أكرم البني
يجانب الصواب من يعتقد أن الحرب على الجبهة الكردية – التركية سوف تمر مرور الكرام على أكراد سورية، وأنها لن تنعكس بتعاطف واسع مع حزب العمال الكردستاني، وهو الحزب الذي نشط في البلاد لسنوات عديدة وبنى شبكة من الأنصار والمؤيدين، مثلما يجانب الصواب من يندفع إلى اعتبار التظاهرة التي جرت منذ أيام في مدينة القامشلي، وتم قمعها بأشكال شتى بما في ذلك إطلاق الرصاص، هي مجرد فعل لعملاء مندسين يضمرون شراً بالبلاد وأمنها.
صحيح أن ثمة خصوصية لأكراد سورية بصفتهم الكتلة الأصغر مقارنة مع التواجد الكردي في البلدان الأخرى، تركيا والعراق وإيران، وأنهم موزعون في مدن متباعدة في القامشلي وحلب ودمشق، وصحيح أن المشاعر القومية لأكراد سورية ارتبطت تاريخياً بالحراك الكردي في بلدان الجوار.
وكلنا يتذكر حركة التطوع الواسعة من أجل دعم البشمركة في شمال العراق (1974 – 1975) ثم انجذاب أغلب الشباب والفتية للقتال في جبال كردستان إبان الوجود شبه العلني لحزب العمال الكردستاني في الساحة السورية أواخر القرن الماضي، مثلما نتذكر كيف لعبـت الحـالة السيـاسية المتطورة لأكراد العراق، قبل وبعد إطاحة صدام حسين، وما منحته الفيدراليـة من حقـوق قـومية لإقليم كردستان واختيـار جلال طالباني رئـيـساً للبـلاد، دوراً في انـتـعاش حراك الأكراد السوريين سياسياً وشعبياً وتكاثر همومهم وسجالاتهم حول شروط حياتهم ومستقبلهم.
لكن الصحيح أيضاً أنه لا يمكن بأي حال إخفاء الأسباب الداخلية للاحتقان الكردي والذي تنامى بسبب شعورهم بالغبن والظلم مع استمرار سياسات التمييز وتجاهل مطالبهم المشروعة، وأبسطها منح مئات الألوف منهم الموطنة السورية بعد أن جردوا من الجنسية بفعل ما سمي الإحصاء الاستثنائي عام 1962، ولا يغير من هذه الحقيقة تكرار الوعود الرسمية ومن أعلى السلطات بحل عاجل لهذه المعضلة!.
بلا شك تتحمل السلطات السورية مسؤولية مزدوجة تجاه ما يجري وما سوف تذهب إليه الأمور، مرة بإصرارها على تجاهل خصوصية الوضع الكردي وإهمال مطالبه وحقوقه المشروعة، ما انعكس إحباطا سياسياً واحتقاناً اجتماعياً في صفوفهم، ومرة باعتماد الوسائل الأمنية والقمعية للحد من تطلعاته والتغافل عما يشكله من خطورة وحساسية راهنة، فالتطرف يولد التطرف، ومن الخطأ والخطر في آن، إهمال المشكلة الكردية وتأجيل حلها وتعميم أفكار شوفينية تطعن بحقوق أكراد سورية دون توقع رداً من الطبيعة ذاتها، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الجميع.
والحقيقة إنه لم تتضح في سورية معالم «مشكلة قومية كردية» بمعنى المشكلة، إلا بفعل تعاقب سلطات غير ديموقراطية استمدت مشروعيتها من أيديولوجية مشبعة بالتعصب القومي، لا مكان في دنياها للتنوع والاختلاف أو احترام التعددية ومصالح القوميات الأخرى.
الأمر الذي أشاع مناخاً من الشك والريبة حول الوضع الكردي في سورية وصدق انتمائه الوطني وشجع بعض غلاة التطرف القومي على ابتكار أساليب متنوعة لاضطهادهم وسلبهم حقوقهم كمواطنين ربما تمهيداً لتغييب دورهم كأقلية قومية في التكوين الاجتماعي السوري.
لكن من دواعي العدل والإنصاف القول إن تطور الحس القومي لأكراد سورية وتناميه لم يتكرس كاتجاه عام على حساب الولاء للوطن، فإذا استثنينا قلة من الأصوات المغالية في التطرف التي تروج لأفكار طفولية لا تمت إلى الواقع بصلة، فإن الحركة السياسية الكردية تتفق جميعها على شعارات تؤكد على الانتماء السوري وتدعو إلى تمتين أواصر الأخوة العربية الكردية والحريات العامة، وهو ما أظهرته وأغنته المشاركات المتكررة وأشكال التنسيق المتنوعة السياسية والثقافية بينها وبين القوى العربية المعارضة ثم اندراجها كقوى رئيسة في صفوف إعلان دمشق للتغير الوطني الديموقراطي.
هذه الروح تحتاج لتلاقيها من الجانب العربي وبخاصة من جانب المعارضة الديموقراطية بمواقف تنتظر التطور وبعض الجرأة، وتحديداً لجهة إعادة النظر بأفكارها القديمة، بشعاراتها ومفاهيمها عن المسألة القومية بشكل عام وعن المسألة القومية في خصوصية مجتمعنا، وهي إعادة نظر ينبغي أن تأخذ في الاعتبار إن بناء المجتمع الصحي لا يمكن أن يتحقق في صيغة إنسانية عادلة إلا على قاعدة الديموقراطية وحقوق الإنسان والاعتراف المبدئي والعملي في آن، بالتعدد والتنوع القومي والثقافي وبالعمل لإرساء مناخ يوفر أفضل فرص للتفاعل الإنساني والتكامل بين هذه القوميات والثقافات لمصلحة التنمية والتقدم، أو بعبارة أخرى لم يعد بالإمكان الحديث عن الأفق القومي وحل مشكلاته دون العمل أولاً لنصرة الديموقراطية في مجتمعنا، خاصة بعد أن تحولت الفكرة القومية إلى فعل استبدادي مغلق ومفرغ من أي بعد حضاري عميق، مثلما لم يعد ينفع لتسويغ شعارات التطرف العربي القول بأننا نخوض صراعاً مع الصهيونية أو مع القوى الخارجية الساعية للهيمنة على المنطقة.
فالمهمة الملحة تتمثل اليوم في نقد الفكر الشوفيني ومحاربة التصورات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من معايير وقيم متخلفة لا تزال تتحكم بعقولنا، وتالياً بذل الجهد الأساس لنصرة قيم الحرية والعقلانية والمساواة، والتي دونها لا يمكن حفز العطاء المشترك، وضمان سلامة تطورنا القومي والإنساني.
يصح القول أن تأزم الحالة الكردية في سورية لا يزال قابلاً للتطور والتفاقم، وما حدث في القامشلي مرشح أن يتكرر تاركاً الباب مفتوحاً على العديد من الاحتمالات السيئة، وبالتالي من الخطر الاستكانة إلى لحظات هدوء مزيفة أو الاستمرار في الترويج لنظرية المؤامرة أو الإصرار على إدارة الأزمة أمنياً والاستقواء بأصوات لا تزال تفخر بنجاعة خيار العنف والقمع في مواجهة الأحداث الراهنة مثلما نجح في مواجهات سابقة، دون أن تأخذ في الحسبان خصوصية وحساسية ما يحصل وأنه يتم في ظل متغيرات نوعية عالمية وإقليمية لا سابق لها، تنذر بعواقب مؤلمة على حاضر البلاد ومستقبلها.
كاتب سوري
وكلنا يتذكر حركة التطوع الواسعة من أجل دعم البشمركة في شمال العراق (1974 – 1975) ثم انجذاب أغلب الشباب والفتية للقتال في جبال كردستان إبان الوجود شبه العلني لحزب العمال الكردستاني في الساحة السورية أواخر القرن الماضي، مثلما نتذكر كيف لعبـت الحـالة السيـاسية المتطورة لأكراد العراق، قبل وبعد إطاحة صدام حسين، وما منحته الفيدراليـة من حقـوق قـومية لإقليم كردستان واختيـار جلال طالباني رئـيـساً للبـلاد، دوراً في انـتـعاش حراك الأكراد السوريين سياسياً وشعبياً وتكاثر همومهم وسجالاتهم حول شروط حياتهم ومستقبلهم.
لكن الصحيح أيضاً أنه لا يمكن بأي حال إخفاء الأسباب الداخلية للاحتقان الكردي والذي تنامى بسبب شعورهم بالغبن والظلم مع استمرار سياسات التمييز وتجاهل مطالبهم المشروعة، وأبسطها منح مئات الألوف منهم الموطنة السورية بعد أن جردوا من الجنسية بفعل ما سمي الإحصاء الاستثنائي عام 1962، ولا يغير من هذه الحقيقة تكرار الوعود الرسمية ومن أعلى السلطات بحل عاجل لهذه المعضلة!.
بلا شك تتحمل السلطات السورية مسؤولية مزدوجة تجاه ما يجري وما سوف تذهب إليه الأمور، مرة بإصرارها على تجاهل خصوصية الوضع الكردي وإهمال مطالبه وحقوقه المشروعة، ما انعكس إحباطا سياسياً واحتقاناً اجتماعياً في صفوفهم، ومرة باعتماد الوسائل الأمنية والقمعية للحد من تطلعاته والتغافل عما يشكله من خطورة وحساسية راهنة، فالتطرف يولد التطرف، ومن الخطأ والخطر في آن، إهمال المشكلة الكردية وتأجيل حلها وتعميم أفكار شوفينية تطعن بحقوق أكراد سورية دون توقع رداً من الطبيعة ذاتها، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الجميع.
والحقيقة إنه لم تتضح في سورية معالم «مشكلة قومية كردية» بمعنى المشكلة، إلا بفعل تعاقب سلطات غير ديموقراطية استمدت مشروعيتها من أيديولوجية مشبعة بالتعصب القومي، لا مكان في دنياها للتنوع والاختلاف أو احترام التعددية ومصالح القوميات الأخرى.
الأمر الذي أشاع مناخاً من الشك والريبة حول الوضع الكردي في سورية وصدق انتمائه الوطني وشجع بعض غلاة التطرف القومي على ابتكار أساليب متنوعة لاضطهادهم وسلبهم حقوقهم كمواطنين ربما تمهيداً لتغييب دورهم كأقلية قومية في التكوين الاجتماعي السوري.
لكن من دواعي العدل والإنصاف القول إن تطور الحس القومي لأكراد سورية وتناميه لم يتكرس كاتجاه عام على حساب الولاء للوطن، فإذا استثنينا قلة من الأصوات المغالية في التطرف التي تروج لأفكار طفولية لا تمت إلى الواقع بصلة، فإن الحركة السياسية الكردية تتفق جميعها على شعارات تؤكد على الانتماء السوري وتدعو إلى تمتين أواصر الأخوة العربية الكردية والحريات العامة، وهو ما أظهرته وأغنته المشاركات المتكررة وأشكال التنسيق المتنوعة السياسية والثقافية بينها وبين القوى العربية المعارضة ثم اندراجها كقوى رئيسة في صفوف إعلان دمشق للتغير الوطني الديموقراطي.
هذه الروح تحتاج لتلاقيها من الجانب العربي وبخاصة من جانب المعارضة الديموقراطية بمواقف تنتظر التطور وبعض الجرأة، وتحديداً لجهة إعادة النظر بأفكارها القديمة، بشعاراتها ومفاهيمها عن المسألة القومية بشكل عام وعن المسألة القومية في خصوصية مجتمعنا، وهي إعادة نظر ينبغي أن تأخذ في الاعتبار إن بناء المجتمع الصحي لا يمكن أن يتحقق في صيغة إنسانية عادلة إلا على قاعدة الديموقراطية وحقوق الإنسان والاعتراف المبدئي والعملي في آن، بالتعدد والتنوع القومي والثقافي وبالعمل لإرساء مناخ يوفر أفضل فرص للتفاعل الإنساني والتكامل بين هذه القوميات والثقافات لمصلحة التنمية والتقدم، أو بعبارة أخرى لم يعد بالإمكان الحديث عن الأفق القومي وحل مشكلاته دون العمل أولاً لنصرة الديموقراطية في مجتمعنا، خاصة بعد أن تحولت الفكرة القومية إلى فعل استبدادي مغلق ومفرغ من أي بعد حضاري عميق، مثلما لم يعد ينفع لتسويغ شعارات التطرف العربي القول بأننا نخوض صراعاً مع الصهيونية أو مع القوى الخارجية الساعية للهيمنة على المنطقة.
فالمهمة الملحة تتمثل اليوم في نقد الفكر الشوفيني ومحاربة التصورات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من معايير وقيم متخلفة لا تزال تتحكم بعقولنا، وتالياً بذل الجهد الأساس لنصرة قيم الحرية والعقلانية والمساواة، والتي دونها لا يمكن حفز العطاء المشترك، وضمان سلامة تطورنا القومي والإنساني.
يصح القول أن تأزم الحالة الكردية في سورية لا يزال قابلاً للتطور والتفاقم، وما حدث في القامشلي مرشح أن يتكرر تاركاً الباب مفتوحاً على العديد من الاحتمالات السيئة، وبالتالي من الخطر الاستكانة إلى لحظات هدوء مزيفة أو الاستمرار في الترويج لنظرية المؤامرة أو الإصرار على إدارة الأزمة أمنياً والاستقواء بأصوات لا تزال تفخر بنجاعة خيار العنف والقمع في مواجهة الأحداث الراهنة مثلما نجح في مواجهات سابقة، دون أن تأخذ في الحسبان خصوصية وحساسية ما يحصل وأنه يتم في ظل متغيرات نوعية عالمية وإقليمية لا سابق لها، تنذر بعواقب مؤلمة على حاضر البلاد ومستقبلها.
كاتب سوري
الحياة – 08/11/07//