دهام حسن
تشكلت الثقافة الحديثة في المجتمع الغربي، في الفترة الممتدة ما بين أواسط القرن الخامس عشر، حتى مطلع القرن الثامن عشر، كما هو متعارف ومتداول بين الدارسين، حيث بدأ المفكرون خلال هذه المرحلة، باعتقادات جديدة محددة، بدؤوا أولا، بالوقوف على دراسة الإنسان كذات ــ أعرف نفسك ــ وعن رسالته في هذي الحياة، وعن سر الكون وكنهه..
وهذه كانت مهمة جديدة، كان أسلافهم لا يعيرونها أي بال، بل ربما لم يسمح لهم الخوض فيها ..
تشكلت الثقافة الحديثة في المجتمع الغربي، في الفترة الممتدة ما بين أواسط القرن الخامس عشر، حتى مطلع القرن الثامن عشر، كما هو متعارف ومتداول بين الدارسين، حيث بدأ المفكرون خلال هذه المرحلة، باعتقادات جديدة محددة، بدؤوا أولا، بالوقوف على دراسة الإنسان كذات ــ أعرف نفسك ــ وعن رسالته في هذي الحياة، وعن سر الكون وكنهه..
وهذه كانت مهمة جديدة، كان أسلافهم لا يعيرونها أي بال، بل ربما لم يسمح لهم الخوض فيها ..
إن من يغرف من الثقافة الغربية لا بد أن يقر بأهمية هذه الأفكار، وقوتها، وأثرها على الإنسان الراهن، تلك الثقافة التي شكلت العقل الغربي الحديث..
إن من أبرز سماته، هو التفكير بواقعية، أي دون الركون إلى الكسل الذهني، وإلى الخوارق والغيبيات، ذلك الواقع الذي ينطبع في مخيلة الإنسان بما يحمل، فيجتره العقل ويطرح تصوره بعد محاكمة تترجم بأفكار، لهذا وجدنا مفكرا كبيرا كماركس يقول لاحقا في القرن التاسع عشر: الواقع يحدد الفكر؛ أي أن الفكر انعكاس للواقع ولكن ليس بصورة فوتوغرافية…
يبدأ العصر الحديث، باتفاق غالبية الدارسين، من حوالي عام 1500م ولا بد هنا من التنبه: أن ليس هناك من قطيعة بين عصر وآخر، وليس هناك من فاصل زمني محدد بينهما، فما أنجز في عصر لاحق، جاء نتيجة تراكمات معرفية لقرون سابقة..
في العصر الحديث هذا، انصب الاهتمام على البحث في مختلف العلوم، وبها تقاطعت آراء أفكار هؤلاء المفكرين بالضد من آراء أسلافهم، فقد جاهد الحديثون لنبذ التقاليد القديمة المتهرئة، وعمدوا إلى فتح النوافذ لاستنشاق الهواء النقي الذي يهب من كل الجهات..
ففي عصر النهضة، جاء التمرد ضد السلطة، والدعوة إلى التعليم الجديد، والدعوة إلى حرية الفرد في اختياره لآرائه ومعتقداته..
لقد افتتن هؤلاء بثقافة الإغريق والرومان، لما تضمنت من نظام ومبادئ وقواعد محددة، لقد دأب ممثلو عصر النهضة من خلع نير أعباء العصر الوسيط، لاسيما جانبها السياسي والأخلاقي، وهنا لا بد من الإقرار، من أن تلك القرون، كانت قرون اختمار للأفكار والمفاهيم والمبادئ، التي ينعم بها ملايين البشر كالديمقراطية مثلا ..
وجاء العلم والاكتشافات الجديدة ليدشن واقعا جديدا للحياة الفكرية، وينعم بها الإنسان قبل أي شيء…
ترأس مارتن لوثر حركة إصلاحية، فقد قاد الشقاق البروتستانتي ضد أفكار الكنيسة، ودعا إلى العودة إلى اليسوع والكنيسة المسيحية الأولى، وأنكر على الرهبان اغتناءهم، وأبان افتقاد كثير من رجال الدين المسيحي إلى الورع، وأظهر فسادهم، وقد استحوذت دعوة الحركة على الجماهير، واندارت بعض الدول نحو البروتستانتية، وجاء اعتناق الطبقات الوسطى والصاعدة لها..
وقف البروتستانتيون إلى جانب الحرية الفردية، ومع الحكم الذاتي الديمقراطي، وقاموا بالهجوم على المؤسسات القائمة، كما قاوموا جور السلطة ودجلها، وأكدوا على حرية الفرد وحقوقه؛ وكل هذا النزوع يعد ثمرة تدخل في سلة البرجوازية الفتية التي بدأت بالنمو هي أيضا..
كما لم يعد الإنجيل الكريم حبيس صناديق الكهنة والرهبان والقساوسة، فقد تتالت طبعاته في مطلع القرن السادس عشر وقبله، وأصبح في متداول الجميع، وانكبوا على قراء ته، واجتهدوا بالتالي في تفسيره حسب قراءاتهم وقناعاتهم بعيدا عن الرأي الواحد الملزم للجميع…
يوسم عادة القرن السادس عشر بعصر العقل، أو بمرحلة العقلانية، ورغم أن كثيرين حاولوا التوفيق بين العقلانية وبين المسيحية كدين، غير أن مسار النزعة العقلانية، كانت تسير باتجاه مغاير، اتجاه الابتعاد عن المسيحية، لأن العقلانية تنكر خوارق الطبيعة، ولا تؤمن بوجود قوى خارقة، ولا الإيمان بالغيبيات؛ ويعد فرانسيس بيكون ( 1561- 1626 ) خير من يمثل العقلانية، وهو الباحث عن الصدق المطلق، وكان يبشر بالعلوم الطبيعية؛ وهو القائل إن الرغبة أبو الفكر ومصدره، وما يقترفه الكبار من أخطاء، تتمثل بالأخطاء النابعة من الطبيعة البشرية أي من عقل الإنسان، وبسبب إتباعه لهواه، وانحيازه للأخطاء التي تفرزها شخصية الإنسان، وما يراود دواخلنا، وأيضا، ما تسببه من تأثيرات أو ما نطلق عليه بلغة اليوم الدعاية والإعلان، أما، ما اعتاد عليه الناس من نسق تفكير حول الكون، هي أشبه بعالم مسرحي تمثيلي غير واقعي..
كما يعد رينيه ديكارت ( 1596ـ 1650) أحد الذين مهدوا الطريق أمام حركة التنوير، وهو صاحب شعار الشك المشهور يقول:( آثرت أن أطرح كل رأي عندي يتطرق إليها أدنى شك ) وكانت الكنيسة تصنفه ممن يقفون في صفوف أعدائها، ومن المفكرين العقلانيين لاسيما في حقل السياسة ” توماس هوبز” (1588ــ 1679) الذي رفض حق الملوك المقدس، ومن أفكاره أن الناس جميعا، ستتقارب وتجتمع، لتصوغ بالتالي رأيا عقدا، من شأنه أن يؤسس لسلطة تخيّم على الجميع، ويعد بينديكت سبينوزا (1632ــ1677) الذي طرده المحفل اليهودي بسبب آرائه الجريئة، من أكثر الداعين لنظرية الحق الطبيعي، حيث كان يعتبر الحرية ومساواة الجميع أمام القانون، والملكية وما إليها من الحقوق الطبيعية للإنسان لا تنتزع منه، فقد كان فيلسوفا ماديا ملحدا، كما كان متمردا روحيا بارعا ، وصاغ فلسفة أخروية، وجاء ميكيافلي مؤلف كتاب ” الأمير” برفض تام لأي شيء خارج الطبيعة، ونفى تدخل الله في شؤون العباد، ولم يعط بالا، بأن الله وراء النظام الأخلاقي..
إن القرن الثامن عشر هوعصر التنوير بامتياز ‘ لقد أثر تأثيرا كبيرا على العقيدة الدينية، بل ثمة من يقول: أنه غيرها كليا، فإذا كان القرن الثالث عشر، اقتصر على هيئة دينية واحدة، هي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فقد حمل القرن الثامن عشر مئات الطوائف الدينية، انتشرت في كافة أرجاء المجتمع الغربي، وظهر واقع جديد، يعلن فيه الإنسان عن إيمانه الصريح، أو عن إلحاده، دون خوف، أو مساء لة، وانتهت بهذا سطوة الكنيسة، وساد التسامح حيال الاختلافات الدينية، وتوّج بالطلب أخيرا، بالفصل بين الكنيسة والدولة؛ فهذا جيريمي بنتام (1748ــ1832) وهو أحد المتنورين ومن المؤمنين بالديمقراطية، والذين يعتبرون الحرية، ومساواة الجميع أمام القانون حقوق طبيعية ، أي المساواة السياسية وحتى الاجتماعية، لاسيما في ميدان الملكية، أي على شاكلة سبينوزا، وهذا جان جاك روسو، يشيد بحرية الإذعان للإرادة العامة، مقابل تضحية الإنسان بحياته الطبيعية، وأنانيته الفردية…
واصل العلم والتكنولوجيا، في القرن التاسع عشر تقدما مضطردا، اصطحب ذلك تقدم أخلاقي، وتطور سياسي، ففي منتصف القرن، تم تحرير العبيد في الولايات المتحدة، وفيما بعد في بريطانيا، كما تم إلغاء القنانة في روسيا عام 1861 ؛ حظي داروين بشهرة وتقدير كبيرين، رغم بحثه عن كيفية انتقال الإنسان من حالة القطيع البدائية، بتكوينه العضوي الشبيه بالحيواني، ثم كيف ارتقى إلى إنسان اجتماعي… كما شهد هذا القرن نمو وازدهار النزعة القومية، فمنهم من تهجم على التعصب القومي الذي قسم العالم، ومنهم من تحدث عن تفاوت الناس في انتمائهم العرقي دفاعا عن عصبيته العرقية؛ فقد جاءت النزعة القومية نتاج إرهاصات قرون عديدة، فارتدت ثوبا من العصبية، حيث شعرت القوميات المقهورة، والجماعات الصغيرة، بأنها تعامل بأدنى من سواها من الجماعات الأخرى….
في مطلع القرن التاسع عشر شاعت تسمية اليمين واليسار، وتعود هذه التسمية إلى المحافظين الذين شكلوا فريقا داخل البرلمان الفرنسي، وأخذوا أمكنتهم على يمين رئيس البرلمان، في حين جلس الإصلاحيون والراديكاليون على يساره..
لقد كان اليساريون يبغون دفع عجلة الحركة إلى الأمام، استنارة بمبادئ الثورة الفرنسية عام 1789،( حرية، إخاء، مساواة ) وقبلها بمبادئ الثورة الأمريكية في عام 1776، في حين أن اليمين، كان ينشد اتجاها أقل ديمقراطية، وبينهم من برزوا ينادون بالحرية والمساواة، وأنكروا الخوارق والغيبيات، ورفضوا التقسيم الطبقي، ووثقوا بالتقدم، وأبدى منهم كراهية حيال التقاليد والتراث..
في هذا القرن ظهرت الماركسية ببصمتها الواضحة على صفحات القرن التاسع عشر، وشاعت عبارة الصراع الطبقي، وحتمية الثورة العالمية للبروليتاريا، وصولا إلى المجتمع اللاطبقي، كان ماركس(1818ــ1883) مؤسس النظرية الماركسية.
كان أخلاقيا، يكره فظاظة المجتمع الصناعي…..
أخيرا ..
إن كثيرا من تلك المعتقدات، تفتقد اليوم الغنى المعرفي، والعمق الفكري، ويبدو أنها عجزت عن حل بعض مشكلات الإنسان، ولو أن الديمقراطية والاشتراكية، تمنحانه بعض العزاء؛ لكن كانت أصوات صارخة بالأمس تنادي، وها هي باقية إلى اليوم، ما زالت تنادي السياسيين، تنادي السلطويين قائلة : ( وفروا المسكن والطعام، وإلا فأخرسوا..!) فعذابات البشر هي، هي …؟
إن من أبرز سماته، هو التفكير بواقعية، أي دون الركون إلى الكسل الذهني، وإلى الخوارق والغيبيات، ذلك الواقع الذي ينطبع في مخيلة الإنسان بما يحمل، فيجتره العقل ويطرح تصوره بعد محاكمة تترجم بأفكار، لهذا وجدنا مفكرا كبيرا كماركس يقول لاحقا في القرن التاسع عشر: الواقع يحدد الفكر؛ أي أن الفكر انعكاس للواقع ولكن ليس بصورة فوتوغرافية…
يبدأ العصر الحديث، باتفاق غالبية الدارسين، من حوالي عام 1500م ولا بد هنا من التنبه: أن ليس هناك من قطيعة بين عصر وآخر، وليس هناك من فاصل زمني محدد بينهما، فما أنجز في عصر لاحق، جاء نتيجة تراكمات معرفية لقرون سابقة..
في العصر الحديث هذا، انصب الاهتمام على البحث في مختلف العلوم، وبها تقاطعت آراء أفكار هؤلاء المفكرين بالضد من آراء أسلافهم، فقد جاهد الحديثون لنبذ التقاليد القديمة المتهرئة، وعمدوا إلى فتح النوافذ لاستنشاق الهواء النقي الذي يهب من كل الجهات..
ففي عصر النهضة، جاء التمرد ضد السلطة، والدعوة إلى التعليم الجديد، والدعوة إلى حرية الفرد في اختياره لآرائه ومعتقداته..
لقد افتتن هؤلاء بثقافة الإغريق والرومان، لما تضمنت من نظام ومبادئ وقواعد محددة، لقد دأب ممثلو عصر النهضة من خلع نير أعباء العصر الوسيط، لاسيما جانبها السياسي والأخلاقي، وهنا لا بد من الإقرار، من أن تلك القرون، كانت قرون اختمار للأفكار والمفاهيم والمبادئ، التي ينعم بها ملايين البشر كالديمقراطية مثلا ..
وجاء العلم والاكتشافات الجديدة ليدشن واقعا جديدا للحياة الفكرية، وينعم بها الإنسان قبل أي شيء…
ترأس مارتن لوثر حركة إصلاحية، فقد قاد الشقاق البروتستانتي ضد أفكار الكنيسة، ودعا إلى العودة إلى اليسوع والكنيسة المسيحية الأولى، وأنكر على الرهبان اغتناءهم، وأبان افتقاد كثير من رجال الدين المسيحي إلى الورع، وأظهر فسادهم، وقد استحوذت دعوة الحركة على الجماهير، واندارت بعض الدول نحو البروتستانتية، وجاء اعتناق الطبقات الوسطى والصاعدة لها..
وقف البروتستانتيون إلى جانب الحرية الفردية، ومع الحكم الذاتي الديمقراطي، وقاموا بالهجوم على المؤسسات القائمة، كما قاوموا جور السلطة ودجلها، وأكدوا على حرية الفرد وحقوقه؛ وكل هذا النزوع يعد ثمرة تدخل في سلة البرجوازية الفتية التي بدأت بالنمو هي أيضا..
كما لم يعد الإنجيل الكريم حبيس صناديق الكهنة والرهبان والقساوسة، فقد تتالت طبعاته في مطلع القرن السادس عشر وقبله، وأصبح في متداول الجميع، وانكبوا على قراء ته، واجتهدوا بالتالي في تفسيره حسب قراءاتهم وقناعاتهم بعيدا عن الرأي الواحد الملزم للجميع…
يوسم عادة القرن السادس عشر بعصر العقل، أو بمرحلة العقلانية، ورغم أن كثيرين حاولوا التوفيق بين العقلانية وبين المسيحية كدين، غير أن مسار النزعة العقلانية، كانت تسير باتجاه مغاير، اتجاه الابتعاد عن المسيحية، لأن العقلانية تنكر خوارق الطبيعة، ولا تؤمن بوجود قوى خارقة، ولا الإيمان بالغيبيات؛ ويعد فرانسيس بيكون ( 1561- 1626 ) خير من يمثل العقلانية، وهو الباحث عن الصدق المطلق، وكان يبشر بالعلوم الطبيعية؛ وهو القائل إن الرغبة أبو الفكر ومصدره، وما يقترفه الكبار من أخطاء، تتمثل بالأخطاء النابعة من الطبيعة البشرية أي من عقل الإنسان، وبسبب إتباعه لهواه، وانحيازه للأخطاء التي تفرزها شخصية الإنسان، وما يراود دواخلنا، وأيضا، ما تسببه من تأثيرات أو ما نطلق عليه بلغة اليوم الدعاية والإعلان، أما، ما اعتاد عليه الناس من نسق تفكير حول الكون، هي أشبه بعالم مسرحي تمثيلي غير واقعي..
كما يعد رينيه ديكارت ( 1596ـ 1650) أحد الذين مهدوا الطريق أمام حركة التنوير، وهو صاحب شعار الشك المشهور يقول:( آثرت أن أطرح كل رأي عندي يتطرق إليها أدنى شك ) وكانت الكنيسة تصنفه ممن يقفون في صفوف أعدائها، ومن المفكرين العقلانيين لاسيما في حقل السياسة ” توماس هوبز” (1588ــ 1679) الذي رفض حق الملوك المقدس، ومن أفكاره أن الناس جميعا، ستتقارب وتجتمع، لتصوغ بالتالي رأيا عقدا، من شأنه أن يؤسس لسلطة تخيّم على الجميع، ويعد بينديكت سبينوزا (1632ــ1677) الذي طرده المحفل اليهودي بسبب آرائه الجريئة، من أكثر الداعين لنظرية الحق الطبيعي، حيث كان يعتبر الحرية ومساواة الجميع أمام القانون، والملكية وما إليها من الحقوق الطبيعية للإنسان لا تنتزع منه، فقد كان فيلسوفا ماديا ملحدا، كما كان متمردا روحيا بارعا ، وصاغ فلسفة أخروية، وجاء ميكيافلي مؤلف كتاب ” الأمير” برفض تام لأي شيء خارج الطبيعة، ونفى تدخل الله في شؤون العباد، ولم يعط بالا، بأن الله وراء النظام الأخلاقي..
إن القرن الثامن عشر هوعصر التنوير بامتياز ‘ لقد أثر تأثيرا كبيرا على العقيدة الدينية، بل ثمة من يقول: أنه غيرها كليا، فإذا كان القرن الثالث عشر، اقتصر على هيئة دينية واحدة، هي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فقد حمل القرن الثامن عشر مئات الطوائف الدينية، انتشرت في كافة أرجاء المجتمع الغربي، وظهر واقع جديد، يعلن فيه الإنسان عن إيمانه الصريح، أو عن إلحاده، دون خوف، أو مساء لة، وانتهت بهذا سطوة الكنيسة، وساد التسامح حيال الاختلافات الدينية، وتوّج بالطلب أخيرا، بالفصل بين الكنيسة والدولة؛ فهذا جيريمي بنتام (1748ــ1832) وهو أحد المتنورين ومن المؤمنين بالديمقراطية، والذين يعتبرون الحرية، ومساواة الجميع أمام القانون حقوق طبيعية ، أي المساواة السياسية وحتى الاجتماعية، لاسيما في ميدان الملكية، أي على شاكلة سبينوزا، وهذا جان جاك روسو، يشيد بحرية الإذعان للإرادة العامة، مقابل تضحية الإنسان بحياته الطبيعية، وأنانيته الفردية…
واصل العلم والتكنولوجيا، في القرن التاسع عشر تقدما مضطردا، اصطحب ذلك تقدم أخلاقي، وتطور سياسي، ففي منتصف القرن، تم تحرير العبيد في الولايات المتحدة، وفيما بعد في بريطانيا، كما تم إلغاء القنانة في روسيا عام 1861 ؛ حظي داروين بشهرة وتقدير كبيرين، رغم بحثه عن كيفية انتقال الإنسان من حالة القطيع البدائية، بتكوينه العضوي الشبيه بالحيواني، ثم كيف ارتقى إلى إنسان اجتماعي… كما شهد هذا القرن نمو وازدهار النزعة القومية، فمنهم من تهجم على التعصب القومي الذي قسم العالم، ومنهم من تحدث عن تفاوت الناس في انتمائهم العرقي دفاعا عن عصبيته العرقية؛ فقد جاءت النزعة القومية نتاج إرهاصات قرون عديدة، فارتدت ثوبا من العصبية، حيث شعرت القوميات المقهورة، والجماعات الصغيرة، بأنها تعامل بأدنى من سواها من الجماعات الأخرى….
في مطلع القرن التاسع عشر شاعت تسمية اليمين واليسار، وتعود هذه التسمية إلى المحافظين الذين شكلوا فريقا داخل البرلمان الفرنسي، وأخذوا أمكنتهم على يمين رئيس البرلمان، في حين جلس الإصلاحيون والراديكاليون على يساره..
لقد كان اليساريون يبغون دفع عجلة الحركة إلى الأمام، استنارة بمبادئ الثورة الفرنسية عام 1789،( حرية، إخاء، مساواة ) وقبلها بمبادئ الثورة الأمريكية في عام 1776، في حين أن اليمين، كان ينشد اتجاها أقل ديمقراطية، وبينهم من برزوا ينادون بالحرية والمساواة، وأنكروا الخوارق والغيبيات، ورفضوا التقسيم الطبقي، ووثقوا بالتقدم، وأبدى منهم كراهية حيال التقاليد والتراث..
في هذا القرن ظهرت الماركسية ببصمتها الواضحة على صفحات القرن التاسع عشر، وشاعت عبارة الصراع الطبقي، وحتمية الثورة العالمية للبروليتاريا، وصولا إلى المجتمع اللاطبقي، كان ماركس(1818ــ1883) مؤسس النظرية الماركسية.
كان أخلاقيا، يكره فظاظة المجتمع الصناعي…..
أخيرا ..
إن كثيرا من تلك المعتقدات، تفتقد اليوم الغنى المعرفي، والعمق الفكري، ويبدو أنها عجزت عن حل بعض مشكلات الإنسان، ولو أن الديمقراطية والاشتراكية، تمنحانه بعض العزاء؛ لكن كانت أصوات صارخة بالأمس تنادي، وها هي باقية إلى اليوم، ما زالت تنادي السياسيين، تنادي السلطويين قائلة : ( وفروا المسكن والطعام، وإلا فأخرسوا..!) فعذابات البشر هي، هي …؟