكد بعضهم، “بدون أن نرى من تسبب بمقتل و جرح أبنائنا قيد المساءلة، لن تهدأ النفوس مهما اتخذ من إجراءات على سبيل التهدئة”.
– اشتكت عدد من الطالبات من معاملة مسؤولة الوحدة التي يقطنون فيها، مؤكدات بأنها قامت بتهديدهن والإساءة لهن قبل أن يتم تحويل الطالبات إلى التحقيق.
بعض نتائج وتوصيات اللجنة:
في تشرين الثاني 2003، أصدرت جمعية حقوق الإنسان في سوريا تقريراً حول أوضاع الكرد السوريين سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وقد جاء في الفقرة الخاصة بالنتائج والتوصيات من هذا التقرير:
– لم يعد من الممكن إغفال مشكلة كرد سورية، كأحد أشكال انتهاك حقوق الإنسان السوري، هذه المشكلة تتضمن: المجردين من الجنسية السورية، الحريات العامة، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الحقوق الثقافية الخاصة بالأقلية الكردية.
– محاسبة المسؤولين عن إطلاق الرصاص الحي أثناء الأحداث والذي أدى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى، والتحقق من استخدام الرصاص المتشظي الممنوع دولياً.
– يبقى أن حل المشكلة الكردية في سورية، لن يتم إلا بحل جذري يتناول جميع المطالب المشروعة للكرد، وإيجاد حل شامل لقضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان في سورية، بعيداً عن الحلول الأمنية التي لا تسفر إلا عن مزيد من التراكمات السلبية، لدى الشارع الكردي والعربي السوري.
* كاتب وباحث
تنويه:
عند قيام الانتفاضة عام 2004 كنت في الامارات، ولذلك اعتمدت في جزء من المقال على كتابات الأديب ابراهيم اليوسف، لأنه يعتبر برأيي أفضل من كتب عنها، وهو الذي عايش وشارك مع أولاده برصد وتوثيق جزء كبير من الانتفاضة.
————–
الحلقة الثالثة: حوارٌ مع جميل إبراهيم (رئيس لجنة محاميّ الدّفاع عن المعتقلين)