إبراهيم محمود
الكتابة عن الآخر تعني بصورة ما كتابة عن الذات. دون ذلك لا حضور لقيمة الكتابة. الآخر هم الآخرون، جمعاً متعدد الصفات تذكير وتأنيثاً، كباراً وصغاراً. الشعور بالآخر ترجمة لانتماء اجتماعي، وتبيان ما هو قيمي. وفي هذا المنحى تكون الحياة الاجتماعية لها خاصتها.
والآخر مراتب، ودرجات.. كما يعلِمنا بذلك علم اجتماع الخسارة.. فقْد مَن نحب، خسارة بمفهومها الاجتماعي، وما في هذا التأكيد من قيم إنسانية مختلفة. يكون فقد الزوجة خسارة اجتماعية بأكثر من معنى. لا يعود الحزن عليها، لأنها مضت إلى الأبد، وإنما لأنها ترسم حدودها القيمية تأثيراً صريحاً في المجتمع الذي يضم إليه أفراده. ثمة جرح لا يندمل: جرح اجتماعي. من خلال فقدها، يحصل انكسار في الذات، تضيق مساحة العلاقات مع الآخرين جرّاء هذا الرحيل الأبدي، وفي مجتمع كمجتمعنا المحافظ بأكثر من معنى، تكون خسارة الزوجة أكثر من كونها معنوية ذاتية، عدا عن أن رصيدها الروحي في ذاكرة الزوج وصلاته بمن حوله، لا يستهان به، كما لو أنها لم ترحل، وهي تقيم في كامل جسده، أو قواه النفسية.
الوفاة تجسّد في مفهومها خسارة وتستدعي وفاءً لإبقاء المتوفى في الذاكرة !
من هذا المنظور الاجتماعي والأخلاقي، أقدّر طابع الخسارة الروحية والنفسية والاجتماعية التي ” تكبّدها” كاتبنا الكردي خالد جميل محمد،برحيل رفيقة دربه ” سعاد قرموتي ” كما سمعت بالخبر في يوم الأحد( 7-4/2024 )، وهو في عالم آخر بعيد عن الديار والأهل من الجهتين، مهما قيل في قوة القرابة لمن يعيش في وسطهم في ” هولير “. بالنسبة لأي منا، حيث يسكن كل من الزوج والزوجة إلى الآخر، يرى في الآخر عالمه، مؤاساته، التقاط أنفاسه عميقاً، تحفيزاً لروحه واستماتة في البقاء، توحداً وجدانياً، وهي حالة يعيشها، كما أرى، كلٌ منا حتى قبل وقوع واقعة أليمة مؤلمة وصادمة كهذه، لأنها الأكثر تمثيلاً للذات، لما يعيشه عن قرب.
ولهذا، فإن فقد زوجة، أكثر من كونها زوجة، إنها حمّالة أنساب وألقاب جمالية، أخلاقية، تمنح الزوج طاقة لأن يعيش، لأن يفكر، لأن يتنقل هنا وهناك، وملؤه شعور بالأمل، بالحياة بوجوده، لحظة أخْذ حقيقة المعاش زوجياً بعين الاعتبار ، وبعدَ عمر طويل نافذ الأثر في هذه المسيرة الحياتية المشتركة، وفجأة ينتهي كل شيء، ليكون أكثر من بدء مختلف. تعم الخسارة الروح الذاتية والاجتماعية، جرّاء خلل له أبعاده النفسية، ينعدم المفهوم الحسابي هنا” النصف الآخر ” إنها قيمة هندسية لا تخضع لأي مكاشفة كمية، تبعاً لنوعية العلاقة، وبالنسبة لمن ينشغل بالآخرين وينزف كتابة، وروحه تكابد مستجدات الحياة ومؤثراتها على مدار الساعة .
ما أكتبه في هذه الكلمة الموجزة، عبارة عن عزائي العائلي لكاتبنا الكردي مجدداً خالد جميل محمد، له، لأفراد عائلته، لأهلهما معاً، لأحبته، لكل من يعيش قلق الآخر وفي عمر لا يخفي أوجاعه.أن تقر روحها في مثواها الأخير جنتياً، وهي بهذا التقدير الزوجي والحداد عليها.
وأنا على يقين تام، أن الذي عاناه كاتبنا الكردي، وهو يدرك أخلاقية المشاركة الزوجية وتبعاتها العميقة زمنياً، صحبة معاناة رفيقة دربه في الحياة، وهي تقاوم ذلك الألم المر والنافذ في الروح، ألم ” السرطان ” لزمن عصي على الحساب كمياً، يشكل الشاهد على عمق الانجراح النفسي. دعك من الجسمي. حيث تمثل أمام العينين، وينشغل التفكير بها في كل لحظة، كما هو حق التشارك في الحياة، تقديراً لأخلاقية الزوجية، وربما على وقْع هذا الألم الزمني ، يكون حساب فقد الزوجة محولاً إلى ما هو نفسي، وتعبيراً عن حب متجذر في القلب.
لا بد أن الزوجية كحياة مشتركة شاهدة على رحلة حياة وحياة في رحلة مرض عضال قائم.
وإذا كنت كغيري من أصدقائه ومن يعيشون هموماً اجتماعية كهذه، ومن خلال مشاغل الكتابة ومعاناتها، أقدّر أن جرحاً يحدثه فقْد كهذا، لا يندمل، ويستمر إلى الأمام، فإن إرادة من النوع التي تحتفظ بذكرى من كانت نابضة بالأمل في روحه، تكون مؤاسية، ومحفزة له لأن يستمر في الحياة، خصوصاً ومع ثمارهما الروحية المشتركة: أولادهما، لتكون الخسارة أخف وطأة تالياً.
تعلّمنا الحياة كيف نعيش، ويعلّمنا الموت، كيف نختار من الحياة، ما ننحّي الموت بها جانباً!