شكراً لحي قدّور بك

إبراهيم محمود
حي ” قدور بيك ” الحي العريق في قامشلو، يشغل مساحة واسعة من الجهة الشمالية للمدينة، يمتد من جهة الطريق- الشارع الذي يمضي إلى الشرق، صوب حي” عنترية ” شمالاً، بين منعطفي الطريق المؤدي إلى مقبرة ” الأرمن ” والطريق المؤدي إلى ” تل زيوان ” على شكل مربع تقريباً، بمسافة كيلومتر ونيّف. في مقابل منتصف الزاوية حيث الحدود الشمالية للحي تقريباً تظهر المقبرة الشهيرة ” مقبرة حي قدور بيك ” وهي تضم أناساً عاديين، ورموز كرد: شهداء قضية، وأعلام كتابة، وسياسة، ووجهاء معروفين في المدينة وخارجها كذلك.
لا أتحدث عن طبوغرافيا الحي هذا، وكيف تشكلت ومما تتكون سكانياً، إنما أردت من هذا التقديم الموجز، العودة بالذاكرة إلى الوراء، إلى اللحظة الآذارية التي أشرت إليها في أمكنة أخرى، وبتاريخ ” 13-3/ 2004 ” حيث اندفع النهر الكردي الموحد من أمام جامع قاسمو إلى المقبرة انتظاراً للحظة دفن شهداء الحدث الآذاري العظيم ” 12 آذار 2004 ” .
أسمعتم بنهر يعي سريان فعله المائي الواثق من تدفقه، يعيش التحام ضفتيه به، يترجم عمقاً يؤمن له حركة ماضية إلى هدفها، سطحاً كما هي المرآة الضخمة يُري بعيدَ الغور، شهادة حسن سلوك له؟!
ثمة نقطتان تشغلان فكري، وأنا أستعيد المفاصل الحركية لهذا النهر: المسيرة المفخرة .
ما يعيشه المنخرط في النهر البشري العالم بموضوعه روحاً وجسداً، من مشاعر وأحاسيس، وتحت سمع النظام وبصره، وتوقع حدوث الأسوأ، كما جرى: جهة الإصابات برصاص جنوده وأزلامه.
هي لحظة يصعب وصفها بدقة، أي حيث ينسى المشارك الحي بروحه الحية في النهر الحي بشرياً: كردياً، أنه من لحم ودم، وأن هناك من يصوّر ممن يتربصون به عداوة، ومن يلقّم سلاحه وأكثر، وقد يكون هو المصاب الأول أو التالي أو الأخير، يكون هناك حساب مغاير لكل ذلك .
لا أنسى كيف هناك تحرك وارتباك وترقب على طرفي الشارع، إزاء المشهد الاستثنائي بتاريخ في المنطقة عموماً، وليس في وسط قامشلو، حيث كان شارع الجسرين المستقيم معطوفاً على خطى المتقدمين إلى الأمام، وجهتهم الشرق: الشمس، وبغيتهم تأكيد انتمائهم التاريخ المضيء.
لا أكثر من الوجوه التي عاينتها وأنا في وسط النهر، ضمنه، كغيري، العيون التي كانت تركّز على المشهد، أو تنظر شذراً، أو بنصف إغماضة، أو بنوع من التجاهل، تعبيراً عن حالة نفسية، عن موقف مما يجري، أقصد بها وجوهاً كردية صرفها جبنها خارجاً، وهي معروفة جيداً، ولا أكثر من صنوف الإساءات التي تلقيناها ” الذي انخرطوا في الحدث سلوكاً فغلياً وكتابياً” من جهتهم، تغطية لخوائهم، للمزيف فيهم كردياً، وهو موقف لازال يترجم سلوكيتهم إلى الآن.
في المساحة التي يشغلها حي قدور بيك، وخصوصاً جهة الشارع- الطريق المستقيم، كان ثمة المضاف إلى المشهد والمتوقع: رصاص جلاوزة النظام، عساكره، أزلام أمنه، وأتباعهم، وهم باللباس الميداني الكامل، بالنسبة للعساكر، صحبة خوذهم: كانوا يدافعون عن رعبهم، عن مؤتهم الزؤام، بينما الذين انخرطوا في النهر البشري كردياً، فقد كانوا يدافعون عن حياتهم المثلى.
ليس هناك من لا يخاف من الرصاص، فهو في أصل تكونه، صُنِع لإزهاق أرواح، وأما بصدد الدفاع عن النفس، فليس في ذلك ما يبرّر صنعه، فما بالك لحظة التصعيد بالاسم: القنبلة، القذيفة، الصاروخ، السلاح الكيمياوي.. كلها مصنوعات الذين أرادوا تأكيد أن هناك ما هو أكثر رعباً وهمجية وسفك دماء وتمثيلاً بالجسم، من الموسوم بالحيوان الضاري، في نفوس هؤلاء الذين لا يبصرون الحياة إلا من وراء تلقيم رصاصة، أو مع أزيزها، أو هدير مدفع… إلخ .
الرصاص الذي أطلِق في محيط قدور بك، وبامتداد الشارع الملازم لقدور بيك، كان ترجمة حية ومتوقعة من الذين استشعروا خطراً حقيقياً لم ينتبهوا إليه، وهم في ذهول: إذ لم يحصل، بمثل مشهد كهذا، في التاريخ ” السوري ” الحديث، إن ووجه نظام حي بكل أجهزته الإيديولوجية، والمادية المميتة والمهلكة، بمثل ما عاشه النظام من هذا الانفجار النوعي في نفوس من استشعروا ظلماً، أو استبداداً لم يعد يُتحمَّل، أي الكرد. رصاص لم يتطاير في الهواء تحديداً، إنما كان تعبيراً دالاً على الخوف المتنامي في نفوس مطلقيه ومتابعيه أمنياً وعسكرياً وسياسياً، الهواء نفسه كان يبث صدى الأزيز في الجهات، والهواء نفسه كان يسجل إصاباته، بتخلله، حيث يتساقط هنا وهناك ليس عشوائياً، ففي وسط بشري، ليس من فراغ يستقبل الرصاص، إنما وجود أرواح حية. وسواء سمّي الجاري انتفاضة: أي الخروج عن الجمود والهمود والصمت، إلى خرق المألوف، أم ثورة: أي التحرك بشكل منظم، ومواجهة الاستبداد، والسعي إلى اعتماد قيم أخرى مغايرة إنسانياً.
ثمة من أصابهم الرصاص مقتلاً، ثمة من جرحهم، ثمة من أخافهم بالقرب منهم،  وهو مشهد لا يخلو من شاعرية، ولكنه غرائبية، تستحق التسجيل والإضاءة: أجساد حية ، كما لو أنها تسبح في بحر مائج، وتقاوم الخطر، ورصاص يأتي دون تحديد الجهة، كما لو أن الجميع مستهدفون.
لحظتذاك، كان ثمة ما يبعث على الفخار، على رفع المعنويات عالياً أكثر، والمضي قُدماً إلى الأمام، وعدم الاكتراث لا بخطر الرصاص أو خلافه، حيث رأينا أبواب بيوت حي قدور مفتوحة، كي يلوذ بها من في الشارع وهم عرضة للإصابة من جهات شتى. لحظة تاريخية مأثرة كردية المقام، عشتها مع غيري، ونحن نلوذ ببيوت كهذه، فاتحة أبوابها على مصراعيها .
والذين تواجدوا في الحي ممن عايشوا الحدث لحظة بلحظة، انصهروا في بوتقتها الساخنة، إنما بوتقة كانت مخاضاً موجعاً، ولكنه المخاض المعبّر عن ولادة تاريخ آخر للكردي سورياً.
من هنا، كان هذا العنوان، وهذا التذكير بما لا ينبغي نسيانه، وما يمكن التوقف عنده، وتبيّن حدود القوة، وكيفية ظهورها وتفعيلها في النفوس، ومن حجبوا أنفسهم عن كل شيء كردياً.
عشرون عاماً، وتلك اللحظة الشامخة نابضة في ذاكرتي، وهأنذا أسمّيها من جهتي، لأنها تستحق ذلك، وهو استحقاق ينوّه إلى أن ليس هناك ما يمكن حجبه، وكان له محله من إعراب الزمن المنفجر بوجه آخر، بصوت آخر، بوعد آخر، كردياً، ولكرد قدور بيك موقعهم المشرف، وهم يفتحون أبواب بيوتهم، أي يفتحون قلوبهم، أي يبصمون بالعشرة على أن الكرد جمْع لا مفردٌ.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…