ميشال كيلو الذي تجاوز الخوف والوهم!

بقلم: رضوان السيِّد

بدأت اقرأ لميشال كيلو في السبعينات، وتعرفت اليه في الثمانينات اثناء عملي بمعهد الانماء العربي، ومجلة الفكر العربي.

وعندما قابلته لأول مرة كان خارجاً من السجن، وكان يعتبر نفسه محظوظاً لانه لم يُنسَ هناك لمدة سحيقة كما نُسي أقرانه وزملاؤه! وما كنت قد تبينت توجهاته السياسية من كتاباته وترجماته، لانه قلما كتب في السياسة المباشرة؛ بل كان بحكم تخصصه يميل للكتابة الفلسفية والثقافية العامة.

ومع ان زملاءه الصغار والكبار كانوا يترددون اكثر منه على لبنان، ونقابلهم اكثر؛ فقد شدتني اليه لأول وهلة آصرة الالمانية التي استمتع بها كلانا في الدراسة.

وكثيرا ما تبادلنا النِكات حول ما نعرف مما لا يعرفه الاخرون لاتقاننا تلك اللغة الساحرة.

وهو مغرم بهيغل ونيتشه؛ في حين كنت اصر تحت وطأة التأثر بكارل وو على ان فيلسوف الفلاسفة في كل العصور كانط حديثاً، والمعلم الاول ارسطو قديماً! وقد عرفت طبعاً من قبل ان ألقاه انه ماركسي، لكنه لشدة تشبثه بفكرة الحرية، ما كنت اتصوره منتمياً لحزب لينيني، وهو على كل حال سرعان ما خرج متلفتاً ذات اليمين وذات اليسار ومع ياسين الحافظ ثم مع رياض الترك.

ولذلك وجد نفسه على انتظار أو غير انتظار في الاعتقال الذي لم ينل من عزيمته قيد انملة.

اذ من طرائف حزب البعث القائد في الدولة والمجتمع انه اعتبر من ضمن مهامه المنتمية الى “الرسالة الخالدة” حفاظه المنقطع النظير على خالد بكداش وزوجته وصال فرحة مثل حفاظه على عصمة القائد والثورة وخلودهما.
… وميشال كيلو من بين كل من عرفتهم من المثقفين المعارضين لحكم البعث او الموالين له الاوسع ثقافة، والاكثر هدوءاً، على صلابة لا تتظاهر او تكابر، لكنها لا تتخفى ولا تخامر.

قلت له مرة أواخر التسعينات ـ وربما كانت المرة الوحيدة التي غضب فيها عليّ ـ: لا ادري كيف يصبرون عليك هناك؛ وبخاصة ان ما تقوله ببيروت، سمعتك تقوله بالشام! غضب الرجل فعلاً وقال مرتفع الصوت: أهذا سؤال؟ بل كيف اصبر أنا ويصبر الشعب السوري عليهم؟! أريد أن اقول لك شيئاً اعتادوا ان يقولوه عن الفلسطينيين: ما عاد هناك شيء نخسره او نخاف عليه! ما عاد هناك اثر للخوف ولله الحمد منذ عشرات السنين، لكن كانت عندي اوهام باقية حول ما يستحلون فعله وما لا يستحلونه، وقد بقي ذاك الوهم حتى اواسط التسعينات لسوء الحظ، وأنا مقتنع الان انهم ومنذ اواسط الستينات ما كان عندهم حلال ولا حرام؛ بل استباحة لكل شيء تربينا وتربوا عليه! نحن كنا منصرفين للتصارع حول طرائق وسبل تحرير فلسطين، وهم كانوا منصرفين للتخطيط كيف يسيطرون علينا ولا شيء غير ذلك!
رأيت ميشال كيلو عدة مرات في الشهور الثلاثة الماضية.

لكنه ما حدثني بشيء عن بيان تصحيح العلاقات اللبنانية ـ السورية؛ بل فعل ذلك صديق مشترك لنا.

وقد رأيت في البيان شجاعة ونزاهة اعرفها عن الـ17 مثقفاً الذين اعرفهم من بين عشرات الاخوة الشوام الموقعين.

وما من واحد من هؤلاء إلا وعرف أهوال الاعتقال وحجر الحرية والمنع من السفر، وتضييق سبل العيش، ولأسباب أقل بكثير من توقيع البيان.
قد تطول مدة اعتقال ميشال كيلو وقد لا تطول، لكن الذي اعرفه منه وعنه انه خلّف وراءه ومنذ مدة الخوف والوهم.

ووضع نصب عينيه هو والمئات من زملائه وتلامذته هدف الحرية، الحرية للشعب السوري، وللأمة العربية.

قال لي مرة، وقد سألته عن رئيس لجنة حقوق الانسان، وكانوا قد سجنوه لأيام: يا حسرة، أنت تسألني عن كيفية الوصول لمراعاة الحد الأدنى من حقوق الانسان، وكرامة الانسان، بينما الذي نطمح اليه ان يكفّوا عن المنّ علينا بما حقّقوه لنا وللأمة العربية من عزة وازدهار! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
—————-
المستقبل – الجمعة 19 أيار 2006 – العدد 2269 –

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…