عندما يُخنقك مدّعي إنقاذك

ماجد ع  محمد
من شبه المؤكد أن مسار البشرية لم يكن يوماً عبارة عن أوتوستراد مستقيم وخالي من التعرجات والمطبات الكبيرة، بل صفحات التاريخ تشير إلى أن ذلك المسلك غالباً ما صادف منحدرات أو طلعات وأكواع قاسية جداً، فشعوبٌ تقدمت في مرحلةٍ ما سواء بفضل السلطان أو الحكماء أو المتنورين أو بعض فطاحِل الدين، ولأسبابٍ ذاتية أو موضوعية سرعان ما تداعت وسقطت من فضاء الازدهار وانحدرت نحو قاع الاِنحطاط؛ والأمر السيء في ذلك التغيير هو أن أيَّ تقهقر للملة عندما تجتمع فيها عوامل الخراب وتنتشر الأوبئة بينها في عصرٍ من العصور تكون القيم والأخلاق المجتمعية أولى الضحايا إبان الأسقام التي تصيب تلك المجتمعات، وعلى مستوى التصرفات الفردية والجماعية فإن السوري الذي يُعاين أحوال مجتمعه بعيداً عن المفاخرة بالماضي والتي تحرمه من رؤية الحاضر كما هو، ففي لحظة التصالح مع الذات سيلاحظ بأن الكثير من أبناء الشعب السوري يعيشون مرحلة الاِنتكاس في معظم المجالات وخاصةً في الجانب السلوكي.
والحقيقة التي تجرح مشاعر معظم أصحاب الأحلام الكبيرة في ذلك المجتمع عادةً ما تباغتهم بمرارتها ساعة الإقرار بما هو قائم الآن، حين النظر إلى الواقع الذي يتخبطون فيه حالياً عوضاً عن تحقيق ولو شيء ضئيل من الأماني التي كانت تتلألأ في القمة قبيل انطلاق مسار التغيير في البلد، وخاصةً في الجوانب التي ثاروا بسببها، وذلك بعد أن تحسسوا ذواتهم وهم في مراتع هي دون التي كانوا عليها في الأمس.
عموماً فبما أن مرامي عبارة “حاميها حراميها” غدت مفهومة من قِبل معظم الناس حتى ولو لم يعرف بعضهم قصتها الحقيقية التي تواطأ فيها القاضي مع اللص بعد أن أعطاه اللص حصة مما سرقه من ثلاثة أشخاصٍ من طلاب العلم في بغداد، وبما أن تكرار الجُمل المحفوظة في الذاكرة الجمعية قد لا يكون له الأثر المطلوب، بل وغالباً ما يتم تجاهل كل ما يأتي في إطار الإعادة مهما كان الموضوع جديداً أو مهماً، لذا كان اختيارنا لعبارة المنقذ الذي يخنق من ادّعى إنقاذه، والتى تلخصها قصة ذكرها “أنتوني دو ملو” حيال القرد الذي راح يُخرج السمكة من الماء ويضعها على الشجرة لتختنق في الهواء بداعي إنقاذها من الهلاك في الماء!
ومناسبة الكلام أعلاه هو أن الجهات العسكرية التي ادّعت بأنها جاءت لتخليص الأهالي في منطقة عفرين الواقعة على الحدود السورية ـ التركية من سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD ، فعلت وتفعل بحق الأهالي منذ الشهر الثالث من عام 2018 ما لم يفعله بأهل المنطقة السلطان السابق وكذلك الأمر الذي سبقه في إدارة المنطقة طوال حكمه، خصوصاً إذا ما علمنا بأن تنظيم PYD أوان إدارته للمنطقة لم يفرض على أكبر ملاكي أشجار الزيتون في المنطقة أكثر من 10 تنكات زيت وقت الموسم، والملاكين العاديين فرضت عليهم تنكة أو تنكتين زيت لا أكثر إبان الموسم، بينما الكثير من الجهات العسكرية الحالية فما من طريقةٍ فعالة لسلب وتشليح المواطن إلاّ ولجأت إليها، وقد كتب في هذا الإطار منذ أيام عضو الائتلاف الوطني السوري آزاد عثمان على صفحته الشخصية متهكماً هذه العبارة: “اقترح أن نعطي كل ممتلكات عفرين للفصائل وهنن يعطوا الذكاة من هذه الممتلكات لأصحاب الممتلكات”، ويبدو أن أحدهم طالبه بحذف البوست لئلا يطاله الضرر، بما أنه مقيم في منطقة عفرين وبمقدور أي جهة عسكرية هناك اعتقاله أو إلحاق الأذى به على طريقتها في إلحاق الضرر، طالما ما من جهة قادرة على لجم جماح المنتهكين، أو الوقوف بوجههم، أو وضع حدٍ لهم غير الذي سلّطهم على رقاب الأهالي، ويظهر أن الذي سلَّطهم على الرقاب آخر همه آلام ومواجع الأهالي، طالما أن أهدافه الاستراتيجية لا تتحقق إلاَّ على حساب إهانة وآلام المدنيين العزل، عموماً فالبوست الذي جاء في أعقاب البوست الأوَّل هو في نفس سياق البوست الذي تم حذفه، والمنشور الأخير الذي بقي صامداً ولم يتم إزالته حتى الآن على أقل تقدير جاء فيه: “مو بس بأوروبا في ضرائب عنا في: ضريبة الأشجار ، آجار الحراسة ، عُشر المعصرة ، ضريبة كساح الشجر، زكاة المال، حصة الأمنية، حصة الحواجز، ضريبة الاغتراب، ضريبة العودة للقرية، ضريبة استرجاع البيت، حصة الوراثة، حصة الغائبين، نَص الوكالات،  يا ريت تأخدوا كل شئ وتعطوا صاحب الرزق فقط الذكاة”.
وتأكيداً للكلام المذكور أعلاه فقد نشرت منظمة حقوق الإنسان في منطقة عفرين بتاريخ 14/11/2023 قائلةً: إن عناصر المكتب الإقتصادي التابع لفصيل الحمزات بقيادة المدعو عبدالله الملقب أبو نديم ومساعده المدعو أبو حميد  يفرضون “الأتاوة  عينية  ـ  مالية ”  بنسبة 50 ٪ من محصول الزيتون على الحقول العائدة ملكيتها إلى السكان الأصليين من الكُرد المهجرين قسراً من القرى الخاضعة لسيطرتها الأمنية، والقرى التي تم فرض الضرائب عليها هي كالتالي:” معراته، بازيكه،  بتيتة، مزن، جوقة، داركير، عندرية، الباسوطة، برج عبدالو، بابليت ، كفرشيلة،  كفربطرة،  شيخ عبد الرحمن،  تل حمو ،  تلف، كفرزيت، كوكبة،  كفيرة،  كازيه،  فريرية،  خلنيرة، فقيرا ، كوركان ، كفردليه تحتاني ، كفردليه فوقاني”، ولفتت المنظمة إلى أنه بالرغم من امتلاك أقرباء المهجرين الوكالات القانونية الصادرة عن محكمة عفرين والمصادق عليها من قبل المجلس المحلي  للمدينة، إلا أن الجهات المسلحة المذكورة لا تعترف بتلك الوكالات بناءً على السلطة الممنوحة لها في المنطقة في صنع ما تريد بدون حسيبٍ أو رقيب.
والأنكى من ذلك هو أن هذه الجهات التي تدَّعي ليل نهار محاربة النظام السوري في دمشق تطالب عبر رئيس المكتب الإقتصادي التابع لها بأن تكون الوكالات القانونية صادرة عن المحاكم التابعة للنظام السوري حصراً!؟ وأن تكون الأوراق الثبوتية المتعلقة بالعقارات صادرة عن  دائرة السجل العقاري بمدينة حلب التابعة لإدارة النظام السوري!؟ 
ووفق شهادات الأهالي والمنظمات الحقوقية أن الإدارات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام تحاكي النظام بصورة فجة بل وتزاود في ممارساتها على ممارسات النظام، ومنها على سبيل الذكر أن النظام السوري فرض على كل سوري في الخارج حين دخوله إلى سورية العام الماضي صرف مئة دولار بالعملة السورية لكي تستفيد الدولة من فارق الصرف ومن العملة الأجنبية، أي لم تأخذ الدولة المبلغ المذكور من السوري العائد من الخارج، إنما فقط طالبته بصرف مئة دولار بالعملة السورية عند الدخول.
بينما معبر جرابلس الحدودي الذي يديره المناهضون للنظام السوري فقد فرض منذ أيام على كل سوري ينوي زيارة أهله في الشمال السوري دفع ضريبة 100$ وعندما جوبه القرار بشيء من الرفض والاستنكار، وبدلاً من التراجع عن القرار الأخرق، رفعت إدارة المعبر المذكور المبلغ الذي سيدفعه العائد لإدارة ذلك المعبر إلى 200$ فتصوروا يرعاكم الله على هذه المفارقة العجيبة والغريبة من قِبل أناس فضحوا في الأمس مؤسسات النظام لأنه طالب الناس بصرف 100$ وليس أخذها، بينما اليوم نفس الجهة التي انتقدت النظام تفرض 200$ على السوري العائد إلى بيته، ولكن ليس ليصرفها إنما لتوضع العملة في جيوب الجهة صاحبة القرار!! وفوقها تراهم في الجانب الآخر يتباكون أمام الشاشات قائلين بأن العالم الحُر خذلهم ولم يساعدهم للتخلص من جور النظام! 
ويبقى الاستفسار الذي يرفع برأسه وفق المعطيات المذكورة هو يا ترى كيف سينصركم العالَم أو رب العالم يا طلاب النجدة من الغرب والعرب إذا ما كانت هذه هي ممارساتكم الميدانية بحق من ادّعيتم بأنكم جئتم لتخليصهم من ظلم السلطات السابقة؟ بينما بناءً على ممارساتكم على الأرض منذ عام 2018 فإذا ما أُجري أي استفتاء حقيقي من قبل المنظمات الدولية فالمتوقع بأن أغلب سكان المنطقة سيقبلون حتى بالشيطان حاكماً عليهم عوضاً عن الرحمانية التي تدعيها الجهات الحالية، لذا من المنطقي ألا يعتريكم الغضب لأن العالم خذلكم، بما أنكم قبل الآخرين خذلتم المحيطين بكم، وخذلتم المعولين عليكم، وخذلتم الناس في الداخل من خلال مارساتكم قبل أن يخذلكم العالم في الخارج، وإذا ما بقيت أخلاقكم على ما هي عليه الآن ينبغي أن لا تتوقعوا أي فلاحٍ في الغدِ طالما أنكم جعلتم الأهالي يحنون لزمن النباش الأوَّل.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…