الاستعراض الخالي من النباهة

ماجد ع  محمد

“نحن من نشتري الحروب بدماء أبنائنا، نبيع الانتصارات 
لألد أعدائنا، نحن من نزرع أراضينا رصاص ومقابر”. 
إدريس سالم
بالرغم من أن الكثير من التنظيمات السياسية التي لها أجنحة استخباراتية أو عسكرية تقترف الأعمال الإرهابية من حين لآخر، هذا إن لم يكن الفعل الإرهابي أصلاً جزء رئيسي من بنية تلك التنظيمات، بل والكثير من دول العالم الثالث وبعض دول أمريكا اللاتينية تمارس الإرهاب المنظّم، ولكن  نادراً ما  تجد جهة أو دولة منها تتفاخر بالأعمال الإرهابية، إنما بالعكس تماماً فهم يمارسون الإرهاب بجميع أشكاله وفنونه ولكنهم يتبرؤون منه، ومن أجل تبرئة الذات من تلك العمليات المدانة في العرف العالمي ترى منفذوها يستخدمون أذكى السيناريوهات لكي يخرجوا منها بأقل التكاليف السياسية أو المعنوية، باستثناء المفتقِر للنباهة الذي يُغريه الاستعراض من دون التفكير بنتائجه، بكونه محروم من نعمة التفكير الإيجابي واستشراف عواقب الأمور، فهو قد ينسب لنفسه أقبح الأفعال التي لم يرتكبها حتى وذلك لكي يقول لمعارفه أو لمحيطه الاجتماعي أو السياسي ها أنا ذا بكامل بلاهتي؛ فأبصروني!!
وكمثال قريب جداً فإن العملية التي استهدفت الكلية الحربية في حمص بسورية والتي بلغ عدد ضحاياها 89 شخصاً ونحو 239 مصاباً، وذلك في حصيلة غير نهائية حسب وزارة الصحة السورية، نظراً لوجود مصابين حالتهم خطيرة وفق وزير الصحة حسن الغباش، علماً أن المرصد السوري لحقوق الإنسان قال إن عدد الضحايا أكثر من 110 قتلى، وبالرغم من أن قتلى العملية بمجملهم كانوا من عناصر وضباط النظام أو من مؤيدي النظام، ومع ذلك لم يتبناها أي تنظيم سياسي أو أي جهة عسكرية معارضة للنظام في سورية وهم بالعشرات ومن ضمنهم التنظيمات المتشددة، بل وفي هذا الإطار نفى عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري منذر سراس في تصريح له بشكل كامل علاقة الجيش الوطني السوري بالتفجيرات التي طالت مواقع النظام العسكرية في حمص؛ بينما عملية أنقرة فسارع حزب العمال الكردستاني إلى تبنيها! علماً أن قادة المعارضة السورية ليس لهم باع أو تاريخ طويل في العمل السياسي والعسكري مقارنةً بحزب العمال الكردستاني الذي مضى على تأسيسه أكثر من أربعين سنة، ولكن من خلال أغلب تصريحاتهم يبدو للمراقب أن قادة ذلك التنظيم كانوا قد قضوا سنواتهم مع أهل الكهف في سباتٍ عميق، لذا لم يتطوروا مع مرور الزمن قيد أنملة، ولا غيروا أساليبهم وتكتيكاتهم واستراتيجياتهم منذ وقت التأسيس إلى تاريخ اليوم، وذلك لأن الشمولية أكبر عائق أمام التغيير أو التقدم للأمام. 
وفي هذا الصدد ثمة ما يشبه الإجماع لدى متنوري شعوب المنطقة على أن أبرز معالم الحزب العقائدي هو الشمولية والاستفراد بقرار الحل والربط وقرار السلم والحرب نيابة عن الناس من دون العودة إليهم أو استشارتهم في العمليات أو الخطوات المدمرة، إذ ليس على الرعية إلاّ تحمل تبعات القرار الأخرق للتنظيم ودفع ثمن حماقة تصرفات أو أوامر أو تصريحات قادته، وهو بالضبط ما يتجرعه الآن سكان المناطق الكردية في سورية، بعد أن تبنى حزب العمال الكردستاني عملية أنقرة التي كانت شبه بالونية لعدم إيراد الخسائر مقارنةً بتبعات تبني تلك العملية والكوارث التي جلبها التنظيم المذكور للسكان الكرد في سورية.
وحيال الغاية من التفجير الصوري في أنقرة طرح الكاتب عنايت ديكو تساؤلاً جوهرياً قال فيه: ” عندما ألقى الأمن التركي القبض على زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان في أدغال كينيا فلم يفعلوا أي شي؟” فمن الذي دفعهم للفعل الأخرق اليوم وما مِن مناسبة عظيمة تضاهي اعتقال الزعيم؟ وقد يقول قائل بأن التنظيم المذكور أراد من خلال هذه العملية استعراض القدرة على شن الهجمات في العمق التركي، ولنفترض أن هذا التصور وارد إن كان التنظيم هو الفاعل الحقيقي وليس فقط طُلب منه التبني بعد التنفيذ، فهل ثمة فائدة ولو بنسبة واحد بالمئة تعود للتنظيم أو لأنصاره من خلال هذه العملية؟ خصوصاً إذ ما عُرف أنه غير العمليات العسكرية التركية داخل سورية في أعقاب عملية أنقرة فقد فتم اعتقال العشرات من المواطنين الكرد داخل تركيا ممن تشك الأجهزة الأمنية بقربهم الفكري من ذلك التنظيم.
وبالعودة إلى تساؤل الاستاذ ديكو فإذا كان الزعيم لدى الأحزاب الشمولية هو القيمة العظمى والشخص الذي يستأهل القيام بأي شيء كرمى بقائه أو خلاصه، ومع ذلك فيوم اعتقال الخاقان الأعظم للحزب لم يُحرك أنصاره أي ساكنٍ يُقلق راحة الدولة التي اعتقلته بطريقة بدت مهينة لكل من شاهد لحظات الاعتقال، إذن مَن الذي يُحرك التنظيم الآن؟ مَن الذي يدعوه إلى تبنى الأعمال النتنة؟ ومَن الذي يطالبه بهكذا أفعال مدانة عالمياً وليس ثمة خطب عظيم يوازي اعتقال الزعيم للقيام بهكذا تصرفات خرقاء، في الوقت الذي تبحث الدولة ليل نهار عن ذريعةٍ للهجوم على المناطق الكردية في سورية لمحاربة حزب الاتحاد الديمقراطي التابع الأيديولوجي لحزب العمال الكردستاني؟ ثم ما الفائدة التسويقية البخسة من وراء عملية أنقرة الاستعراضية، مقابل الأهداف التي حققتها تركيا داخل سورية بسبب تلك العملية الهزيلة، وحيث أن الطائرات والمسيرات التركية حسب نشطاء الداخل قصفت ودمّرت ما يقارب  70 موقعاً منذ 5 تشرين الأول 2023 إضافة إلى أعداد الضحايا.
عموماً فالتصرف الاستعراضي الأخير لحزب العمال الكردستاني لا يذكرنا إلاّ ببعض ما أورده المؤرخ الإيطالي كارلو شيبولا في كتابه “الغباء البشري” الذي أشار فيه إلى أن (الشخص الغبي هو شخص يؤذي الآخرين دون أن يحصل على أيّ مكسب، على عكس قاطع الطريق الأكثر قابلية للتنبؤ بتصرفاته والذي يحقق مكسباً من إيذائك، والغبي يعمل بالضد من مصلحته ومصلحة الآخرين)، ولا شك أن الغباء إذا ما ارتبط بمنبر سياسي أو ديني أو عسكري فإن التكلفة على المجتمع تصبح كبيرة للغاية. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…