صلاح بدرالدين
هناك خطأ منهجي فادح مازال البعض من الباحثين يقترفونه في معظم الدول المتعددة القوميات خصوصا لدى النخب الثقافية في البلدان التي يتوزع فيها الكرد بوطنهم المجزأ،وبصورة أوضح بين مثقفي القومية السائدة في سوريا، وهو الخلط – ومعظمه متعمد – خلال تعريف الهوية بين القومي، والديني، والمذهبي، فالهوية القومية كما هو معروف هي الأساس والثابت، اما الانتماءات الدينية، والمذهبية، فيمكن ان تكون قابلة للتغيير في كل لحظة، وهي الصفة للاولى وتابعة لها، فقد يكون العربي مسلما اومسيحيا او سنيا، او شيعيا، وعلويا، ولكن تبقى هويته القومية ثابتة، وقد يكون الكردي من حيث المعتقد مسلما اومسيحيا، او ازيديا، او سنيا او علويا او شيعيا ولكنه كردي من حيث الهوية والجذور التاريخية .
على صعيد البلدان العربية عموما هناك اشباه مثقفين وينعتون انفسهم بصحف خليجية وشمال افريقية با ( المفكرين ! ) وهم في حقيقة الامر يخدمون – مرجعيات شوفينية ومذهبية – في المنطقة، اخترعوا تعريفات مزيفة حول الهوية بمايخدم الأنظمة المتورطة في سحق الهويات القومية الاخرىى ( سوريا – العراق – ايران ) وخصوصا الهوية القومية الكردية، واالهوية القومية الامازيغية، فامام هاتين الهويتين تراهم ( صم بكم عمي ) تارة باسم الاندماج الوطني، وأخرى باطلاق ( هويات فرعية ) أي الاقلال من قيمتها في ما يشكل الامازيغ اكثر من النصف في معظم بلدان شمال افريقيا، والهوية القومية الأولى في تلك البلدان، والكرد غالبية في مناطقهم ويشكلون الهوية القومية الرابعة بالشرق الأوسط بعد الهويات القومية العربية، والتركية، والفارسية، وقد وصل الامر ببعض هؤلاء حجب مبدأ حق قرير المصير عن هاتين الهويتين الاصيلتين، الاصليتين، العريقتين .
هذه الحقيقة لاتنفي حصول متغيرات استثنائية عابرة وغير ثابتة في مراحل تاريخية معينة بحياة الشعوب وبينها الشعب الكردي،بمعنى منح الأولوية للانتماء المذهبي على حساب الهوية القومية من جانب فئات وفي مناطق معينة، وفي ظروف محيطة غير اعتيادية، ففي بد اية ماسميت بثورة الخميني في ايران، ولدى اعلان الحرب على شعب كردستان الإيرانية انحازت جماعات من أصول كردية تنتمي الى المذهب الشيعي الى النظام وضد بني قومها، وحصل امر مشابه بدرجة اقل في العراق، كما ان الكرد العلويين بتركيا واجهوا الإشكالية نفسها .
أقول قد يكون الخلط متعمدا او ذريعة للتهرب في اتخاذ الموقف السليم من القضية الكردية، استنادا الى تجربتي الطويلة في العمل السياسي، فغالبا وخلال العقود الستة الأخيرة كنا نسمع من محاورينا السوريين من اليسار، واليمين، والقومي، والليبرالي، خلال طرح ومناقشة الوضع الكردي، كشعب محروم من الحقوق، وحتى الاعتراف بوجوده، ومايعانيه من اضطهاد يومي ممنهج ، ان ( سوريا فسيفساء من الاقوام، والديانات، والمذاهب، والطوائف ) وان تمت الاستجابة للكرد فيجب تحقيق مطالب الجميع من مسلمين ومسيحيين، وعلويين، ودروز، وسنة، وشيعة، وبعد ذلك ستنتهي سوريا كدولة، هذه السردية حفظناها على ظهر قلب، ومازلنا نسمع صداها حتى اليوم بطريقة – ناعمة – ( الحل يكمن في حقوق المواطنة ؟!) .
نعم لايمكن الاستهانة بدور الدين، والمذهب في الحياة الاجتماعية كانتماء، واحيانا كمرجعية لدى البعض خصوصا لدى تراجع وافول نجم الحركات الديموقراطية،وعندما يفتقد الناس دولة مدنية،عصرية، ديموقراطية تحترم حق الفرد،والجماعة، وحقوق الانسان، كماشهد تاريخ الشعوب والمجتمعات في مراحل عديدة صدامات، وحروبا دموية باسم الدين والمذهب، والشيع، والاتباع منذ الخلافة الإسلامية، والحروب الصليبية في القرن الثالث عشر.، وكذلك المواجهات العثمانية الصفوية في القرن السادس عشر وحروب جماعات وفرق الإسلام السياسي الدعاوية، والآيديولوجية، والعنفية الإرهابية بالمنطقة والعالم في المراحل الأخيرة .
ولكن منذ بلوغ عصر التمدن والتطور البشري وظهور وتبلور الطبقات الاجتماعية، واندلاع الثورة الفرنسية، وانحسار سلطة ونفوذ الكنيسة، وإقامة الدولة القومية، وانتشار أفكار الحقوق المدنية، والحريات العامة، وحق الشعوب في تقرير المصير القومي، اجمع علماء النهضة وفلاسفتها على اعتبار الهوية القومية هي القاعدة في بناء الدول والنظام السياسي، والمنطلق نحو الحرية، وإقامة النظام الديموقراطي، وترسيخ. التعايش السلمي بين الشعوب، والاقوام، والاثنيات، ومالبثت النخب الثقافية في بلداننا ان استوعبت تجربة العالم الأوروبي المتمدن، وحاولت الاقتداء بها في تنظيم الحركات القومية، والعودة الى احياء وتعريف واستكمال عوامل تشكل القومية والشعب، والأمة .
وما تم ترسيمه من حدود مابعد سايكس – بيكو وضع على أساس قومي وليس ديني او مذهببي فهناك حدود تركيا، وهناك حدود سوريا، والعراق وووو وحتى في رسم تلك الحدود مورس التضليل، والظلم والتجاهل تجاه – الهوية القومية الكردية حيث وضعت دساتيرها الاولى على قاعدة وجود القوم الواحد ( ترك عرب فرس ) كهويات قومية تحكم دولا قومية وتسحق هويات قومية غير معترف بها .
والهوياتي العنصري الحاكم في هذه البلدان الذي يشاراليه من جانب باحثين، والذي يتجسد في أحزاب عنصرية معروفة لها جيوش وأجهزة امن تحميها وتنفذ آديولوجيتها الشوفينية، اما الضحايا من الهوية القومية الكردية ففي موقع الدفاع عن النفس امام حروب الإبادة، والتمثلية القومية ومخططات تغيير التركيب الديموغرافي .
فالهوية الحاكمة السائدة في هذه الحالة تمارس السلطة بلغتها وثقافتها وتبني دولتها القومية، والهوية الضحية ممنوع عليها بالدستور والقوانين والإجراءات ممارسة حتى لغتها.كوسيلة تفاهم وهنا المفارقة والبون الشاسع بين هويتين واحدة ( مستقلة ) افتراضيا حاكمة قطعت اشواطا في التطور القومي الثقافي الاجتماعي وأخرى مازالت محرومة حتى من الالف والباء، وليس من العدل هنا التساوي بين الحالتين او اعتبار الهوياتي الكردي المتاخر عن ركب التطور القومي قسرا وظلما حوالي القرن مثل الهوياتي في القومية السائدة الذي اقام دولته القومية ويمارس الشوفينية تجاه الهوياتي في القومية المغلوبة على امرها، في الأول نزعة تجاهل الاخر وانكار وجوده وفي الثاني الدفاع عن شرعية الوجود، والمساواة، والعيش المشترك والنظام الديموقراطي .
نجد في هذا االعالم المترامية. الأطراف مئات الدول المستقلة في اطر هويات قومية، وحتى الان تشكل الكثير من تلك الدول وخصوصا الغربية الديموقراطية نموذجا في تعايش الهويات بالرغم من الصعاب، والعراقيل، وفي شرقنا، ومنطقتنا نجد دولا قومية تحكمها انظمة مستبدة تحاول الاستمرار باستحواذ السلطة والحكم عبر لبوس الهوية القومية او الوان دينية ومذهبية وتمارس االشوفينية – العنصرية تجاه الهويات الأخرى باسم الامن القومي كوسيلة للبقاء .
من جهة اخرى فان الهويات الأخرى المستهدفة تتصدى سياسيا بالإضافة الى تحقيق الحل لقضيتها المشروعة الخاصة، وانتزاع ماتصبو اليه في الاطار الوطني التوافقي، حمل راية الخلاص من الاستبداد، والدعوة لبناء التحالفات، والجبهات الوطنية لتحرير الأوطان، واجراء التغيير الديموقراطي، وهنا يظهر الفرق الكبير بين طبيعة وجوهر ( هويتين قوميتين ) القومية السائدة الحاكمة الشوفينية، المستبدة، والقومية المحرومة، المضطهدة .الباحثة عن الخلاص، والتي تحمل في سلوكها ومفاهيمها كل عوامل التقدم، والصمود، وهي وبالرغم من ظهور تيارات، ومجموعات حزبية قد توصف بالتطرف، وتنفيذ اجندة خارجية في صفوفها بين حين واخر الا انها عابرة وغير اصيلة، وبصورة عامة فان الهوية القومية المظلومة، مرشحة لحمل لواء الخلاص بالتضامن، والتكاتف مع جماهير القومية السائدة التي بدورها تعاني الاضطهاد الاجتماعي والسياسي، وسائر أنواع القمع .