أنا ولجنة التحديد والتحرير (9)

د. محمود عباس
كما نوهت في الحلقة السابقة، حسب قرار الاستيلاء الثالث خفض استحقاق الملاك نظرياً إلى 60 هكتارا؛ إلا أنه في الواقع العملي أقل من ذلك؛ علاوة على هذا، كان عين القرار يشمل ما بحوزة الفلاحين الكورد الذين تعود ملكيتهم إلى العرف العشائري المتبع في المجتمع الكوردي منذ قرون. ومن حسن الحظ لم يُنفذ ذلك القرار بسبب اندلاع الثورة السورية في العام 2011م.
هنا يستوقفنا سؤال: هل كان الشعب الكوردي برمته ينتظر يوم تلاشيه حيال ما كان يجري بحقه؟ من حيث الظاهر أنه وقف مكتوف الأيدي أمام ما يحصل له! لكن الحقيقة غير ذلك، لقد ناضل حراكه بكل ما أوتي من قوة؛ غير أن معرفته لم تكن كافية! بنظام بوليسي أولا، ومن ثم شمولي، فكل ما كان يفعله قام بما تقوم به الشعوب المحتلة من قبل المستعمر الغربي.
أنا كأحد الذين عايشوا تلك الفترة، أي فترة الاستيلاء على ملكيتنا في قرية نصران، بل وكنت الشخص الوحيد من العائلة المكلف بالتعاطي مع اللجنة، مقاصدها توضحت لي بعد حوارات مع الوالد، ومن حينها راجعت نفسي وعلى مدى سنوات؛ ممعنا في صراعنا القومي تحديدا، والمخططات الجارية إزاءنا ككورد، وأعدّت بالذاكرة إلى أيام الوحدة مع مصر عمّا كانت الناصرية تذيقنا من الآلام، وعن حريق سينما عامودا، وبناء القريتين على نهر دجلة وتَمْلِيْكِهُمَا لعرب الداخل، وأيضا إجبار سكان المنطقة على الذهاب بمواشيهم إلى جبل عبد العزيز، وكيف مات معظم مواشيهم؛ لأن الناصرية منعتهم من رعيها في مراعي قراهم، وبقيت محتجزة في حظائرها إلى أن مات أغلبهم من الجوع، عدا ما كان يقوم به حكمت ميني رئيس شعبة المكتب الثاني (المخابرات) آنذاك، وكيف كان يداهم المقاهي ويعتقل الناس بالجملة ثم يسوقهم إلى القسم (فرع)، فينتقي من بينهم الكورد فقط، ويطلق سراح البقية، ليقضي المنتقاة ما يصل إلى ثلاثة أيام وأكثر في قسمه الأمني يكيل إليهم ضربا مبرحا وشتما وإهانة.
 ثم تمر أمام ذاكرتي شريط حقبة حكومة الانفصال، وكيف اعتبرتنا إسرائيل الثانية وخنجرا في خاصرة العروبة… ومن ثم ما قامت به تلك الحكومة في إجراء الإحصاء الاستثنائي لمنطقة الجزيرة، كي يخرج الكورد من دائرة المواطنة السورية؛ وذلك في العام 1962م وتطبيقه بعد أربعة أعوام من إجرائه من قبل البعث وما تلاه من الحزام العربي، وفيما بعد غيروا اسمه إلى مزارع الدولة، وكذلك لجان الإصلاح الزراعي. في الواقع لم نكن ندري حينها أن تلك المزارع ستُمَلِّكُهَا الدولة للمستقدمين من الرقة ودير الزور… كل ما كنا نتصوره أن توزعها على فلاحي عرب المنطقة!
كنا نعي أن الحزام العربي هو خطة لخلق حزام من العرب فاصل بين طرفي كوردستان المقسمة في هذا الجزء. ولم يهدأ الحراك الكوردي نفسا، ولم يرتح بالا، فكان يسعى جاهدا لرد الظلم الحاصل بحق الكورد. كما مر معنا لم تكن معرفتنا كافية لفهم طبيعة النظام القائم علينا، فأشفعت السلطة إصلاحها الزراعي! بالترويج لليسارية، وتحقيق العدالة الاجتماعية! مبيّنة إنصاف الفلاح من مستغِلِّه الإقطاعي!، ونحن ككورد سيمتنا الزراعة والرعي، ومع تفشي الأمية بين سكان القرى اتبعنا مثقفينا المبهرين بالأفكار اليسارية الداعية للعدالة الاجتماعية مع شيء من الحقوق القومية للشعوب المضطَهَدة! وبصريح العبارة كنا كمثقفين ناشئين مغمورين بتلك الأفكار، ولم نكن ندري أنه من صلب اليسارية أن تحقق الشعوب أولا حريتها، ومن ثم أن تقوم بتحقيق العدالة الاجتماعية. طبعا كل ما كنا نضطلع عليه من الأدب اليساري آنئذٍ كان يصب في العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية بالدرجة الأولى، وهذا صحيح إذا كنا عربا، لكننا شعب غيري عربي ومحتل من قبل حكام عرب، وليس الشعب العربي، البريء من حكامه، كان علينا أن نحرر نفسنا أولا ومن ثم ننتقل إلى العدالة الاجتماعية، وهي مرحلة لاحقة، وأتذكر جيدا أننا كنا منغمسين في لج تلك المعمعة الاجتماعية أولا.
ما يؤسف له ضلّلَتنا تلك الأفكار السابقة لأوانها كورديا، وهذا ما حرم حراكنا الكوردي من مصادر مهمة كان بوسعه الاستفادة منها ليتقوى بها، ويكون على قدر المسؤولية لمواجهة المخططات المبيَّتة له من قبل السلطات المتعاقبة على الحكم في سوريا…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
12/2/2024م

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…