الصراع التركي – الكردي .. الأسباب .. وخيارات الحل

عبداللـه إمام *

    مرةً أخرى ، طفت على سطح واجهة قضايا منطقة الشرق الأوسط أحداث جديدة لقضية قديمة متجددة هي القضية الكردية بشقها التركي.

وحيث أن هذه الأحداث لم تنبع من فراغ فإنها لن تنتهي إلى فراغ، بل سيكون لها نتائج هامة على صعيد هذه المنطقة.

الأســــباب :

    لم تكن عملية قيام حزب العمال الكردستاني بقتل خمسة عشر جندياً تركياً هي السبب الوحيد لهذه الأزمة التي امتدت بتداعياتها إلى تدخل الجانب الدولي فيها عبر مواقف قوية، بل ربما يكون ذلك هو السبب المباشر الذي دفع بالحكومة التركية إلى التهديد بالتوغل العسكري داخل حدود الدولة العراقية التي تحتوي في قسمها الشمالي على إقليم كردستان، وجاء هذا التهديد مدعوماً بالضوء الأخضر الصادر عن مجلس الأمة التركي (البرلمان) وكذلك بالعقلية العنصرية للمؤسسة العسكرية التركية التي تبحث عن هكذا فرصة لاستعادة جزء من نفوذها المتقزم منذ فوز حزب العدالة والتنمية التركي في التحكم بمقاليد كل من الحكومة والبرلمان ورئاسة الجمهورية في تركيا.
    أما الأسباب غير المباشرة للأزمة الحالية فهي – بالإضافة إلى الوضع التركي الداخلي المتأزم – تعود إلى مشروع التغيير الذي يعمل عليه الجانب الدولي بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، والذي قطع أشواطاً مهمة في مسيرته، بدءاً من العراق حيث أدى إلى انبثاق كيان كردي في إقليم كردستان العراق وتحقيق الشعب الكردي فيه مكاسب قومية هامة وتاريخية لا يخفى تأثيرها القريب أو البعيد على أبناء الأمة الكردية المنتشرين على أرض وطنهم المقسم بين دول المنطقة الأربعة (تركيا، إيران، العراق، وسوريا)، ذلك التأثير الذي لن يرضي العقلية الشوفينية التي تحكم أنظمة كل من تركيا وإيران وسوريا، تلك العقلية التي لا تكتفي بإنكار وجود الشعب الكردي وحرمانه من حقه في تقرير المصير بل تمارس شتى صور الاضطهاد القومي ضد هذا الشعب.

    إن ما يجري اليوم من أحداث تلقي بتداعياتها ليس فقط على مصير المشروع التغييري المشار إليه أعلاه وعلى العلاقات الثنائية بين الدولتين الجارتين: تركيا والعراق، بل إن تجربة إقليم كردستان العراق هي المستهدفة بالدرجة الأولى من قبل كل من يتسبب في تعقيد الوضع وتأزيم القضية ووضع العراقيل في طريق إيجاد الحلول المناسبة لها والتي ينبغي أن تعيد الحقوق إلى أصحابها وتضع الحدود في وجه كل من يسعى إلى خلق الفوضى لإضعاف المشروع التغييري وإفشاله – أو على الأقل تأخيره – من خلال تقوية «محور الممانعة» المتمثل بالأنظمة الشمولية والقوى السلفية حيث أن العمل جارٍ من قبل حلقات هذا المحور على تعزيزه وتقوية أوراقه.

خيارات الحل :
    إن الخيارات التي سنتطرق إليها في هذا المقال كسبل للوصول إلى الحل المناسب للمسألة تستلزم سعياً متعدد الأبعاد (النظام التركي – حزب العمال الكردستاني – الدول الإقليمية – القوى الدولية ..)، وعلى كل واحد من هذه الأبعاد / الأطراف أن يلتزم بالمبادرة لإيجاد الحل، علماً بأن تلك الأبعاد متكاملة ومتبادلة التأثير والتأثر.

النظام التركي :
    إن النظام التركي هو المسؤول الأول عن استمرار القضية الكردية في تركيا بدون حل، فهذا النظام يرفض الاعتراف الدستوري بوجود الشعب الكردي في تركيا ويحرم هذا الشعب من حقوقه القومية ويمارس أبشع أنواع الاضطهاد القومي بحقه..

وإن هذه السياسة الشوفينية القمعية من قبل النظام التركي هي التي أدت وتؤدي إلى بروز قوى كردية منظمة تنادي بإيجاد حل للقضية الكردية في تركيا، وما نشوء حزب العمال الكردستاني إلا نتيجة لسبب وواحداً من إفرازات السياسة العنصرية التركية حيال الكورد وقضيتهم.

وبناءً على ذلك فإن هذا النظام مطالَب اليوم وأكثر من أي وقت مضى بالتخلي عن توجهه الشوفيني وممارسته العنصرية ضد الشعب الكردي، والإقدام على البحث عن حل سياسي سلمي للقضية القومية الكردية في كردستان تركيا، من خلال اللقاء والتحاور مع ممثليها، وهم لا ينحصرون في حزب العمال الكردستاني بل هنالك قوى كردية تمارس العمل السياسي وتعتمد الأسلوب السلمي وتؤمن بالخيار الديموقراطي، وستكون مرتاحة جداً لمبادرة تركية من هذا القبيل وستقبلها بكل ترحاب.

حزب العمال الكردستاني (PKK) :
    حيث أن سائر الكورد مرتاحون لتجربة كردستان العراق باعتبارها إنجازاً تاريخياً متميزاً للأمة الكردية وملكاً لجميع أبنائها وقاعدة قومية ينبغي الحفاظ عليها وصيانتها وتطويرها والاحتذاء بها في معرض إيجاد الحلول للقضية الكردية في باقي أجزاء كردستان، وحيث أن أسلوب العمل المسلح في هذا العصر يزيد من منتقدي العمل القومي الكردي ويقوي ذرائع النظام التركي للإجهاز على تجربة كردستان العراق، وحيث أن قيام PKK بجمع عناصر من باقي أجزاء كردستان وتوجيههم إلى الحرب في كردستان تركيا (التي يبلغ عدد الكورد فيها حوالي 20 مليوناً وقد صوّت معظمهم لصالح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة) يضرّ بالحركة القومية الكردية في باقي أجزاء كردستان من خلال تفريغها من الطاقات الشبابية التي يعتمد عليها العمل القومي الكردي بالدرجة الأولى، وحيث أن التجربة أثبتت فشل نظرية «أولوية الجزء الكردستاني الأكبر» التي طرحها PKK إذ أن الوضع الكردي في كردستان العراق هو الأكثر نجاحاً وتقدماً رغم كونه الجزء الكردستاني الثالث من حيث المساحة وعدد السكان.

فإننا نرى بأن المطلوب راهناً من حزب العمال الكردستاني هو ما يلي:
1- إجراء مراجعة شاملة لتجربته وتقييمها منذ لحظة النشوء وحتى اليوم، للوقوف على ما طرأ على القضية الكردية وعلى وضع الكورد وحركتهم القومية – سلباً أو إيجاباً – نتيجة عمل PKK ، وما هي نتائج طروحات هذا الحزب من النواحي النظرية (الفكرية والسياسية) والعملية (أسلوب العمل المسلح)، وإعطاء جواب صريح وجريء على السؤال الأساسي التالي: ماهي الإضافة المفيدة التي صنعها PKK بالنسبة للقضية الكردية في كردستان تركيا خصوصاً وباقي أجزاء كردستان عموماً، وذلك منذ لحظة نشوء هذا الحزب وحتى اليوم.
2- اعتبار تجربة كردستان العراق مكسباً كردياً تاريخياً وبذل كل ما يمكن في سبيل صيانتها، وعدم خلق الذريعة للقوى التي تبحث عن كل فرصة وكل حجة من أجل إفشال هذه التجربة خصوصاً، والمشروع التغييري للمنطقة عموماً.
3- التخلي عن أسلوب العمل المسلح والتحول إلى العمل السياسي السلمي كسبيل للبحث عن حل للقضية الكردية في كردستان تركيا.
4- العمل من داخل تركيا وكردستان تركيا وعدم الانطلاق من أي جزء كردستاني آخر، وكذلك الاعتماد على أبناء شعب كردستان تركيا أساساً في العمل من أجل حل القضية الكردية في تركيا، وترك أبناء الشعب الكردي في الأجزاء الكردستانية الأخرى يعملون في ولأجزائهم بصورة مستقلة وبدون أي تدخل.

الدول الإقليمية :
    نستطيع تقسيم الدول الإقليمية في موضوعنا هذا إلى قسمين: الدول التي تقتسم أرض كردستان، والدول التي تشكل الدائرة الأوسع سواء أكانت عربية أم إسلامية.
    لقد مارست أنظمة الدول التي تقتسم كردستان سياسة واحدة من حيث المبدأ ضد الكورد، ويمكن اختصارها بسياسة إنكار الوجود والحقوق والممارسة العنصرية والاضطهاد القومي..

واختلفت أشكال وأحجام تلك السياسة والممارسة من نظام إلى آخر.

ورغم استمرار ذلك لعشرات من السنين فإن الأمة الكردية بقيت محافظة على وجودها واستمرت حركتها القومية في النضال بمواجهة تلك الأنظمة حتى يومنا هذا.

واليوم فإن الأنظمة في هذه الدول مطالَبة بالتخلي عن تلك السياسة والإقدام على فتح صفحة جديدة مع الكورد بالتعاقد معهم على أساس الاتحاد الاختياري والشراكة العادلة بين الشعوب.

وعلى هذه الأنظمة أن تعي بأن بقاء القضية الكردية بدون حل داخل واحدة أو أكثر من الدول المقتسمة للوطن الكردي، سيؤثر سلباً على وضع جميع تلك الأنظمة وسيكون المتضرر الأكبر هو شعوب المنطقة قاطبة وليس الكورد وحدهم.
    وبناءً على ما سبق فإن الموقف المطلوب راهناً من هذه الأنظمة هو تشجيع النظام التركي على إيجاد حل سياسي للقضية الكردية وحل كافة الأزمات الناجمة عنها بالحوار والطرق الدبلوماسية والسلمية..

ويأتي الموقف الذي عبر عنه الرئيس السوري مؤخراً في أنقرة في أواسط شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي متناقضاً مع ما ندعو إليه ومع المواقف والمواثيق الدولية بما فيها تلك التي تعود إلى منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
    أما بالنسبة للدول الأخرى في منطقة الشرق الأوسط فهي بدورها معنية بالأمر إلى درجة ضرورة مبادرتها إلى طرح الحلول الملائمة عبر التلاقي والتحاور بين الأطراف المعنية مباشرة بالموضوع، انطلاقاً من مبدأ كون الأمة الكردية جزءاً أساسياً من تاريخ المنطقة وراهنها ومستقبلها، وأن ممارستها لحقها في تقرير مصيرها سيتمخض عن نتائج إيجابية لمصلحة كافة أمم المنطقة وشعوبها وعلى جميع الأصعدة.

القوى الدولية :
    إذا كان النظام التركي هو المسؤول الأول عن استمرار القضية الكردية في تركيا بدون حل كما ذكرنا أعلاه، فإن القوى الدولية هي المسؤول الأول عن نشوء هذه القضية وعن التأسيس للمأساة الكردية منذ بدايات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
    فهذه القوى هي التي قامت بتقسيم المنطقة بما ينسجم مع النتائج التي تمخضت عنها الحرب العالمية الأولى، وكان الكورد ووطنهم الضحية الأساس من ضمن تلك النتائج.

وقد ثبت من خلال الوضع السياسي والاقتصادي الناشئ منذئذٍ خطأ ذلك التقسيم في جوانب كثيرة منه، وخاصةً فيما يتعلق بالكورد الذين عانوا كثيراً من مرارة المآسي والويلات الناجمة عن تقسيم وطنهم..
    وقد أدى ويؤدي بقاء القضية الكردية بدون حل إلى عدم تمتع المنطقة بالاستقرار المطلوب لخلق المناخات الاستثمارية والاقتصادية التي تبحث عنها القوى الدولية لضمان مصالحها الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية.
    وعلى هذا فإن المطلوب من هذه القوى الدولية هو أن تبادر إلى تصحيح خطئها وإعادة النظر في سلوكها والعمل على إيجاد حل عادل للقضية الكردية.

ويبدو من سياسات هذه القوى أنها مقبلة على إعادة النظر المطلوبة، ليس حباً بالكورد بل رضوخاً لمصالح دول تلك القوى بالذات وقبل كل شيء.

أبعاد أخرى (بدلاً من الخاتمة) :
   تأتي الحركة السياسية الكردية في سائر أجزاء كردستان في مقدمة الأطراف المطالَبة باتخاذ الموقف القومي السليم في هذه المرحلة التاريخية الحساسة.

وهي حتى الآن لم تقصّر في هذه الناحية، وكان الموقف الذي اتخذته القيادة الكردية في العراق خصوصاً موضع ارتياح كبير لدى سائر الكورد.
    أما الشعوب الأخرى في المنطقة فإن قواها ومنظماتها المدنية والأهلية ورأيها العام مطالبة بالعمل على وضع الأسس السليمة لبناء الشراكة العادلة على أساس إيجاد عقد جديد يكون الاتحاد الاختياري بين شعوب المنطقة أساسه.

وذلك خير من حالة الوحدة القسرية التي فرضتها القوى الأجنبية على هذه الشعوب منذ بدايات القرن المنصرم، والتي تعود إليها معظم مشاكل وأزمات المنطقة ومآسي شعوبها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

E – mail : baveroni@yahoo.com

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…