إبراهيم محمود
حمْلُ كتاب ٍ لا يعني الاهتمام به أو قراءته بالضرورة، ربما يكون حاملُه نفسه حمْلاً على الكتاب جهة الإساءة إليه. حمْل مجموعة كتب ربما لا يعني تأكيد اهتمام بها، إنما للتظاهر بأن لحاملها مطلباً فيها، وما في ذلك أيضاً من تشويه صورة حامل الكتب بغية الاستفادة منها. ووجود مجموعة كتب كثيرة في مكان معين، قد يكون عبارة عن مكتبة. وهي للبيع، فلا تختلف عن أي جهة سلعية في المحصّلة، من قبل صاحبها. وحين تكون بيتية، ففي ذلك ما يجب التفريق، وحديثاً أكثر، بين من تكون لديه مكتبة كبرى، وهي متنوعة، ليس لأن وراءها يد قارىء وذهن باحث عن المعرفة، وإنما إيحاء إلى وجود حب للكتاب، ولا يتأكد ذلك، إلا في نطق صاحبها بما هو معرفي تكون مكتبته لثقافة شخصية، وأكثر من ذلك، حين تكون مرجعاً له، باعتباره كاتباً من خلال نوعية كتابة معينة.
في عالم اليوم، وفي أوساطنا، ما أكثر ما أصادفُ وجود مكتبة أو نواة مكتبة في بيوت عادية، وقد علاها الغبار، أو وهي وراء واجهة زجاجية، وديكور جميل، إنما كمجموعة تماثيل صغيرة فقط.
أكثر من ذلك، وأنا في وسط جامعي، في دهوك، ما أكثر الحالات التي تُعرَض فيها كتب منشورة هنا وهناك مجاناً، دون أن تجد من يقبل على أخذها، أو يتم التنافس عليها، تبعاً للحالة والمناسبة، يكون الأكثر اهتماماً بالكتاب بعيداً عنها، لتمضي تلك الكتب إلى ” حتفها ” تحمَل من مكان، وتوضَع في مكان، دون تحريك، وللمظاهِر حضور كبير، يؤكده انحسار الكتاب مكانة واهتماماً فعلياً به.
ذلك ما يمكنني قوله، من واقع التجربة، وليس من مبرر لفك الارتباط عن الكتاب، لأن المعرفة تغْني الإنسان، وتزيد في احترامه لنفسه، خلاف من يشدد على ” موته ” ليؤسس لجهل صارخ فيه.
إن مجتمع الكتَاب، هو مجتمع الانتاج المعرفي، هو مجتمع القارىء الذي يضيف إلى ما يقرأ.
في مكتبة الجامعة” جامعة دهوك ” عدا عن المدينة نفسها ” مكتبة البدرخانيين ” عشرات الألوف من الكتب، إنما السؤال: من يكون القارىء هذا الذي يتعامل مع الكتاب مقدّراً أهميته التنويرية؟
ما أبأس الحالات، المشاهد، والمواقع التي أجد نفسي فيها، كما لو أنني في صحراء قاحلة..
ذلك ما يشكل شهادة على بؤس المردود الثقافي، وما يخيف في المحصّلة بالنسبة للكردي بالذات.
المكتبة شاهدة على من يعنى بها، أو يقتنيها، وتسجَّل باسمه، وتحدّد إلى أي درجة هو باحث معرفي فعلاً، وما إذا كان له صلة قربى فعلية، بالعالم الحي، بالكتاب ودور الكتاب في المجتمع ونوعيته.
كما يقال” البضاعة الرديئة تطرد الجيدة من السوق ” هكذا الحال مع كل ما له قيمة فعلية وله تأثير في العمق، حيث الرداءة على مستوى الشارع، الوظيفة، الساحة، اللقاءات، الأنشطة المختلفة، تشكّل القاسم المشترك الأكبر لمن يعملون في الحقل الثقافي: الفكري، النقدي، والإبداعي، وما يقدَّم يتخذ مساراً استعراضياً ، دعوياً، إعلامياً، فئوياً، والثقافة المنتجة ليس كذلك، والمكتبة الفاعلة باسمها ليست هكذا، والمقيم داخل مكتبته، وهو ينفتح عليها بكائنات حية تمثلها، ليس كذلك .
ربما لي تجربة مريرة وقاسية، لا أعني بها تسمّيني دون غيري في علاقتي بالمكتبة واعتبارها الحقل الأكثر قابلية للاستثمار والعطاء، إنما أستطيع الزعم، بأنني في واجهة هذا الشهد المريع .
لكم كونتُ مكتبة هنا وهناك. وحين قدمتُ إلى دهوك، وتركت ذاكرة لازلت أتنفسها أعني مكتبتي في قامشلو بنوعية محتوياتها: كتباً ومجلات وغيرها، حاولت المستحيل، من خلال من لهم صلة بذلك، جلب أو نقل مكتبتي إلى دهوك.. دون جدوى.. كان ذلك يعني بالنسبة لي: فالج لا تعالج. وهاهي مكتبة أخرى وقد تشكلت، فأنا لا أستطيع الإقامة في مكان، لبعض الزمن دون ” خلان وفاء ” أي الكتب في تنوعها، لأقرأ إقامتي في زمن قادم، وليس الإقامة العرضية في حياة يثقلون على أنفسهم، وهم أصحاب شهادات ومناصب، بما هو استعراضي. يا للمكان النازف بالدال عليه !
بالنسبة إلى المجتمع الحي، تكون المكتبة وثيقة حية وبأبعاد كثيرة تعرّف بـ” صاحبها “. ففي تصفح كتب مختلفة تكونها، يمكن العثور على تلك الإشارات: خطوطاً، كلمات، وعبارات على الهامش، في الداخل، بين السطور، في مواقع مختلفة، وخربشات، وأنصاف كلمات…إلخ، أن تسمّي في الكاتب صاحب المكتبة، ما يغفل عنه، أي إضاءة لجوانب خفية في حياته، ومن وراء تلك الآثار.
في مقدور باحث شغوف بتقصي المجهول أو جرّاء فضول معرفي، الكشف عما يزيد سلوك الكاتب وضوحاً، من خلال النبش في طيات الكتب التي حملت من آثار أنفاسه ويديه ونوعية اهتماماته، وتلك التعليقات المتباينة وصلتها بما نشِر باسمه، وما لم ينشَر، وما يفصِح عما يعنيه حياتياً الكثير..
في المكتبة حيوات كائنات، شخصيات، عوالم، جهات جغرافية، مسارد لغات وأقوام وأمم، تواريخ وجغرافيات، وخطوط اتصال بصيغ شتى، تجد منعطفات، أو ملتقيات لها في شخصية الكاتب، مثلما أنها في مجموعها ترسم الخطوط الكبرى وتلك اللماحة عن عالم خفي ذي ثنيات لهذا الكاتب.
تلك فرصة ثمينة للأكاديمي الفعلي، وليس ما هو سائد بفقر مفهومه، وضحالة محتواه، لأن يتحرى شخصية ما على وقْع اقتفائه للصامت أو الخفي فيما بثّه خطياً ولونياً ورمزياً داخل كتابه المقروء.
ما أكثر ما رأيت من مكتبات تخص ممن كانوا أساتذة جامعات، وكتاباً أهديت لمكتبات رسمية، ومعها ما يشير إليهم من شهادات أو وثائق شخصية أو جوائز، ويا لبؤس الكثير منها. حضورهم لا يُعتد به على صعيد الآثار الجديرة لأن تقرأ، ويشدَّد على مكانتها، وتأثيرها في مجتمعها.
هي ذي شهادة التاريخ بالمقابل، شهادة أناس شهود أحياء على من أصبحوا في عداد” كان يا ما كان ” ومحل كل اسم من إعراب الثقافة والفكر والإبداع، والحكْم الفصل لتاريخ قادم، في زمن ربما ليس ببعيد، سيطوي أسماء كثيرة ببهرج المجتمع كان لها موقع اعتباري محمي، كما لو أنها لم تعش يوماً، وربما أكثر بكثير من ذلك، بمقدار ما يعاد النظر في أمرها ومدى تطفلها على الثقافة واقعاً، ولأقرّب الصورة، ولا أسترسل في القول: ما يصلني بهذا المسمى مجتمعي الذي عشت وأعيش فيه، وجهة النافخين في الشعرة اليتيمة، وكيف يتم التعامل مع ما هو ثقافي، وممن، وإلى أين زئبقياً..
ألا ما أصعب أن يكون المرء كردياً. أما أن يكون كردياً ومثقفاً معترَفٌ به، فأصعب من ذلك بكثير!