ما زالت منطقة الشرق الأوسط تتربع على عرش الأزمات والصراعات والحروب دون منازع، نظراً لاحتلالها موقعاً جيو- سياسياً مهماً، وامتلاكها لمصادر الطاقة الضرورية، وممرات مائية هامة، والصراعات عليها تتوسع شاملةً الجوانب السياسية والاقتصادية والدينية وحتى التاريخية والحضارية، وأصبحت ساحةً مفتوحة بين القوى الدولية والاقليمية، وبدأ شكل الصراع يتحول يوماً بعد يوم إلى صراع وجودي واستراتيجي بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، حيث ترمي تلك القوى بثقلها في هذا الصراع الحيوي الهام، والأوضاع تزداد تأزماً وتعقيداً، والنزاعات تزداد تفاقماً، وسوف تتوسع دائرة الحروب في المستقبل بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأمريكية المقبلة، وسط انسداد الآفاق بشكل شبه كامل أمام أزماتها لدرجة يصعب معها معرفة أو حتى تقدير الوجهة التي ستتخذها الأحداث، أو المآلات التي ستنتهي إليها مستقبلاً، نتيجة تشابك ملفاتها مع ملفات بؤر التوتر الأخرى وكذلك تركيبة دولها الغير متجانسة لأن خرائط دول منطقتنا تم فرضها ورسمها من قبل الدول الاستعمارية التي كسبت الحرب العالمية الأولى ورغماً عن إرادة شعوبنا، وبقاء قضايا غالبية شعوب هذه المنطقة وفي مقدمتها قضية شعبنا الكوردي دون حلول سياسية حقيقية نتيجة سيطرة الأنظمة الدكتاتورية بعد الخروج العسكري للاستعمار.
واليوم هناك عوامل جديدة أضيفت لتلك التي جعلت المنطقة برمتها في حالة عدم استقرار تتمثل في الصراعات الدولية والاقليمية على طرق التجارة القادمة من الصين والهند، وكذلك خطوط الغاز ومساراتها البرية والبحرية، الأمر الذي أدى إلى بروز اصطفافات جديدة قد تؤدي إلى ظهور تحالفات من شأنها الدفع باتجاه نشوء منظومات أمنية جديدة تتناسب مع المنظومة الجديدة للتجارة والعلاقات الاقتصادية وحصة كل طرف، وبالتالي نلاحظ اندفاعاً وتزاحماً كبيراً من جانب اللاعبين على الساحة الشرق أوسطية.
والزيارة التي قام بها الرئيس التركي إلى بغداد وهولير لا يمكن فصلها عن ما يجري في من تحولات كبيرة في عموم المنطقة وظهور تحالفات وشراكات جديدة، هذه الزيارة الهامة التي انقسم الشارع الحزبي الكوردي بشأن تقييمها، حيث كانت غالبية التحليلات بعيدة عن حقيقة ما يجري. ومن الأهمية بمكان التذكير بأن القيادة التركية تعتمد البراغماتية في كل تحركاتها، وأن تركيا كدولة لها ثقلها الاقليمي المعروف ، وأن مصالحها هي التي تشكل الدافع الأساسي لأي تحرك مثلها مثل كل الدول.
لكن بالنسبة لنا ككورد سوريا يجب أن نولي مصالح شعبنا في كوردستان سوريا وخصوصيتنا السورية الاهتمام والمتابعة. وبدون شك أن أية علاقة بين طرفين أو أكثر ستنعكس في حقول المصالح المشتركة لتلك الأطراف وكلا حسب حجمه ووزنه ودوره، ولكن هذه الزيارة ستشكل بداية تحول في العلاقات بين الطرفين وخاصة بعد البرود الذي شاب تلك العلاقات عقب عملية الاستفتاء التاريخي التي أنجزت في كوردستان في أيلول 2017 ، وأن الزيارة كانت دليلاً قاطعاً بأن اقليم كوردستان بات يشكل طرفاً مهماً ومؤثراً لا يمكن تجاوزه في المعادلة السياسية الاقليمية ولا يمكن تجاهله. ومن جهة أخرى لا يمكن النظر إلى الزيارة بالقفز على اللوحة السياسية الداخلية في تركيا التي بدأت تشهد تحولاً وخاصةً بعد الانتخابات البلدية التي أدت إلى تقدم المعارضة وتراجع واضح للحزب الحاكم، والملفات الاقتصادية والأمنية وخاصةً الصراع بين حزب العمال الكوردستاني التركي والجيش التركي، والمنافسة بين الثلاثي الاقليمي المتنافس والمثمثل بـ تركيا وإيران واسرائيل على مستقبل المنطقة.
وكل بؤر الصراع في المنطقة (الأزمة السورية، سلاح حزب الله في لبنان، الحرب في اليمن، الخلافات السياسية وحكومة الميليشيات الولائية في العراق، داعش والنصرة ..إلخ) مازالت قائمة تشبه البراكين النشطة، وليست هناك أية بوادر لإيجاد حلول واقعية – حقيقية لها، بمعنى أن الفوضى هي الفاعلة وهي التي تقضم كل يوم أجزاء جديدة من جغرافية المنطقة.
وسوريا تقع في قلب هذه الفوضى، ولا توجد مساحة آمنة ومستقرة على كامل جغرافية سوريا كما أكد ذلك المبعوث الأممي الخاص بسوريا ” غير بيدرسون ” في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي، حيث الأزمة مازالت قائمة، والاحتقان في تزايد، ونزيف الهجرة مستمر ويشكل الشغل الشاغل لمن بقي قابضاً على روحه في داخل الوطن، والأوضاع المعيشية تزداد صعوبة، وتستمر حالة الفلتان الأمني، والانتهاكات في ظل حكم الميليشيات وسلطات الأمر الواقع المختلفة في حالة تزايد، والانقسام الميداني والمجتمعي يزداد عمقاً يوماً بعد آخر، في ظل غياب تام لأية مبادرة عملية لإيجاد حل سياسي واقعي للأزمة. والمؤسف أن ما يجري من تحركات وتحشدات تنذر بوجود مؤشرات قوية على أن الأيام القادمة قد تشهد صداماً بين العديد من الفرقاء في الميدان السوري حيث يحشد النظام وبمساعدة الروس مئات المقاتلين من الحرس الجمهوري ويرسلهم إلى قواعده ومعسكراته في محافظة السويداء ومحيطها تمهيداً لعملية عسكرية محتملة ضد الحراك السلمي في السويداء، وكذلك ما يجري في دير الزور من مناوشات مسلحة بين قوات سوريا الديمقراطية ومسلحي العشائر العربية المدعومة من النظام، وظهور نشاط غير مسبوق لخلايا تنظيم داعش الإرهابي في تلك المنطقة، وكذلك احتمال حصول صدام مسلح جزئي بين الميليشات الولائية الايرانية وبين قوات النظام بالقرب من الحدود السورية – العراقية وخاصةً بعد سلسلة الاغتيالات التي طالت قيادات إيرانية في سوريا، واستنفار ميليشيا حزب الله اللبناني في أرياف حمص …إلخ، كلها مؤشرات تدل على استمرار العنف ودوام الفوضى وغياب الاستقرار.
والواقع الكوردي السوري هو جزء من الواقع السوري العام بكل تفاصيله، حيث الأوضاع المعيشية تزداد سوءا، وحالة التفرد والاستئثار بكامل مفاصل المجتمع من جانب محور واحد، وغياب أية نية لدى الجهة التي تشكل سلطة الأمر الواقع فيها بتغيير الأوضاع نحو الأفضل، أو القبول بشراكة حقيقية لبقية القوى والأحزاب في إدارة شؤون المنطقة، ودوام حالة غياب الثقة بين الشعب والإدارة القائمة نتيجة عمليات خطف القصر وحرق مقرات الأحزاب …إلخ. وفشل الإدارة القائمة والأحزاب المعارضة لها من إنجاز أي مكسب قانوني – سياسي حتى اللحظة لا مع النظام ولا حتى مع المعارضة، وبالتالي كل الاحتمالات تبقى قائمة لجهة حدوث صدامات مسلحة بين الأطراف الحاملة للسلاح وتكرار المآسي إذا حصل أي تغيير في التموضعات العسكرية للمتدخلين في الميدان السوري. وبالتالي الشعب الكوردي حاله حال كل السوريين لجهة فقدانه المبادرة كون غالبية قواه السياسية موزعة على المحاور الكوردستانية لدرجة الاندماج !. تكاد تنسى قضيتها الأساسية لصالح الصراعات الخارجية بين تلك المحاور، مما يستوجب على النخب الواعية لشعبنا الكوردي من داخل التنظيمات وخارجها التحرك وتحمل مسؤولياتها وعدم الانتظار والعمل على إقامة وتنظيم ورشات لجمع أفكار وتصورات لتقييم ما حصل وما نحن فيه، والتوصل إلى رؤية من شأنها المساهمة في رسم مسار للخروج من الحالة الكارثية التي يعيشها الحراك الحزبي الكوردي في سوريا.
في الـ 2 من أيار 2024
المكتب التنفيذي
لـحركة البناء الديمقراطي الكوردستاني – سوريا