سعيد يوسف
مدخـــــــل :
النصّ أيّ نصّ هو لغةٌ مكتوبة، خطاب يتقاطع فيه جملة أفكار ومفاهيم، مشكّلاً في النهاية مساحةً مباحةً للقراءة. يتناوله القرّاء بالدّرس والتحليل والنقد والتأويل، بغية زعزعة سكونه واستقراره. للنصّ سطحٌ وقاع، له ظاهرٌ وباطن، إنه يقول أشياء ويضمر معانٍ وأشياء أخرى، فهو يماري ويواري، يجادل ويحجب، ويتستر ويخفي ما لا يقوله، من هنا ضرورة استنطاقه واستجوابه. عندئذ تظهر تناقضاته الداخلية، وفراغاته البينية، وتنفجر المعاني وتنكشف الزلات والانزلاقات، والقوى المتنافرة التي تعمل في النهاية على فضح ألاعيبه، وهتك ادعاءاته.
في مقالٍ نشر على موقع “ولاتي مه” تاريخ /25/9/2023/. يعلن د. عبدالحكيم بشار عن اكتشاف صفة جديدة لتضاف للذات الكوردية، على الصعيدين الفردي والجمعي. تلك الذات التي تئن بالأساس وتنحني تحت وطأة الاتهامات والمؤامرات التي تثقل كاهلها، فبعد كونه من سلالة الجان، أو قادماً من مجاهيل الشرق، كافرٌ وزنديق، قومٌ رفع عنهم الغطاء، قطاع طرق، وعملاء وانفصاليون…
هذه الأوصاف والإدانات التي لصقت وتلصق بهم من جهة خصومهم العنصريين والشوفينيين، ليست إلا مقدّمة لتبرير ممارسة كل أشكال العنف والابادة، وفنون القمع والقسوة ضدهم باعتبارهم مارقون وخارجون على الجماعة والقانون أيضاً.
وإذا بهم الآن يُتهمون أو يُدانون بتهمة جديدة، لكن هذه المرة جاءت التهمة من بني جلدتهم…الذي لم يتردد في جلد الذات الكوردية، وطعنها بخنجر مسموم وفي خاصرته بتهمة “العزلة والانعزالية”.
يتكشّف وينطوي نص د. حكيم بشار، و من خلال قراءته وتحليل مضمونه، وتفكيكه على
النقاط والأفكار التالية :
أولاً – يتضمّن سؤالاً محوريّاً، وأسئلة متفرّعة عنه، أما السؤال المحوري فهو : لماذا لا أصدقاء لنا…سوى الجبال..؟ هذا السؤال هو عنوان كتاب لصحفيين بريطانيين أحدهما جون بلوخ والثاني لم تسعفني الذاكرة على استحضار اسمه، والكتاب من ترجمة. أ. راج آل محمد.
فما السبب يا ترى… هل العيب فينا، والتقصير منا..؟ وما علّة عجزنا عن نسج علاقات اجتماعية تفاعلية مع محيطنا الاجتماعي المختلف، وعقد صداقات وديّة معهم كي يعرفوا حقيقة قضيّتنا ومشروعيّة حقوقنا..؟ الشعب العربي هنا نموذجاً..!
للإجابة عن هذه الأسئلة يستعين د. حكيم بشار بخبرته الحياتية، وكذلك ملاحظاته الميدانية المستمدّة من صفحات الفيسبوك، ليخرج بنتيجة قطعية فحواها أنّنا شعب انعزالي ونتوجّس ونخشى من الانفتاح على الآخر، وأنّ الانعزالية صفة متأصّلة في كينونتنا السيكولوجية، بمعنى أنّها حالة فطرية لا فكاك منها…!
ممّا يؤكد أنّ العلّة فينا نحن، والتقصير منا..؟ هذا الحكم قد يصحّ على حال الأقليات المذهبية الصغيرة، ومثلها العرقية. أمّا في حال الكورد فالوضع مختلف تماماً…
أليست القرى الكوردية مجاورة للقرى العربية، ألا تعجّ أسواق مدننا وحاراتنا بالكورد والعرب.. ؟ ألا يوجد في دمشق وحدها ما يقارب المليون كوردي، ومثلهم في مدينة حلب…وكذلك دوائرنا الحكومية ومدارسنا…الممنوعة من استعمال وتداول الحديث فيها بغير العربية. هل الكورد هم الذين أنشأوا الحزام العربي في الجزيرة السورية كي يعزلوا أنفسهم عن المحيط العربي..؟ وهل كان بإمكان الكوردي احداث ثقوب في جدران قاعة مؤتمر القمة الاسلاميّ الذي عقد في مدينة الكويت/وربما عمّان. بعد قصف مدينة حلبچة الكوردية بثلاثة أيام، أولئك المؤتمرون الذين عجزت ضمائرهم الاسلامية، عن سماع أنين الأطفال وعويل الثكالى…أوشمّ رائحة الكيماوي…؟
ألم تكن للمنظمات السياسية الكوردية علاقات متينة مع المنظمات الفلسطينية…التي لم يتردد زعيمها ياسر عرفات في تأييده لعمليات الإبادة من جانب السلطة العراقية بحق الشعب الكوردي، في الجيب الصّهيوني العميل بحسب وصف الرّوائي المصري جمال الغيطاني في كتابه “حرّاس البوّابة الشرقية” عندما حلّق ذات مرّة بطائرة مروحية في سماء كوردستان.
بعد كلّ هذا هل نحن اخترنا العزلة، أمّ الآخرون يفرضونها علينا قسراً وبالقوة المفرطة..؟. في مسعىً منهم
لطمس هويتنا وإبادتنا…هل يتجرّأ الدكتور الإشارة إلى جرائم السلطات التركية، وكذلك جرائم فصائلها الارهابية المنفلتة عن كل رادع أخلاقي وقانوني.
فهل المسألة بعد كلّ هذا تحتاج إلى بناء صداقات ودية ونسج علاقات محبّة وكسب الثقة أم أنّها مسألة حقوق لا تقبل المساومة والمناورة…؟ أم أنّ خطابه السياسي فنّ جديد من أساليب السياسة يستعصي علينا فهمه واستكناه مضمونه…؟ مؤكّد أنّ أبعاد المسألة أكبر بكثير من كل هذه التصورات والتهويمات والطلاسم.
في الحقيقة وتلك قناعة لا تشوبها شائبة… أقول أنّ الآخرين هم الذين يتوجّسون منّا ويخشوننا : تركاً وعرباً وفرساً، لأننا لسنا أقلية، بل أمّة كبيرة، وقوية بكل المقاييس سوى أننا ممزقون وفي شقاق بينيّ…! وبسبب كوننا أقوياء، يلجأ خصومنا إلى كل أساليب القهر وكيد المؤامرات ضدنا على المستويين الإقليميّ والدوليّ. فالقضية ليست قضية الانعزالية والخوف من الآخر بحسب تحليل د. حكيم بل هي مسألة مصالح ولعبة توازنات وتكتلات وتحالفات.
ثانياً- إنّ إدانة الذات الكوردية “بالعزلة والانعزالية”. يعني من جملة ما يعني، تحميل الكورد مسؤولية فشلهم في تحقيق أهدافهم، ويعني في الوقت ذاته منح صكّ براءة للآخر الخصم المناوئ، واعطائه وثيقة حسن سلوك وشهادة تقدير مجانية. وشهادة مثل هذه لها مكانتها المميّزة والخاصة كونها جاءت بتوقيع من شخصيةٍ قيادية لها اعتبارها، وكل كلمة أو تصريحٍ فيه خطأ أو زلل له أهميته وتكلفته الباهظة التي قد يدفع ثمنها الشعب الكورديّ.
وبذلك يقفز د. حكيم على كلّ المآسي والويلات التي عاناها الشعب الكوردي على أيدي زبانيته وجلاديه، ولن أدخل في سرد الوقائع والجرائم فهي جليّة لكلّ متبصّر، وبادية للعيان.
ثالثاً – بالتساوق مع البند السابق ودعماً له، يخلو المقال من أية إدانات وتهم للسلطات الشوفينية وممارسات أجهزتها الأمنية التي قمعت الكورد وما زالت مستمرة في ممارسة كلّ أشكال الأذى النفسي والجسدي ضدّهم، و وصولاً للاغتيالات والإعدامات، وعلى مدى عقودٍ طويلة. وكلّ ذلك بهدف فرض العزلة عليهم وكمّ أفواههم.
ولهذا نلاحظ خلوّ المقال من مفاهيم القمع والتطرّف والعنصرية والشوفينية…فهل هذا النّقاء سعيّ للودّ والصداقة، وحسن النيّة والملاطفة، أم أنّه تجاهلٌ وقفز على التجريح والتقريع وتعرية سلوكيات الآخر المشينة والمقيتة…؟ أو ربما أيضاً عن “خوف وتوجّس”. بحسب ما ورد في نصّ الدكتور، أو ربما لغايات ومصالح خفية نجهلها أو ربما مكيافيلية جديدة في السياسة الكوردية المعاصرة.
ومثلما تجنّب د. عبدالحكيم بشار وصف الأنظمة الشمولية بالعنصرية والتطرف…؟.كذلك أخذ جانب الحيطة والحذر في وصف المعارضة بأية صفة مقيتة، أو إدانة لما ارتكبته وترتكبه ميليشياتها من جرائم مكشوفة لا حصر لها في المناطق الكوردية المحتلة كما في عفرين وسرى كانييه و غيرهما…التي أفرغت من سكانها.
تلك المعارضة التي وصف رئيسها نصر الحريري أعضاء المجلس الوطني الكورديّ بأنّهم موظّفون لديهم، فيما وصف شيخ المحامين هيثم المالح الكورد في سوريا بالضّيوف. أمّا الشوفينيّ الآخر أحمد كامل فينفي تسجيل أيّ حضور للكورد في تاريخ الشرق، وأمّا الفصائل المسلحة فحدّث ولا حرج، فهي تمارس الإرهاب الممنهج، وبدعم مكشوف من دول إقليمية…
رابعاً – وعلى خلفية “الانعزالية الاختيارية”. ينسف الدكتور حكيم نضال مائة سنة من العمل السياسي للحركة الكوردية ورجالاتها ضارباً بها عرض الحائط، مما يعني الفشل الذريع للسياسي، ودون تحقيق أدنى اقتراب من الحقوق والمكاسب، والعلّة هي سايكولوجية العزلة والتقوقع المتأصّلة في طبيعة الشخصية الكوردية.
حقّاً إنّه لحكمٌ يدعو للاستغراب بقدر ما يدعو للاستهجان، إذ كيف يمكن تصديق فشل الكورد في ايصال رسالتهم للآخر عبر نشاطات حركتهم، خلال عقود طويلة برغم امتلاكهم لكلّ وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية…
فقط يسجّل د. حكيم بشار شهادة اعتراف لثلّةٍ من الكتّاب الكورد القديرين، فيذكرهم بأسمائهم…أولئك الذين تمكّنوا بجهودهم الفردية من تسجيل اختراقات في الجسد الاجتماعي والحقل الثقافي للآخر المغاير، وتمكّنوا من إحداث ثقوب في جدران الخوف والتوجّس، وحطّموا السياج الدوغمائي المغلق للانعزالية، مؤسّسين بذلك لنسج علاقات صداقاتٍ راسخة مع الآخر وايصال رسالة الكورد إليهم، وبذلك يشكّل نجاحهم نموذجاً يحتذى به، وما على السياسيّ الكورديّ إلا الاقتداء بهم والسير على خطاهم. إلّا أنّ ذلك كما يبدو لي ومن خلال قراءة النّصّ المعنيّ يحتاج قروناً طويلة بسبب حجم القضيّة وصعوبة العمل وبطئه في كسب الأصدقاء.
وهنا ينبغي توجيه سؤالٍ للدكتور : لماذا لم يتمكّن هو الآخر من كسرِ حاجز الانعزالية، وبناء صداقات مع الآخرين، وهو السياسيّ المحنّك والمخضرم الذي يعمل منذ عقود من الزمن في الحقل السياسيّ، ويتبوّأ قمة الهرم السياسيّ في حزبه، فضلاً عن كونه يشغلُ منصبَ نائب رئيس الائتلاف السوريّ المعارض منذ عقد من الزمن…ألم يكن كافياً كل هذا النّضال الطويل لإحداث شرخ ولو بسيط في النسيج المجتمعي السوري.
أليس هذا جلداً للذات وإدانة لها من حيث يدري أو لا يدري…!.
فهل سقط د. حكيم ضحية الحتمية السيكولوجية التي وَسَم بها الكورد…؟.أم تراه ماذا يمكن له أن يجيب، وما عساه أن يقول…؟ هل يسابق الزمن، ليعلن براءته مما حصل وجرى… كان الأجدر به الاعتراف بفشله واخفاق مجلسه، وتقديم الاعتذار للشّعب الكوردي، لكنّه آثر تحميل الذّات الكوردية المنغلقة بمستوييه الفرديّ والجمعيّ مسؤولية الفشل كاملةً.
فهل يمكن القول أننا أمام استحضار جنائزيّ لما يسمى بالمعارضة السورية ومن ضمنها المجلس الوطني الكوردي… ؟ ربّما يكون هذا الاستشعار…أيضاً إحدى أهم القراءات المضمرة في ثنايا النص كاستراتيجية ضمن قواعد اللعبة التي كتمها، ولم يبح بها خطاب العزلة والانعزالية.