التغيير الجيوسياسي حقيقة قادمة.

 

حمدو يوسف

 

الوعي هو المعرفة مسبقاً بحقيقة الأشياء، بسبب التراكم الكمي و النوعي للإدراك في طريق الوعي، أي إن الإدراك مرحلة تسبق حالة أشمل تسمى الوعي.
يتشكل الوعي من تفاعل الإنسان مع البيئة، فتتولد الأفكار من الوعي، ثم من خلال التعلم و التربية تتسع دائرة المعرفة التي تشكل قوة إضافية تساعد على قيام ثورة في وعي الإنسان، في اللحظة التي يكون قد أصبح فيها واعياً حقاً.
فالوعي لا يتشكل عن طريق الحواس الخمسة و رؤية ماحوله فقط، إنما يحتاج الى توالد افكار تنقله من مرحلة إلى مرحلة أكثر تقدماً عن الأولى. لأن الحياة في حركة دائمة.
والوعي يميز الإنسان عن بقية الكائنات، و يمكنه من اختيار الفعل الصح من الخطأ. لان الأخطاء تنتج من اللاوعي.
الطفل عندما يمد يده إلى موقد ساخن فإنه سوف يحرق يده بالتاكيد ، اذا لم يدرك هذه الحقيقة فلن يتشكل عنده الوعي الذي يمنعه من تكرار المحاولة .
و تكون النتائج أكثر كارثية كلما تجاوزنا مثال الطفل و الموقد إلى تشكيلات بشرية اكبر و اوسع ،

 

في ٢٥ كانون الاول من عام ١٩٩١ أعلن رئيس الاتحاد السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف استقالته في خطاب وجهه إلى الشعب السوفيتي عبر التلفزيون الرسمي للاتحاد السوفيتي،
و قال في خطابه: إن مكتب رئيس اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية قد أُلْغِي. وأعلن تسليم كافة سلطاته الدستورية بما فيها السلطة على الأسلحة النووية الروسية، إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسن، و انهار الاتحاد السوفيتي كأسد أقدامه من خزف وسط ذهول الاعداء قبل الأصدقاء.
أدرك السياسيون و الواعون في العلاقات الدولية، أن العالم تغيير، و سوف يُعاد تشكيله من جديد، بما يتناسب مع مصالح النظام العالمي الجديد ، النظام احادي القطبية، ولا مناص من إجراء تغييرات سياسية عميقة طواعيةً، والا فانها ستواجه رياحا عاتية تقتلع الأبنية من اساساتها.
على الصعيد الداخلي قبل أسبوع من الحل الرسمي للاتحاد، كانت جميع الجمهوريات المكونة للاتحاد السوفيتي ، بما فيها روسيا نفسها، قد أعلنت انفصالها عن الاتحاد بشكل فردي، و غيرت من سياساتها الداخلية و الخارجية ، بناءً على إدراكها لحقيقة ما جرى، و وعيها لخطورة المرحلة التالية، مرحلة ما بعد انهيار النظام ثنائي القطبية الذي كان يتقاسم العالم.
على صعيد الدول الأوربية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي و التي كانت جزءا من منظومة وارسو، الدول التي أجرت تغييرات في نظامها السياسي بشكل سلمي مثل تشيكسلوفاكيا بلدانها و شعوبها عاصفة الدمار التي غيرت كل شيء بالقوة .
أما الدول التي عارضت رياح التغيير مثل رومانيا فقد ثار الشعب فيها ضدّ نظام نيكولا شاوشيسكو الذي انتهى بقتلِهِ بطريقةٍ بَشِعةٍ، و حصل التغيير ،
في يوغسلافيا ، قبل استقالة ميخائيل غورباتشوف من رئاسة الاتحاد السوفيتي قام بزيارة قصيرة الى بلغراد يحمل معه رسالةٍ من الأمريكيّينَ مفادُها الآتي: سيّد سلوبودان ميلوسوفيتش فكّكَ يوغسلافيا بهدوءٍ أو سنأتي لتفكيكِها بالقوّة. تعنت ميلوسوفيتش فكان مصيره و مصير نظامه السياسي نهاية مأساوية.
في آسيا ، أدرك حزب الشيوعي الفيتنامي ، الذي قارع الإمبريالية الفرنسية و الأمريكية عقودا من الحرب الدامية و انتصر فيها ، حقيقة التغيير و مآلات انهيار الاتحاد السوفيتي، فبادر الى إجراء إصلاحات داخلية طواعية و انقذ نفسه و انقذ فيتنام.
في الدول العربية، في لحظات انهيار الاتحاد السوفيتي كان صدام حسين غائبا عن الإدراك و الوعي السياسي عما يحدث في العالم، فقد كان يقلد حافظ الأسد شريكه في العقيدة السياسية و عدوه اللدود الذي استولى على لبنان في ظروف غير مشابهة، فدخلت جيوش صدام حسين دولة الكويت وجعل منها محافظة عراقية، ظناً منه أنه يستطيع العبث بخرائط جيوسياسية الشرق الأوسط.
أتت امريكيا بجيش جرار ، و معها تحالف من أكثر من ثلاثين دولة فأُخرج الجيش العراقي من الكويت و تم تدميره ، و بعد حصارٍ الرهيبِ دام قرابة عقد من الزمن، جاءَ الأمريكان مرة ثانية بأنفسِهم ليضعوا نهاية لنظام صدام حسين ولتفيككِ العراق.
سوريا، في شهر تشرين الأول من عام ٢٠٠٤ وصل وزير الخارجية الأمريكية كولن باول إلى دمشق حاملاً في جعبته قائمة بالمطالب الأمريكية، وضعها أمام المسؤولين السوريين ، وقال لهم لن نعود مرة ثانية لنستفسر عن تنفيذها، وشدد على أن بلاده لا تنوي مهاجمة سوريا ولكن النظام السوري إذا أراد البقاء فعليه أن “يتأقلم” مع المتغيرات الإقليمية.
دمشق نفذت بعض المطالب الخفيفة التي وردت في اللائحة، و ايضاً أتت أمريكيا مع تحالف دولي كبير الى سوريا و المنطقة.
الآن ، أمريكيا و حلفائها حاضرون في لبنان في مطار حامات، في حوض البحر الأبيض المتوسط ، في غزة ، في البحر الأحمر و الخليج و الأردن و سوريا و العراق ، و على إيران و غيرها من الدول التي تعمل لضرب المصالح الأمريكية و حلفائها أن تنفذ لائحة المطالب الأمريكية و تتأقلم مع المتغييرات الإقليمية.
فهل تدرك إيران و دول استانة أن أمريكيا التي فككت الاتحاد السوفيتي و الاتحاد اليوغسلافي لن تثنيها مجموعة الميليشيات عن مواصلة التغييرات الجيوسياسية في المنطقة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…