اكرم حسين
اعلم ان الموضوع شائك ومعقد وجديد وفيه مغامرة فكرية وسياسية قد لا اتمكن منها لكني تقصدت السير فيه علني اضع التخوم والفواصل لفض الاشتباك الحاصل بين المثقف () والسياسي الكردي السوري – والسياسي المتناول هنا هو المتسلط أو السلطوي – وتجاوز حالة الشكوى والمظلومية التي يبديها هذا المثقف في كل مناسبة لكن قبل ذلك ساتطرق الى مفهومي الثقافة والمثقف عند تايلور وجوليان بندا وغرامشي وادوارد سعيد لعدم وجود تعريف للمثقف لدى الكرد -ورغم خصوصية الواقع الكردي السوري – الذي قد لا يتشابه مع واقع المجتمعات الاخرى – ، الذي يفرضه اختلاف درجة تطور المجتمعات الانسانية- ومستوى الوعي والذكاء ، والمهام المنوطة بها لكن الثقافة البشرية تشترك في الكثير من الصفات وتتقاطع في الخطوط العامة.
الثقافة حسب تايلور “هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى، التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع” .
ظهر مصطلح المثقّف في فرنسا : للدلالة إلى من يمارس النشاط الذهني، وينخرط في الحياة العامة ، بعد ظهور قضية الضابط ألفريد دريفوس” المتهم بالخيانة الوطنية ، ((ظهرت قضية دريفوس في عام 1894، حيث اتُهم الضابط الفرنسي الإلزاسي ألفريد دريفوس بالتجسس لصالح الرايخ الألماني وحُكم عليه بالإبعاد إلى جزيرة الشيطان )) و قد دافع عنه “إميل زولا” و”أوكتاف ميربو”، ليصبح المثقّف ليس مجرد مبدع “أفكار او”متفرج ” كما يقول”ريمون أرون” بل صوتا للمظلومين والمهمشين،
جوليان بندا تحدث عن المثقف في كتابه “خيانة المثقفين” بالقول “أقرب ما يكونون إلى الصدق مع أنفسهم حين تدفعهم المشاعر الجياشة والمبادئ السامية، أي مبادئ العدل والحق، إلى فضح الفساد والدفاع عن الضعفاء وتحدي السلطة المعيبة الغاشمة” .
غرامشي يقول
“إن جميع النّاس مفكرون” ولكن وظيفة المثقف أو المفكّر في المجتمع لا يقوم بها كل النّاس وينظرالى المثقف العضوي على اساس ممارسته للفعل الاجتماعي القريب من الجماهير والمتماهي معها وتبنيه لقضاياها اليومية والمصيرية ،
ادوارد سعيد
يؤمن بأن المثقّف الحق ،يمثّل نبض الجماهير و لا يقبل بأنصاف حلول أو أنصاف الحقيقة، هو الشخص الذي يواجه القوة بخطاب الحق ،هو المثقّف “المقاوم” بفكره ونشاطه هيمنة السلطة السائدة
اذاً يتفق بندا ، وغرامشي ، وسعيد : بان المهمة الأساسية للمثقف تكمن في “النقد”. المثقف الحقيقي هوالمثقف “الناقد” لذاته ولجماعته، دون مجاملات فكرية أو سياسية أو إيديولوجية ، لان أسهل أنواع النقد هو نقد العدو، التخلي عن هذه المهمة تبعا لبندا وسعيد، “خيانة المثقف” ،لذلك يصبح دور المثقّف في الحياة السياسية ذا أهمية بالغة تترجم قيمته كفرد مسؤول بدرجة كبيرة، وتعطي للثّقافة قيمتها الحقيقية باعتبارها:”طوق النجاة للمجتمع حين يتعرض لخطر الغرق” حسب مالك بن نبي، فهل قامت النخب المثقّفة الكردية بهذا الدور؟
لعب المثقفون الغربيون دورا مهما في انتاج ثقافة الدولة والمؤسسات وتوطيدهما ، بينما في مجتمعاتنا الشرق اوسطية كانت الدولة/الاحزاب مصدرا رئيسا في “انتاج “المثقفين الذين ارتبطوا بها وتماهوا معها، مما ادى الى عدم امكانية القول عن مثقف مستقل وفاعل وتحول ديمقراطي في مجتمعاتنا الكردية بالمعنى الذي نتحدث فيه عن فولتير او سارتر او اميل زولا او حتى عن مثقف شبيه بطه حسين عندما كتب” في الشعر الجاهلي “في تصديه لمحاولات الملك تحويل مصر كمقر للخلافة بعد قيام اتاتورك بإنهائها.
يتصف السياسي الكردي السوري بالاستبداد والسلطوية والانحياز الى موقف الحزب او الاطار الذي ينتمي اليه ومحاولة اخضاع الاشياء بما فيها الثقافة والمثقفين لسلطته ومصلحته وفق الايديولوجيا التي يعتنقها ويكره النقد والتنظير وينحاز الى الواقع الميداني والعملي ويحاول ترويضه وتدجين المجتمع وبشكل اخص المثقفين العضويين واستخدام المثقف كديكور في المناسبات او لكتابة بعض مقالات النشرات التي يصدرها ، فان المثقف الكردي السوري يجب ان ينحاز الى الحقائق ورفض التقوقع والانكفاء والابتعاد عن الانتهازية والمصلحة الشخصية والخوف والتبعية لانه ضمير المجتمع والمعبر عن ارادته وبوصلته في معرفة الحقائق والنهوض بالمجتمع
لكن في الواقع فقد تخلى اغلب المثقفين الكرد السوريين عن هذا الدور المنوط بهم فباتو في علاقة خوف وتبعية للسياسي الكردي الذي قد لا يدع لكتاباتهم ان تجد طريقها في نشرة الحزب التي لم يكن متاحا النشر في غيرها بسبب منع النظام او تخوينهم لاي نقد يمس جوهر السياسة الكردية ومستقبلها او نقد احد شخصياتها القيادية عندها يستنفر هذا السياسي ويحرك جيشا من الجنجويد للتشهير والتعرية .او طمعا في تقديم الدعم المادي لطباعة كتاب.
بعد ذلك
اين هو ذلك المثقف الكردي المنتج ، الذي يبحر و يغوص في قاع المحرم ، ويفتش في المحظور ويستنطق المسكوت ،القادر على مواجهة الحقيقة ، المثقف الناقد للواقع السياسي الكردي ….؟! واين هو السياسي الكردي الذي يتفهم وظيفة ودور المثقف وحساسيته تجاه تغول السلطة وتوحشها واحترام قوله للحقائق في النقد الموضوعي للسلبيات ومحاولة تلافيها
كثير من المثقفين الكرد السوريين ينصبون انفسهم ناطقين بالحكمة ، راغبين بامتثال السياسي الكردي بين ايديهم وتنفيذ مقترحاتهم بطريقة استعلائية ، وكانهم ناطقين باسم الحقيقة ومالكين لها بعيدا عن تعقيدات الواقع ووقائعه العنيدة بينما السياسي الكردي الحزبي ينظر للمثقف الكردي كاداة للدعاية الحزبية والترويج لسياساته ولنظرياته العبثية ، واساليب سيطرته الايديولوجية وهو ما يرفضه المثقف النقدي الحقيقي؟ وهو باعتقادي احد اسباب ما نشاهده من صراعات وانعدام الثقة بين الاثنين ؟! …فالمسألة لا تتعلق بتغيير وعي الناس او ما يدور بادمغتهم …بل يتعلق بالنظام السياسي والاقتصادي والمؤسساتي لانتاج الحقيقة ”
السياسي الحقيقي هو صاحب مغامرة عملية وتغييرية، كونه يعمل في الممنوعات ويتحدث في المحرمات، يتحدى السلطات القائمة سواء كانت سياسية او دينية او ثقافية ، وهذا ما يجعله في مواجهة بعض الانواع من “المثقفين” و اولهم “المثقف التبريري ”والذي يقوم بالدفاع عن استقرارالوضع القائم.،وتبريرالاستبداد وعن “الخصوصية الثقافية”، او “المثقف الإيديولوجي، المشبع بإيديولوجيا معينة في رؤيته للعالم والمجتمع ، يروج لهذه الايديولوجيا ويرى فيها الحل النهائي، ويمارس نقده لكل من يقع خارج فضائه الإيديولوجي والمعرفي.
المثقف عادة ما يكون اقرب الى المثالية والنرجسية ،والفردية ولحساسيته الزائدة تجاه الاحداث ، فان قدرته على التحمل هي اضعف واقل من قدرة السياسي الكردي الذي يعمل ضمن جماعة قد توفر له في احايين كثيرة الامان والاطمئنان ،وتبعده عن الخوف والتعرض لمصير مجهول، لذلك تظهر المشكلة لدى المثقف الكردي اكبر مما هي في الواقع ، وتؤدي في بعض الاحيان الى خروجه من واقعه المعاش ،وتجعله خارج سياقه الطبيعي ؟! كما ان الاحزاب الكردية قد عملت في الآونة الاخيرة على الغاء دور المثقف الكردي النقدي، وتهميشه ومحاصرة قلمه وكتاباته بدوائر الولاء والطاعة والايديولوجيا ، ودفعت الكثير من اشباه المثقفين الى التسكع والتسول على موائد السلطة وحواشيها طمعا في الحصول على مكاسب او امتيازات مادية .
المثقف مطالب بتحليل الواقع السياسي والثقافي الكردي ونقد السياسات الكردية والممارسات الاستبدادية والايديولوجية التسلطية للقوى المسيطرة ايا تكن هذه القوى والدفاع عن حرية الرأي والتعبير والاختلاف ، وتقديم الاقتراحات والحلول والبدائل ، لانه على حد قول ماركس كان الفلاسفة سابقا يقومون بتفسير العالم بينما المطلوب هو تغييره !!. عليه ان لا يهاب السياسي ويؤدي دوره ، ويقوم بوظيفته دون خوف بعد ان اتاحت الثورة السورية المجال لحرية الرأي والتعبير الى حد ما ، وتوفر عدد من منابر الاعلام الكردية التقليدية والحديثة ، من صحف ومجلات ومواقع الكترونية وصفحات تواصل اجتماعي وفضائيات ،باتت في متناول اليد ، لكل من يرغب في الاستفادة منها ، لنشر ارائه ومعتقداته الفكرية والدينية والسياسية، والتأثير في الرأي العام فقد وفرت تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات فرصا كثيرة للانتشار والتاثير في اوساط واسعة وقطاعات اجتماعية وثقافية متعددة ، لم يكن الوصول اليها ممكنا ،بعيدا عن هيمنة الاحزاب وتسلط السياسي الكردي وسيطرة فكره الايديولوجي الشمولي وهو ما يزيد من مسؤولية المثقف الكردي ويوسع من دائرة تأثيره وانتشاره ويحرره من سطوة السياسي وقيوده المفروضة .
الكثير من المثقفين الكرد ابتعدوا عن وظيفتهم كمنتج “للافكار” وعن دائرة “الفعل” في سياق انتاج “المعرفة ” او واكتفوا بالفرجة والانعزال والتقوقع حول ذواتهم انتظار السياسي الكردي ليقوم بالمهمة واكتفوا بنقده لعدم افساح المجال لهم ، في وقت اشتداد الحاجة اليهم والى دورهم ، وهو ما ادى الى ظهور الفراغ الذي عبر عنه هيروقليطس بالقول “الطبيعة تخشى الفراغ” مما ادى الى ظهور ساحق للخطاب الاصولي القومي اليوتوبي، ساهم بدوره في انكماش وانحسار افكار المواطنة والعلمانية والمجتمع المدني وانتشار وسيطرة افكار التقوقع والانعزال والعنصرية والعداوة والقرية والقبيلة والبداوة السياسية وعودة المجتمع الى مرحلة ما قبل الدولة ..وترسيخ الافكار الواحدية والزعيم المخلص..والفرد الاله، ،وانتشار القيم الشاذة في المجتمع .؟
هناك حديث عن غياب المثقف الكردي – الحزبي واللاحزبي على حد سواء – وعدم قدرته على التعبير او التأثير في الوعي الجمعي الكردي، لا بل يذهب اخرون الى حد القول بسقوط المثقف الكردي ، وعدم فاعليته نهائيا في ظل سكوته وابتعاده عن الخوض في الشأن العام ، والنأي بنفسه عن المخاطر للحفاظ على مصالحه ، اما ارضاءاً او خوفاً من السلطة القائمة ، ودفاعه احيانا عن كل ممارساتها القمعية والشمولية ، وتحوله كبوق للدعاية الرخيصة ، تحت عناوين وحجج مختلفة – في زمن يحتاج فيه المجتمع الى من يقف او يتصدى لكل ما هو شائن وقمعي – وبالتالي انقسام الكتاب والمثقفين في اتحادات كتاب ورابط حزبية ،اشبه ما تكون “بالإقطاعات العشائرية “التي تتبع هذه الجهة السياسية او تلك ، في اشارة الى هزيمة المثقفين او عدم قيامهم بدورهم التاريخي ، واللهاث وراء المال السياسي والاجندة الشخصية ، لان المثقف الذي اتحدث عنه هنا ،هو المثقف الناقد للذات قبل الاخر ، لا يمكن للمثقف ان يكون ناقدا حسب الطلب والظروف .عليه ان يستخدم سلاح النقد في مواجهة كل ظواهر التوحش والقمع وانتهاك الحريات، وكل العوامل التي تعرقل نهضة المجتمع الثقافية والسياسية ، لكن يبقى المثقف في النهاية هو شخص محدود الامكانيات والتأثير، ولن يستطيع ان يكون له دور ولأفكاره من تأثير ، الا في حالات توفر ظروف ومناخات شبه ديمقراطية ، وتبني احزاب او جماعات لأفكاره وآرائه تساعده في انتشارها والترويج لها دون رقابة او تأثير ، عبر وسائل اعلامها المختلفة ، بغية ايصالها وتغلغلها بين الجماهير ، فما نشاهده اليوم من تراجع وانحسار للمثقف والثقافة وتضائل دوره وتأثيره في وعي المجتمع ، يعود في جانب اساسي منه الى سقوط السياسي الكردي ، الذي هجر الاخلاق والثقافة وبات امياً ، بعيدا عن تطلعات الجماهير وهمومها الحياتية ، هذا السياسي الذي اسقطته الثورة ففضل الاعتكاف في صومعته الحزبية ، وابتعد عن نبض الشارع ، وعن الدفاع عن تحسين شروط حياته وعن لقمة عيشه ، وتحقيق طموحه القومي بعد سنوات القهر والعذاب .
نحتاج في هذا الزمن الى مثقف كردي ينتقد دون ان يعادي ، ينتج دون ان يهاب ، يقول دون أن ينحاز الا الى ما يحتاجه الواقع الكردي ، وما تفرضه صيرورة التاريخ وحتميته ،من اجل بناء غد افضل واجمل لشعبنا ، يكتب بكل شجاعة وثقة واخلاص، مهما كانت درجة الخطورة ومهما اعترضته الصعوبات، لأنه بدون ذلك لن يستطع ان يحتل عقول وقلوب الناس ، ولن يكون له مكان في التاريخ ، فالانتقاد وطرح الرأي بجرأة وموضوعية تامة امام تغول السلطة ومؤسساتها المختلفة واجب اخلاقي وانساني للمثقف الكردي حتى لو فقد رأسه !. لذلك فإن من طبيعة هذا السياسي – السلطوي استمالة المثقف، أو احتوائه، اوتبعيته، على نحو رسمي أو غير رسمي ، بهذا الشكل أو ذاك، لان السياسي الكردي أمي او شبه امي لذلك يكره الثقافة والمثقفين ، ولا يمكن له أن يعنى بالثقافي إلا إذا تنازل هذا الأخير له عن رسالته، وبدّل موقعه من خانة (الناقد إلى خانة المبوِّق، وشتَّان ما بين هاتين الخانتين…!(
اخيرا فالثقافي والسياسي متلازمان لا يمكن الفصل بينهما ،رغم كل ما يمكن ان يقال عن علاقة صراعية بينهما !! لانهما يكملان بعضهما، فالسياسي بدون نقد الثقافي لا يمكن ان يستقيم والثقافي بدون السياسي لا يمكن ان يتغلل بين الجماهير وتصبح افكاره قوة مادية ، وبالتالي فان الصراع بينهما على صعيد الممارسة يجري وفق قوانين موضوعية محددة بصيرورة التاريخ وتمرحله. وفي كل مرحلة تكتسب العلاقة شكلا محددا.
انتهى