إبراهيم محمود
المسافة بين الميْت والحي، أن الميت يعيش موته دون انقطاع، بينما الحي فيعيش حياته والموت داخله، بنسبة يختلف فيها البشر، بين فائض بالحياة، ومعدوم الحياة، وهو حي هيكلاً.
العيد من العَود الأبدي. يقال أن الميت يرى معايديه . كل جسمه عيون، لهذا لا يستطيع النطق. بينما معايده فهو يمضي إليه ، إما ليُعْلمه أنه سيكون بجواره، مثله ذات يوم، أو ليظهر أنه حي، وليس لإشعار الميت أنه يحمل احتراماً له.. إنها المسافة الأكثر صعوبة في القياس.
هنا، توقيراً لمحتوى العيد، أنا واقف بخشوع بجوار شاهدتي والديّ.. أنا بكامل يقيني أنهما يرياني. حسنٌ. إنني لا أشعر بهما فقط، إنما يمدني شعوري بأن ثمة حياة من خلالهما وغيرهما. بجوارهم الأهل، بجوار جوارهم الأحبة، الأصدقاء، المعارف.. وهكذا..
الذين رحلوا قبل حِقب زمنية، الذين رحلوا قبل عقود زمنية، الذين رحلوا قبل سنوات عدة، الذين رحلوا في الأمس القريب. يعيشون عمراً واحداً، حيث لا يعود حساب السنين لهم بذي قيمة. وحده من يتذكرهم، من يضفي على كل تذكّر علامة قرْب معينة، يعترف بأنه يعيش معه، وربما يعيش الحي هنا معه، ليشعِر ميْته هذا أنه مقيم في صميم روحه، فالحياة تتجاوز حدود الموت.
للموتى شئونهم ومشاغلهم وأعمالهم التي تسمّيهم، لتكون قبورهم ذات المساحة الواحدة تحت الثرى، متباينة، تبعاً لحصاد ما عملته روحه في كامل قواه، وليس كما يزعم حملة الشعارات.
لا شأن للعيد بكل ما يميّزهم عن بعضهم بعضاً، إنما بما يتمثل في رصيده وله تاريخ شاهد عليه.
ما أكثر الذين حضرت دفنهم: أهلاً، أقارب، أصدقاء، معارف، رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً. ما أكثر الذين عايشت مشهد دفنهم عن بعد، بخيال وجداني، وكتبت ما كتبت. يا لتنوع مقاماتهم، يا لتباين درجات النور التي تشير إلى طرقهم التي سلكوها وتعرَف بهم. سلام لهم، عليهم، بهم، حيث أشعر بوجودهم كما لو أنهم يرونني أسطر هذه الكلمات، ويتبادلون النظرات مبتسمين. وربما ينظرون إلي، ويربتون بنسائم أرواحهم الخفيفة على كتفي، مدركين أنني لم أنقطع عن الموت يوماً، لحظة، من خلالهم. الموتى ليسوا موتى أحاديين، إنهم يضفون طعماً على حياتنا.
يا لمدننا الكبيرة، يا لبلداتنا الصغيرة، يا لقرانا المتناثرة هنا وهناك. يا للمقابر المتفاوتة أحجاماً ومواقع واختلاف موتى، وطريقة موت كل منهم. أي شهادة حياة يستحقونها، كونهم يعيشون موتهم مسبقاً ليعيش وطن لهم، وإن كان مؤجلاً، ليعيش أبناؤهم وأحفادهم بموتهم النبيل هذا.
يا لذاكرتي وهي الآن تحلق في تلك الجهات التي تتحدث كردياً، وتأتي على ذكر هؤلاء: الأهل، الأحبة، المعارف، والأصدقاء باللسان الذي يفهمونه.. أي مقبرستان هذه التي تتناثر هنا وهناك؟
أي عيد يمكنه أن يتحمل شاغلي الروحي.. يمنحني الوقت الكافي لمعانقة أرواح كل هؤلاء، من غرَّة دهوك، إلى غرة قامشلو وأبعد وأبعد، شمالاً آمد، شرقاً مهاباد.. وأبعد أبعد في الزمن الكردي الذي انشطر وتشعب كثيرة بكرد، ولائحة ميتاته؟؟
المسافة التي تفصل بين الحي والموت، أن الميت يعلّم الحي أحياناً، أكثر مما يتعلمه الحي من حي مثله، لأنه لا ولم يمتثل لسمو الحياة وجدارتها. موتى أحياء بما تركوه من رصيد مناقب بسلوكهم البطولي الطيّب مأثرة، موتى أحياء بأقلامهم التي تقدمت بهم إلى الأمام، بدمائهم التي أفصحت عن علو كعب أرواحهم، ليكون العيد المسمى دوام تذكرهم، والتعلم منهم وليس على مقاعد دراسية ربما تجهز على إرادة الحياة بين جنبيّ الدارس ” الطالب “.
سلام على أولئك الذين حوَّلوا إراداتهم إلى معالم حيوات تضيء الحياة في نفوس المأهولين بهم.
المسافة التي بين الحي والحي في يوم كهذا، هو الشعور بكرامة اللحظة، بشرفها، بعفتها، برقتها، ودقتها، من لدن المأخوذ بإكسير الحياة طبعاً، لأن هناك امتلاء بأسماء من يستحقون الاتصال بهم روحياً، وما أعمقها وأوسعها مسافة قرباً وبعداً، من حي إلى آخر.
المسافة بين الحي وعيده في يوم كهذا، هو التوسع بالروح من قبَل من يقدّر نسَب الروح كونياً، ليحتضن كل الذين رحلوا، وكل الذين لا زالوا أحياء وهم على بيّنة من رحيلهم ذات يوم، وكل كائن حي في الجوار وأبعد، وكل جماد له اعتباره.. هي ذي علامة العيد الكبرى حصراً..
كل عيد والذين رحلوا إلى الأبد في مقام يسكنون إلى أرواحهم دون إقلاق. كل عيد والذين يعيشون حياتهم، باختلاف ألسنتهم، ويقدّرونها مبنى ومعنى، في إقامة تنيرهم حياتياً أكثر فأكثر.