من دفتر يومياتي: عندما واجهنا تبعات نكسة ثورة أيلول

صلاح بدرالدين
من الاهداف الرئيسية لثورة أيلول ١٩٦١ في كردستان العراق بقيادة الزعيم الراحل مصطفى بارزاني ( الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان) وبمعنى أوضح ربطت حل القضية الكردية بصيغة الحكم الذاتي كنوع من اشكال حق تقرير المصير، بتحقيق الديموقراطية لكل العراق، والاتيان بنظام سياسي يختاره العراقييون بجميع قومياتهم، واطيافهم الاجتماعية، وفي الوقت ذاته شكلت انعطافة في القضية الكردية بالمنطقة، والعالم، فبعد تقسيم كردستان التاريخية بعد اتفاقية سايكس – بيكو ثم فشل الانتفاضات، والثورات المسلحة في كردستان تركيا وسقوط جمهورية مهاباد بكردستان ايران، وفشل الثورات والانتفاضات في كردستان تركيا، شهدت القضية الكردية نوعا من الركود، والجمود، الا ان اندلعت ثورة أيلول ( ١٩٦١ – ١٩٧٥) التي اعادت القضية مرة أخرى الى موقعها الطبيعي كحركة تحرر لشعب قوامه الملايين، حرم من حقه بتقرير المصير هذا المبدأ المنصوص عليه في شرعة حقوق الانسان، ومبادئ (عصبة الأمم ثم هيئة الأمم المتحدة)، واستبعد بقرار عالمي من كل الفرص والاستحقاقات، والترسيمات الحدودية الجديدة مابعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث نالت العشرات من شعوب آسيا وافريقيا، وأوروبا خصوصا الاستقلال .
مرة أخرى لعب العامل الخارجي الدور الأبرز في انهيار ثورة أيلول بعد ماسميت باتفاقية الجزائر عام ١٩٧٥ بين الدكتاتور صدام حسين، والشاه الإيراني المستبد محمد رضا بهلوي، بوساطة مباشرة من دكتاتور الجزائر هواري بومدين، وكانت بمثابة نكسة اليمة للحركة القومية في كردستان العراق، وصدمة مؤثرة لجميع اكراد العالم، حدثت امام انظار المجتمع الدولي، ويقال بتواطؤ دولي من الغرب والشرق، ولاشك ان – الاتحاد السوفييتي – السابق تتحمل قسطا كبيرا من مسؤولية سقوط جمهورية مهاباد عام ١٩٤٦ بعد احدى عشر شهرا من إعلانها، بعد مساومته مع الحلفاء بمؤتمري – يالطا  وطهران -، كما ان الولايات المتحدة الامريكية مسؤولة عن النكسة الثانية بعد مهاباد بكردستان العراق حيث كان نظام شاه ايران تابعا مطيعا لها.
بعد انهيار ثورة أيلول،  وتوجه معظم المسؤولين السياسيين، والعسكريين نحو ايران – البوابة الخارجية الوحيدة المفتوحة – وقسم آخر استسلم لنظام بغداد، بدا اعلام الأنظمة المعادية للكرد ببث، وعرض الاخبار، والمناظر المذلة والمثيرة، والاعلان عن انتهاء ( التمرد، واستسلام الجيب العميل، والقضاء على الحلم الكردي، وانتهاء القضية الكردية …) الى ماهنالك من الدعايات المبالغ فيها، والاضاليل بهدف نشر الياس بين الكرد، والقضاء على أي امل مهما كان ضئيلا .
وقد كان اعلام نظام الأسد البعثي مشاركا في – الفرحة – ومستبشرا بنتائج ما حصل لثورة أيلول، بل انه اعتبر الفرصة مواتية لاتخاذ خطوات – امنية – باتجاهين : واحد باستيعاب حركات وأحزاب كردستانية لاستخدامها لخدمة مصالحه، ثاني: اختراق وتصفية أحزاب كردية سورية، للقضاء على النضال القومي – الوطني .
الرد الثقافي والسياسي والاعلامي 
وحينذاك وخلال تواجدنا في لبنان شعرنا بمرارة من وقع هذا الحدث المؤلم، وبدانا بحملة إعلامية واسعة ردا على دعايات الأنظمة المعادية للكرد، وتنوير الأصدقاء اللبنانيين، والفلسطينيين، والعرب عامة، بمجريات الحدث، والأسباب والعوامل الداخلية، والخارجية التي أدت الى ذلك، وان ماحصل ليس نهاية الكرد والقضية الكردية بل نكسة اليمة تحتاج الى مراجعة وتقييم، حيث الكثير من الشعوب المناضلة تواجه مثل ذلك في تاريخها.
وكانت ولادة “رابطة كاوا للثقافة الكردية ” ونشرها لمجموعة من الكتب باللغة العربية وحول كردستان العراق بالذات، والزعيم الراحل البارزاني، باكورة الرد على النكسة حسب مفهومنا كطرف سياسي كردي سوري، وبعد عودة الأخوة ادريس، ومسعود بارزاني وصحبهما من واشنطن الى ايران بعد عام ١٩٧٩ارسلنا لهم من بيروت رزمة من كتب الرابطة، وقد اخبرني الأخ مسعود فيما بعد وفي اللقاء الأول معه بمكتبه بمصيف صلاح الدين انهم اسعدوا وازدادوا املا بعد النكسة عندما استلموا كتب الرابطة المنشورة في لبنان وبلدان أخرى.
تهيئة شروط الرد العملي على النكسة 
كان الموضوع حسب فهمنا مصيري ولابد من التصدي له، والاجابة على الكثير من الأسئلة، وان الرد لم يقتصر على تحرك (حزبنا)، فقد تقرر في مؤسساتنا القيادية (اللجنة المركزية – المكتب السياسي – رئاسة الحزب) وبعد دراسة بالعمق من كافة الجوانب توفير شروط موضوعية في جانبين الأول – البحث في الساحة الكردستانية عن تنظيمات، ومجموعات، وشخصيات تشاطرنا الراي في القيام بمحاولة سياسية للتخفيف من وقع الهزيمة الكارثية، ومداواة الجراح حسب المستطاع، والثاني : اللجوء الى أصدقاء لتامين الدعم في تحركنا اللوجستي، وبعد متابعة دامت نحو عام تحقق مبتغانا في الخطوة الأولية.
فقد قدم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات الدعم المطلوب لتغطية  النشاطات، والتحركات في محاولة إعادة احياء الحركة الكردية بعد نكسة عام ١٩٧٥ من جانب الأحزاب التالية : حزب الاتحاد الشعبي ( سوريا) – الحزب الطليعي لعمال كردستان – حزب الراحل عمر جتن  ( تركيا) حركة كوك دارا بيلك ( تركيا ) – الحزب الاشتراكي الكردستاني د محمود عثمان وعدنان المفتي ( العراق) – حركة باسوك – آزاد مصطفى (العراق) حزب استقلال كردستان اميري قازي ( ايران )، واستطاع ممثلو هذه الأطراف ان يعقدوا  العديد من اللقاءات الموسعة في بون، وايزرلون، بألمانيا الاتحادية، وبرلين، ودريسدن، بألمانيا الديموقراطية سابقا، وبراغ، وكوبنهاغن، وستوكهولم، وتوصلت هذه الأطراف الى صيغة توافقية في برنامج العمل القومي على قاعدة التحالف الجبهوي في اطار ( الجبهة الكردستانية الديموقراطية )، والعمل على مراجعة النكسة الأليمة بتقييم نقدي موضوعي، والتواصل مع الأخ مسعود بارزاني، والقادة الكرد العر اقيين الاخرين، بهدف  مواساتهم في محنتهم، والتشاور حول كيفية إيجاد حلول للازمة، ومواصلة العمل على توسيع هذه الجبهة لتضم سائر الأطراف، والاطياف، وقد تواصلنا بعد ذلك مع مختلف القوى الصديقة بالمنطقة باسم – جبهتنا – الناشئة.
وفي السياق ذاته  رتبت لقاء مطولا في برلين (عاصمة المانيا الديموقراطية – سابقا ) مع  الرئيس الراحل ياسر عرفات وكنا ( د محمود عثمان، وعدنان مفتي،  وكاتب هذه السطور  )، اكد فيه عرفات مجددا عن دعمه واسناده لمساعينا الانقاذية، ووقوفه الى جانب القضية العادلة للشعب الكردي .
 لم يمضي وقت طويل على النكسة حتى اندلعت ثورة – كولان – في كردستان العراق وجرت تطورات متسارعة في الساحة الكردستانية كان من نتائجها عودة ( الأحزاب الكبيرة الى صدارة المشهد ) الحزب الديموقراطي الكردستاني – العراق – الاتحاد الوطني الكردستاني – العراق – حزبي ديموقراطي كوردستاني ايران – حزب العمال الكردستاني – تركيا، وفي تلك المعمعة بدات هذه الأحزاب تدخل في تحالفات إقليمية غير متكافئة، وصراعات داخلية دامية كردية كردية، ولم تعد تبالي بما صدر من – جبهتنا – الأحزاب الصغيرة – من مشروع كردستاني ديموقراطي من اجل التعاون، والعمل المشترك، والحوار السلمي البناء، والحذر من العلاقة مع الأنظمة المقسمة للكرد، وصولا الى ترتيب معين للعلاقات القومية على أساس احترام الخصوصيات، وتحريم العنف، وعدم التدخل بشؤون البعض الاخر، وقد استطعنا في تلك السنوات الصعبة تقديم نموذج متقدم ومفيد كبديل للكارثة، وطرح مشروع برنامج سياسي، ولكننا للأسف لم ننجح في مواصلة المساعي لتحقيق الأهداف النهائية التي كنا نصبو اليها .
ستبقى تلك المحاولة الصادقة صفحة ناصعة في تاريخ الحركة التحررية الكردية، التي جسدت التعبير المسؤول في الإجابة على النكسة الأليمة، والعمل القومي الجماعي الديموقراطي، بدعم حركة تحرر وطني، بعيدا عن الأنظمة الشوفينية الغاصبة للحقوق التاريخية .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…