ثورة أكتوبر الاشتراكية ….البدايات..!

دهام حسن

ـــ 1 ــ

في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم سقطت (التجربة الاشتراكية)، سقط (النموذج السوفييتي للاشتراكية)، وسط ذهول وإحباط الكثيرين، وتساؤلهم غير مصدقين؛ سقطت التجربة بعد نحو سبعين عاما من الحكم السوفييتي، ترى! كيف كانت البدايات؟ وما هو موقف أقطاب الماركسية من ثورة أكتوبر1917 بمختلف تلاوينهم، وبضمنهم من اتهمهم لينين بالانتهازية والارتداد والخيانة؟ وما هي حججهم النظرية عندما بدؤوا فريقا واحدا ثم اختلفوا فكريا؟ ثم كانت القطيعة والتباين في المواقف والمواقع ومن ثم التصادم ..!
بداية أقول: إن تناول مسألة كهذه يقتضي من الكاتب اطّلاعا واسعا، وخلفية معرفية وفكرية، وقراءة متأنية ومستفيضة، وجهدا مضنيا، ولا بد من توافر مصادر عديدة، للاستئناس بأكثر من مصدر، سواء خالف هذا الاتجاه أم وافقه؟ وبصراحة أرى أنه لا يمكن الركون إلى الأدبيات السوفييتية المؤطرة بإطار الحزب الشيوعي السوفييتي ومفاهيمه الصارمة، ولكن!لا بأس من قراءة الحدث في تلك الأدبيات دون الوثوق المطلق به كما اعتدنا، وتعودنا، والتواكل عليه بالتالي، كرأي لا يأتيه الباطل؛ لا أستطيع إلا القول في تناولي للدراسة، أنني لن أخرج إلا بانطباعات ليس إلا!
ــ 2 ــ
من المعلوم أن ماركس وإنجلز كانا يؤكدان غير مرة، عن عدم إمكانية القضاء على الملكية الخاصة، وبناء الشيوعية، إلا في ظروف تطور الرأسمالية تطورا صناعيا ضخما، وظروف روسيا آنذاك، كانت غير ذلك، فقد تحددت بالتخلف الاقتصادي والاجتماعي والصناعي، وكان يسبقها نحو خمسين دولة، من حيث تدرج السلم البياني للتطور، حتى أن لينين كان يرى أن معاناة شعوب الإمبراطورية الروسية ليست بسبب الرأسمالية  في روسيا، وإنما بسبب تخلف الرأسمالية فيها، لهذا كان يقف مع تطور الرأسمالية دون تحفظ،  إذن، كان لينين يدرك قبل غيره حالة روسيا، ويتفهم رؤية ماركس وإنجلز للظروف الموضوعية الواجب توفرها للانتقال إلى الاشتراكية، ومع ذلك فقد وجدناه يقود ثورة أكتوبر بنجاح، ويعلن في ظهيرة يوم الأربعاء في 25تشرين الأول / أكتوبر/ 7 تشرين الثاني / نوفمبر/ بأن:(الثورة العمالية الفلاحية التي تكلم البلاشفة دوما عن ضرورتها قد تحققت)1
إن ثورة أكتوبر أثارت في فترة الإعداد لها، وبعد قيامها مواقف متباينة عديدة، مواقف ماركسية، مؤيدة ومباركة للثورة، أو مناوئة للقيام بالثورة ضمن الرؤية الماركسية نفسها، ولكل فريق رؤيته وتحليله،  فلنستعرض هنا بعض المواقف المعارضة لقيام الثورة بشكلها الذي حدث، وما أحاط بها من ظروف، ثم نعقبها بتحليل من لينين للوقائع, ورده على هؤلاء..
ــ 3 ــ
يعد بليخانوف (1856- 1918) أول الماركسيين الروس، قال فيه لينين بعد وفاته, لا يصبح المرء ماركسيا إذا لم يقرأ كل ما كتبه بليخانوف في الفلسفة، يقول بليخانوف بحق المنتفضين في ثورة  1905 ما كان ينبغي عليهم حمل السلاح، وقبل ثورة أكتوبر دعا إلى ثورة برجوازية- ديمقراطية, ووجوب السعي لكسب مساندة الأحزاب غير البروليتارية, وكان يرى استحالة بناء الاشتراكية في واقع روسيا المتخلف, فالبلاد – برأيه – بحاجة إلى تنمية رأسمالية, وتفتقر بالتالي إلى تقاليد ديمقراطية كما هي في الغرب، بلاد شاسعة يسودها الفلاحون، وراحت صحيفته (الوحدة) في فترة الإعداد للثورة تلفت (انتباه الحكومة إلى أن عمال بتروغراد قد باتوا مسلحين، وتطالب بتدابير حازمة ضد البلاشفة)2 وعند قيام الثورة كان موقف بليخانوف يتلخص بقوله: إن البلاشفة لن يفعلوا شيئا سوى استبدال ديكتاتورية بديكتاتورية، أو حسب عبارته الشائعة (استبدال رداء بلشفي بديكتاتورية قيصرية).
أما كاوتسكي(1854- 1938) فهو من أبرز الماركسيين الألمان بعد وفاة إنجلز عام 1895، عده لينين لاحقا مرتدا عن الماركسية بعد عام 1909 حسب أحد المصادر؛ تناول كاوتسكي مسألة الديمقراطية كجانب في ثورة أكتوبر، فرأى أن البلاشفة قد اختاروا طريق الديكتاتورية، وقضوا بالتالي على الديمقراطية، فقضيتهم إذا، غير صحيحة، وكان يقول: إذا كان صحيحا أن هذا النظام الجديد يتمتع بجذور راسخة بين الجماهير، وأن هذه الجماهير تقف معه ، فما الداعي إذا للعنف والديكتاتورية؟ فالنظام برأيه ينبغي ألا يلجأ إلى العنف إلا من أجل حماية الديمقراطية، لا من أجل إبادتها(3)
أما ترو تسكي (1879 – 1940 ) المعروف بتذبذبه وتقلبه في المواقف، فقد انضم نهائيا إلى لينين أثناء قيام ثورة أكتوبر، وكان من أبرز القادة الذين نشطوا خلال الثورة، بل بديناميكيته يعد الثاني بعد لينين، ويفصل مأثرته كتاب (عشرة أيام هزت العالم لـ  جون ريد) فقد كان يشاطر لينين رأيه بأن (عودة العهد الرأسمالي شيء لا مفر منه دون مساعدة الثورة الاشتراكية في الغرب)،(فالبيروقراطية الستالينية ليست إلا المرحلة الأولى من عودة البرجوازية)4، قالها تروتسكي عام 1940 سنة تصفيته بتدبير من ستالين..
أما المناشفة فقد قال زعيمهم مارتوف:( إن روسيا لم تنضج للاشتراكية بعد)5 وبعبارة أوضح على لسان أحد قادتهم، سوخانوف، وفي نفس المنحى يقول:( إن روسيا لم تبلغ من حيث تطور القوى المنتجة الدرجة الضرورية التي تجعل الاشتراكية أمرا ممكنا)6, وكان البلاشفة ينتابهم الذعر كلما اتسعت سطوة البلاشفة، وازداد نطاق العصيان، لهذا راحوا يقولون: ( إن الحكومة ملزمة بالدفاع عن نفسها وعنا)7، كما أن الاشتراكيين الثوريين- وما أكثرهم – أخذوا يحملون على سياسة البلاشفة في استغلال الاستياء الشعبي وحشد الناس ضد الحكومة، ونعتوها بأنها سياسة( ديماغوجية ومجرمة)، ويمضي غوتز بالقول: إنهم، – أي الاشتراكيين الثوريين مع والمناشفة ( مستعدون للدفاع عن الحكومة المؤقتة بكل قوانا وحتى النقطة الأخيرة من دمنا )8، ومعلوم أن كامينيف وزينوفييف أفشيا للصحافة عن عزم لينين القيام بالثورة وأنهما لا يشاطرانه رأيه متذرعين أيضا بعدم نضج الظروف؛ ولاحقا رأى غرامشي الذي قضى في سجون الفاشية أن ثورة أكتوبركانت ضد ( الرأسمال)أي ضد رؤية ماركس في كتابه – رأس المال- لأنها تتغاضى أو تقفز على الشروط المادية اللازمة للشروع في البناء الاشتراكي.
ـ 4 ـ
ليس من السهل ضمن هذه الآراء والمواقف  والتلاوين على الساحة الروسية الضاجة بالحركة والتفاعلات، توضيح وتقييم موقف لينين بعبارات قليلة، أو تحديده بمسار واحد وحيد، كان لينين منكبا يدرس الواقع، وينطلق منه بتصورات واستفهامات، ولا يتشبث بالنظرية بشكل جامد، وله عبارة ماركسية مشهورة كثيرا ما أستشهد بها في محاجاتي: ( التحليل الملموس للواقع الملموس ) فموقف لينين المتدرج في هذا السياق، يعكس رؤيته للواقع السياسي المضطرب، واطلاعه على التفاعلات الجارية في أوربا الغربية، وتنامي الحركة الثورية فيها، ففي نهاية عام 1904 كتب لينين يقول: (بالنسبة للبروليتاريا ليس النضال من اجل الحرية السياسية، ومن أجل الجمهورية الديمقراطية، ضمن المجتمع البرجوازي أكثر من مرحلة ضرورية في نضالها من أجل المجتمع الاشتراكي)9 أي أن النضال من أجل حكومة ديمقراطية برجوازية مرحلة ضرورية لابد منها للانتقال بعدها إلى النضال من أجل إقامة مجتمع اشتراكي..

وفي عام 1905 كتب لينين : ( إننا لا نستطيع القفز فوق الإطار الديمقراطي البرجوازي)10 إن موقف لينين في هاتين الفقرتين هو ترداد لصدى موقف ماركس وإنجلز، وهو الموقف السائد الذي كان يعتصم به كل أقطاب الماركسية، وهؤلاء كانوا يرجحون أن الغرب الرأسمالي، لا روسيا، هو المرشح لثورة اشتراكية مقبلة، وفي آب 1915 كتب لينين: (إن التفاوت في التطور الاقتصادي هو قانون مطلق للرأسمالية، ينتج من ذلك أن انتصار الاشتراكية ممكن بادئ الأمر في عدد قليل من البلدان الرأسمالية، أو حتى في بلد رأسمالي واحد بمفرده )11؛ وربما هنا راودت لينين فكرة ثورة اشتراكية في روسيا الحلقة الأضعف في السلسلة الرأسمالية، رغم عدم نضوج الظروف على نطاق روسيا بمفردها، مؤملا أن ثورتهم سوف تحفز الطبقات المضطهدة في البلدان الرأسمالية الأخرى إلى الانتفاضة ضد مستثمريهم الرأسماليين؛ وبهذا تكتمل دائرة الثورة وتتعاظم فرص النجاح في المضي قدما نحو التحولات الاشتراكية..
ـ 5 ـ

قامت ثورة شباط البرجوازية، وأطيح بالنظام القديم، وتحققت بعض الحريات، كما توسعت دائرة المشاركة في المؤسسات، لكن الحكومة ظلت أسيرة ارتباطاتها بالدول الإمبريالية، وتحكم الملاكين الكبار، وبقيت مسائل أساسية معلقة دون حل: مسألة الأرض، مسألة السلام، فقدان الرقابة المجتمعية على البضائع والمنتجات، الفقر، الجوع المستشري كالداء في أوصال روسيا، في تلك الحقبة، كان البلاشفة أقلية مقارنة بالمناشفة والاشتراكيين الثوريين في سوفييتات نواب العمال والجنود، وعلى صعيد البلاد أيضا كما يبدو، ففي آذار عام 1917 كان عدد الشيوعيين في روسيا أربعة وعشرين ألف عضو، وجراء خيبة الجماهير الثائرة الساخطة في الحكومة المؤقتة، ظل الاستياء كما هو، وتفاقمت الأوضاع سوءا، فخذل الناس المناشفة والاشتراكيين الثوريين، وانداروا إلى البلاشفة الذين شدوا الرحال والعزم على إسقاط الحكومة، وتقدموا ببرنامج واضح وصريح حول المسائل الملحة، فارتفع عدد الحزبيين إلى ثلاثمئة وخمسين ألف عضو في غضون أقل من عشرة أشهر، وقد انطلق البلاشفة في المؤتمر السادس ـ تموز 1917 بمقررات من موضوعة لينين حول إمكان انتصار الاشتراكية في بلد منفرد واحد، هنا لا بد من التنويه والتذكير بأن الاستياء الشعبي قد عم أرجاء روسيا، وتوسعت دائرة التمرد والعصيان ضد الحكومة، وبعبارة أخرى أن الثورة فرضت نفسها واقعا، فلو لم يقم البلاشفة بالثورة لقام بها آخرون مهما كان نصيبهم من فرص النجاح، ففي نيسان 1917 خرج الناس بمظاهرات وتقدم فوج مسلح من الجنود لاعتقال أعضاء الحكومة رغم معارضة كل الأحزاب اليسارية، إن صح التوصيف، وبضمنهم البلاشفة، وكان بمقدورهم فعل ذلك، ولكنهم تراجعوا، وفي تموز يندلع الغضب الجماهيري من جديد، وصارت الحكومة قاب قوسين أوأدنى من السقوط، فلم يتم استغلال هذا التذمر والاستياء والنهوض الجماهيري من قبل اليسار هذه المرة أيضا، تمسكا بمنهج ومبادئ ماركس ومفاهيمه للثورة الاشتراكية، فسارعت الحكومة في استدعاء القوات لقمع المنتفضين..

فالبلاد، إذا، كانت في حالة غليان وغضب دائمين، فكان أمام البلاشفة أحد أمرين: إما أن يقفوا مع الحكومة ضد الشعب الثائر، كما فعل المناشفة والاشتراكيون الثوريون، ليحكموا على هذا الشعب ربما بالذل والقنانة من جديد، وإما أن ينضموا إليه كما فعلوا ليقوده بالتالي إلى ثورة مظفرة…
ــ 6 ــ
في سياق رده على من انتقدوه، بسبب قيامه بثورة أكتوبر، يستشهد لينين بموقف ماركس من كومونة باريس، فقد عدّ ماركس انتفاضة الباريسيين قبل قيامها ضربا من الجنون، لكنها عندما قامت، وقف ماركس إلى جانبها مؤازرا ومرشدا، وقال في حق المنتفضين:   (الجريئون حتى الجنون)،(المستعدون لمهاجمة السماء)؛ ففي رسالته إلى كوغلمان، يرى ماركس أن البرجوازيين: (وضعوا الباريسيين أمام أمرين لا ثالث لهما، إما قبول التحدي للمعركة، وإما الاستسلام دون معركة.

ولو تمت الحالة الأخيرة، لكان تفسخ معنويات الطبقة العاملة كارثة أعظم بكثير من خسارة أي عدد كان من الزعماء)12، ويستطرد لينين في الدفاع عن موقفه والرد على منتقديه مستشهدا بمواقف ماركس الذي كان يرى:   (أنه لا بد من نضال ضار تخوضه الجماهير في بعض فترات التاريخ حتى في سبيل قضية يائسة، وذلك لأجل تثقيف هذه الجماهير نفسها فيما بعد، لأجل تحضيرها للنضال التالي،)13 وفي رسالة له في عام 1843 إلى أرنولد روغه، يقول ماركس: (نحن لا نقول للعالم كفّ عن النضال فكل نضالك باطل، وإنما نعطيه فقط الشعار الحقيقي للنضال)14 ..
يستشف مما سبق، أن لينين بعرضه لمواقف ماركس من كومونة باريس، وإسقاطها على الواقع الروسي، خلال الثورة، وبعد ذلك، إنما يهدف إلى إظهار صحة موقفه من ثورة أكتوبر؛ فقد محض ماركس تأييده للكومونيين رغم أنه كان قد حكم مسبقا على الكومونة بالإخفاق؛ كأنما يريد لينين أن يقول للمعارضين لقيام ثورة أكتوبر، كان الأولى بكم الوقوف إلى جانب الثورة، وإسداء النصح ، وتقديم ما يلزم من شعارات صحيحة، لا معارضة الثورة وممالأة الحكومة المؤقتة، فالمستقبل مفتوح على احتمالات عديدة، وكما رأينا كان لينين يراهن على ثورة في الغرب الرأسمالي المتطور، لتكون عونا ومدا لثورة أكتوبر، رغم شعور لينين وإدراكه من أن بناء الاشتراكية ليس بسهولة صنع ثورة أكتوبر.

وقد عبر عن ذلك غير مرة..
ـ 7 ـ
وإذا ما تناولنا الديمقراطية، أو نقيضها الديكتاتورية، كجانب في ثورة أكتوبر، نجد أن الواقع يفرز موقفا يفرض نفسه على حكومة البلاشفة، بخلاف ما كان يريده لينين، وكتب فيه؛ فقبل ثورة أكتوبر كتب لينين يقول: (يستحيل انتصار الاشتراكية إذا لم تحقق الديمقراطية  الكاملة، كذلك لا تستطيع البروليتاريا أن تستعد للتغلب على البرجوازية، إذا لم تشنه نضالا ثوريا شاملا دائبا صادقا في سبيل الديمقراطية)15، ولكن بعد ثورة أكتوبر وجراء الدمار والخراب اللذين حلا بروسيا بسبب الحروب الإمبريالية، وإثر التدخل الأجنبي، والحرب الأهلية، دفع لينين ليقول عن عدم إمكانية التطور السلمي نحو الاشتراكية، ثم راح يبرر العنف ضد خصومه السياسيين، ولزوم بث الخوف في نفوس القوى الرجعية لكي تستمر الثورة، ويحافظ الحزب على سيادته، فكان لا بد ـ برأيه ـ سحق مقاومة البرجوازية، وقمع أعداء الثورة، والحفاظ على السلطة من تطاولات الرجعية والمتربصين، في حين كان كاوتسكي كما أسلفنا ينتقد هذا الجانب بقوله: (لأية أسباب يجب أن ترتدي سيادة البروليتاريا، وترتدي بالضرورة شكلا لا يتلاءم مع الديمقراطية)16
ـ 8 ـ
بالرغم أن لينين كان يتفهم الواقع، وينطلق منه، هذا الواقع الذي قلنا فيه فرض على لينين مسارا نضاليا محددا، كان لا بد منه، لكن الواقع الذي تمخضت عنه الثورة، هل هذا الواقع الجديد ـ ترى ـ يصلح للشروع في بناء الاشتراكية ؟ ربما كان هذا أصعب معضلة واجهت لينين، وربما سهام النقد التي وجهت إليه بداية الثورة، أصبحت الآن أكثر أثرا وفاعلية وإيلاما وإحراجا له بعد أكتوبر…
كان لينين مثله مثل سائر معاصريه من الماركسيين، يعلم أن مشروع البناء الاشتراكي، يتطلب شروطا مادية محددة، تكنولوجيا متطورة، تطور الصناعة على الزراعة، مستوى رفيعا من التطور في القوى المنتجة، وكفاءة ثقافية وتقنية للعاملين/17 وكان لينين  يدرك أن الواقع الروسي يفتقر إلى هذه العناصر، وكان كما أسلفنا يراهن على الاشتراكيين الألمان، وقد انتقدهم لتأخرهم في نجدة البلاشفة؛ فالبلاشفة لم يكونوا كما يقول لينين: ( يتصورون في ذلك الوقت انتصار ثورتهم إلا بوصفه حلقة في سلسلة من الثورات الأممية.)18 في عام1919 قال لينين: إن الرأسمالية التي كانت موجودة في روسيا في عام 1903 ما تزال موجودة في الجمهورية البروليتارية، وبعد ذلك بسنتين كتب لينين يقول: (ما دمنا نعيش في بلد من صغار الفلاحين، بقيت للرأسمالية في روسا قاعدة اقتصادية أمتن من قاعدة الشيوعية)19 ـ وكان يعترف دائما بهيمنة البرجوازية الصغيرة، وفي مقابلة له مع صحيفة يابانية في عام 1920، أي بعد مضي ثلاث سنوات من استلام البلاشفة للسلطة، يسأله الصحفي: (أين يمكن أن يتوفر للشيوعية المزيد من احتمالات النجاح، في الغرب أم في الشرق ؟) يجيب لينين على هذا السؤال دون تردد قائلا: (لا يمكن بعد للشيوعية الحقيقية أن تحرز نجاحا إلا في الغرب)20 ـ إن الشروط المادية التي أتينا على ذكرها في سياق هذه الدراسة، لم تكن متحققة أو متوفرة في روسيا، فقد ورث البلاشفة كل سوءات النظام القديم، علاوة على ما خلفته الحروب الإمبريالية، والتدخلات في شؤون روسيا، وما حل بروسيا من دمار وخراب، لوحة سوداء دون شك، مثقلة بالتشاؤم، ألقت بظلالها على مرآة البلاشفة، وتبدد الحلم في نظر البعض إلى سراب، فمال الناس عن الحزب الشيوعي السوفييتي، وتناقص عدد أعضاء الحزب، ففي آذار عام1921ـ كان عدد الشيوعيين الأعضاء/ 732521 /عضوا، تناقص إلى /350000 / عضو، في كانون الثاني من عام1924/ أي تناقص إلى أقل من نصف في غضون ثلاث سنوات..
ـ 9 ـ
لجملة من الأسباب، وما زاد لطين بلّة، أن اتبعت الحكومة سياسة اقتصادية عرفت بشيوعية الحرب، مما زاد استياء الريف، وتذمر الفلاحين الذين ذكرتهم ” شيوعية الحرب ” بعهد القنانة، فبعد استحواذهم على قطعة أرض، أصبح لزاما عليهم الآن العمل فيها، في حين تأني الحكومة تستأثر بالمحاصيل الزراعية تصادرها..

في عام 1921 تخلت الحكومة عن شيوعية الحرب، وطرح لينين “السياسة الاقتصادية الجديدة” التي عرفت اختصارا بـ ( النيب )، فاستعاضت الحكومة عن مصادرة منتجات الفلاحين بضريبة عينية، انتعش الفلاح ووسع من إنتاجه الزراعي، كما سمحت بحرية التجارة، فعادت الحكومة بعلاقاتها التجارية مع الدول الأجنبية، وتم توقيع عقد تجاري بين أمريكا وروسيا، ارتاح لينين بهذا العقد، واعتبره قناة  نحو عالم رجال الأعمال الأمريكي، وشدد على انتهازه ما أمكن، كما سمح باستخدام العمل المأجور، كل هذا أفضي إلى انتعاش الريف، ونمو الكولاك، وتحسنت المعاشات نسبيا، لقد كانت ” النيب ” سياسة اقتصادية جريئة، ومعالجة ذكية للأوضاع، وحققت نتائج، لكنها أيضا بعثت المخاوف  من بعث الرأسمالية من جديد، ثم أنها كانت عاجزة من تذليل العقبات الكبرى، التركة الثقيلة، التي ورثتها ثورة أكتو برعن الحكومة السابقة، كل ذلك اعترض سبيل البلاشفة في تحقيق الحلم المنشود التي راودتهم …
ـ 10 ـ
لم تتبدد مخاوف لينين من عودة الرأسمالية إلى روسيا طالما تضاءل أمل قيام الألمان الاشتراكيين بالثورة، تلك الثورة التي علق عليها لينين كبير الأمل..

لا أقول أن لينين انتابه اليأس، لكنه كعالم كان يحلل الواقع، فمضى به التحليل إلى نتيجة، كان لا يرضى بها، ولا يتمناها، لكن! فالشروط المادية كثيرا ما تعاند أحلام الرجال، وتفسد مشاريعهم، فها قد تبخرت إمكانية قيام الثورة في الغرب، لتقوم  بواجبها الأممي حيال صانعي ثورة أكتوبر، لم يبق أمام لينين سوى  بذل جهوده للمحافظة على النظام السوفييتي، رغم يقينه من عودة الرأسمالية: (كنا على يقين تام من أن انتصار الثورة البروليتارية في روسيا مستحيل دون مساندة الثورة العالمية، قبل الثورة كما بعدها، كنا نقول: إما أن تنفجر الثورة في البلدان الرأسمالية الأكثر تطورا فورا، وإلا عاجلا، وإما أن يحتم علينا الهلاك..

ورغم هذه القناعة، فقد جهدنا كل جهد للمحافظة على النظام السوفييتي مهما كلف الأمر، وفي كل الظروف، لأننا كنا نعلم أن عملنا ليس فقط في مصلحتنا، بل في مصلحة الثورة العالمية)/22 ..

وفي عام /1924 سنة رحيله، قال لينين كلاما أقوى وأوضح مما عرضناه آنفا، إذ هو يقر بالفشل، يقول لينين: ( من الواضح أننا فشلنا، كنا نريد بناء مجتمع جديد بواسطة صيغة سحرية، في حين أن مسألة كهذه تستلزم عشرات السنين وعدة أجيال) 23
لقد تحقق ما توقعه لينين، وما لا يتمناه من عودة الرأسمالية، إلى روسيا..

لكن.! تبقى أسئلة كثيرة مثارة، لحقبة زمنية قد تطول، حول ما آلت إليه أحلام البلاشفة، وهل كان هذا المآل السقوط هو الاحتمال الوحيد.!؟

الهوامش: 
ـ 1 ـ موجز تاريخ المجتمع السوفييتي ص 42
ـ 2 ـ عشرة أيام هزت العالم دار التقدم ص 77
ـ 3 ـ راجع لينين، المختارات ج 8 ص 77
ـ 4 ـ تروتسكي نصوص حول الثورة الدائمة دار الطليعة ص 47 
ـ 5 ـ لينين المختارات ج 8 ص 202
ـ 6 ـ  لينين ج 10 ص562  ـ 7 ـ عشرة أيام هزت العالم ص77
ـ 8 ـ المرجع السابق ص 96
ـ 9 ـ 10 ترو تسكي مرجع سابق ص 29 ـ 30
  ـ 11 ـ لينين ج 6 ص 23
ـ 12 ـ لينين المختارات ج3 ص 83 ـ 84 
ـ 13 ـ لينين / ج 3 ص82 
ـ 14 ـ لينين / ج1 ص41 
ـ 15 ـلينين ج6 ص37 
ـ 16 ـ لينين ج8 ص87
ـ 18ـ17 ـ راجع النظرية الاقتصادية للماركسية ت جورج طرابيشي
ـ 19 ـ لينين /ج  10 ص212
  ـ 20 ـلينين ج 10 ص 14
ـ 21 ـالحزب الشيوعي من مؤتمر لآخر/ كتيّب
ـ 22 ـ كتاب نصوص  حول الثورة الدائمة  ـ  ص 120 مرجع سابق
ـ 23 ـ الأصوليات المعاصرة لروجيه غارودي  ص 23

الجزء الثاني ص 281

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…

خليل مصطفى بتاريخ 22/2/1958 (شهر شباط) تم التوقيع على اتفاقية الوحدة (بين مصر وسوريا)، حينها تنازل رئيس الجمهورية السُّورية شكري القوتلي عن الرئاسة (حكم سوريا) للرئيس المصري جمال عبد الناصر (طوعاً)، وقال لـ (جمال عبدالناصر): (مبروك عليك السُّوريون، يعتقد كل واحد منهُم نفسهُ سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسهُ قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنهُ نبي، وواحد من عشرة…