وائل السواح
يشغلني دائماً سؤال مهمّ، كلّما شاركت في مؤتمر للحوار بين كرد سوريا وباقي أطياف السوريين، مفاده: ماذا يقابل الكرد السوريين؟. فإذا كان الكرد هم الطرف الأول في الحوار أو النقاش أو المفاوضات، فمن يكون الطرف الثاني؟. الإجابة السريعة هي قبل كل شيء: العرب السوريون. ولكنّ في ذلك إرغاماً للطرف الثاني بإلصاق هوية به قد لا يرغب بها، وقد لا تكون صحيحة أساساً.
من هم السوريون؟. لست باحثاً في التاريخ، ولكن ثمة ألوف من السنوات تعود وراءً قبل دخول العرب إلى سوريا. وقد أسست هذه الألفيات سوريا كوطن لمزيج جميل من الشعوب التي مرّت عليها، من آشوريين وكنعانيين وآراميين وفينيقيين وحثيين وأكراد. ولم يدخل العرب سوريا إلا في ربع الساعة الأخيرة من التاريخ. ولئن صبغ العرب سوريا بلغتهم ودينهم، فإنهم لم يصبغوها بعاداتهم وثقافتهم ومطبخهم، فبقي لسوريا ثقافتها المستقلة وفنها وموسيقاها ومطبخها وعاداتها في الحزن والفرح والحصاد والأعياد والجنائز والولادة والموت والغناء والرسم وغيرها.
ثمة مسألة رمزية يعتدُّ بها السوريون، وهي حصولهم على شجرة للعائلة غالبا ما ترجع إلى النبي. بيد أن هذه القصة، إن ابتعدت عن بعدها الرمزي وطلبت أن تعامل كحقيقة تاريخية، فإنها تغدو مزحة ثقيلة. لا شكّ أن العرب جزء من السوريين، ولكن من يستطيع أن يقول: إنه يعود بنسبه فعلا إلى قريش أو تميم أو كنانة أو ربيعة؟. لا تزال تجربة حمض الـ”دي ان أي” التي خضع لها عدد من الشباب يحسبون أنهم بريطانيون والمان وفرنسيون صافون قريبة العهد، حيث وجدوا جميعاً أن أصولهم تعود إلى أعراق غير العرق الذي يشتهون.
بالنسبة لي، بينما أحترم العرب وتاريخهم، فأنا أعتبر نفسي سوريا فقط، مزيجاً من كل الحضارات السابقة التي مرت ببلادنا. وبالتالي، فأنا عربي وآرامي وآشوري وكنعاني وكردي بنفس القدر. ثقافتي سورية وموسيقاي سورية ومطبخي سوري وحزني سوري.
ولنعد إلى السؤال الرئيسي: من يقابل الكرد في طرف المعادلة الأخرى؟ ، عقد مركز “حرمون” للدراسات ملتقى في برلين اسماه “ملتقى هنانو للحوار العربي-الكردي”. ويومها سألت نفس السؤال. وللأسف، بعد يومين كاملين من الحوار والنقاش، لم يؤدِ الملتقى إلى أي نتيجة حقيقية على الأرض. والسبب أن بعض المشاركين جاؤوا وهم متمترسون وراء أفكار مسبقة لا يريدون عنها حياداً. ومثل هذه العقلية لا تؤدي إلى حلول. ما يؤدي إلى الحل هو أن نأتي إلى الحوار خالي البال ومستعدين لسماع الآخر ومحاولة فهم ما يريد من دون مواقف مسبقة غير قابلة للتغيير، وإلا فما فائدة الحوار أساسا؟.
لا جدال في أن ثمة في سوريا قضية كردية، وهي قد تكون وليدة أو مسببا لمشكل في العلاقات بين الكرد السوريين والأطياف الأخرى. وسيكون من العبث أن نتحايل على هذه القضية/المشكل بعيارات من مثل “السوريون أخوة” و”الديمقراطية أو مبدأ المواطنة هما الحل”. صحيح أن الديمقراطية ومبدأ المواطنة هما خطوة على طريق الحل، ولكن جوهر القضية أن ثمة في سوريا جماعة بشرية أصيلة لها مرتكزات إثنية وثقافية ولديها طموحات سياسية ومجتمعية لا بد من مواجهتها. وهنالك، برأيي، قواعد أساسية لمواجهة هذه الاستحقاقات:
أولاً: الاعتراف من حيث المبدأ بحق تقرير المصير للكرد السوريين، بما في ذلك حقهم في الانفصال، إذا أرادوا. ويأتي بعد ذلك ضرورة حل الإشكالات التابعة لذلك: أين وكيف؟ وضع القوميات الأخرى كالآثوريين والسريان والعرب؟ الإحصاء، الاستفتاء، إلخ.
ثانياً: ينبغي على الأغلبية الاعتراف بحقوق الأقلية دائماً. ولا زالت تعجبني مقولة للينين (رغم افتراقي عن معظم ما قاله) وهي أن “من واجب الأغلبية الدفاع عن حق الأقلية في الانفصال دوما؛ بالمقابل ينبغي على الأقلية النضال من أجل البقاء في إطار الدولة الأم”.
ثالثاً: لا يمكن التعامل بقضية اللامركزية على أنها منّة، ولا يجب التعامل معها بخجل ومداراة ومواربة. يجب أن ندرك أن اللامركزية التي يمكن أن تصل إلى الفيدرالية قد تكون أنجع الحلول للمشاكل السورية، ليس بين الكرد وسواهم، ولكن أيضاً بين مكوّنات الأمّة السورية عموماً.
رابعاً: بالمقابل، لا يمكن للفيدرالية أن تعني تقسيماً للبلاد، ولا اجتزاء من أراضيها ولا تقليلاً من مكانتها، ولا تجاوزاً للسلطة المركزية في اختصاصاتها التي يحدده الدستور والتي تضمّ حكماً قضايا الدفاع والسياسة الخارجية والضريبة المركزية والسياسات الاقتصادية العليا للبلاد. ولنتذكر ما قاله يوما عبد الباسط سيدا: “ربما تكون الفيدرالية شكلاً من أشكال الحل في سوريا، لكن طرحها يتطلب التوافق المجتمعي في الساحتين الكردية والسورية، عدا عن أن النظام الفيدرالي أساساً يتطلب وجود نظام مركزي”.
خامساً: لا يجوز فرض أي حلّ على الأرض، بالقوّة ولا بحسابات النسبة المئوية من المساحة التي يمتلكها طرف من الأطراف السورية. (هيثم مناع ومقضية الـ 16%).
سادساً: ينبغي على الأغلبية السورية أن تقبل أن الحقوق القومية لا تتجزَّأ، وهي تعني فيما تعني حقوقاً سياسية وثقافية اجتماعية، ولا تنحصر فقط بتعلّم اللغة وكتابة الشعر باللغة الكردية.
سابعاً: لفهم أفضل للثقافة الكردية، لا بدّ للمكوّنات السورية الأخرى محاولة تعلم اللغة الكردية أو على الأقل قراءة الأدب والسرديات الكردية وفهم تاريخهم ورموزهم.
ثامناً: في المقابل، ينبغي على الكرد أن يكفّوا عن الإحساس بانعدام الثقة مع المكونات السورية الأخرى، والعمل على أساس أن الآخرين إنما ينصبون لهم فخاخاً في كل حركة وكل سكون.
تاسعاً: يجب على الكرد التعريف بنفسهم إيجاباً وليس بالنفي. كثيراً ما يعرّف الكرد أنفسهم بأنهم ليسوا كذا أو أنهم ضد كذا، ولكن من حق المكوّنات غير الكردية في الأمة السورية أن تتعرّف أكثر على القومية الكردية تاريخاً وواقعاً والواناً وثقافةً. التعريف بالنفي هو ما يجعل السوري الآخر مضطراً لأن يعرّف نفسه بصفته عربياً، وهو كما أسلفت ليس صحيحا دوماً.
ختاماً، القضية الكردية قضية بالغة التعقيد، ولكنها ليست مستعصية. ويقوم حلها على أساس الاعتراف المبدئي بحق الشعوب في تقرير المصير، والاعتراف بأن هذا الحق مصحوب بصعوبات وتشابكات وتداخلات تحتاج صبراً ووقتاً وتنازلات متبادلة، والتفهّم المتبادل لمخاوف الأطراف المقابلة. للأسف لم يقدم لنا أكراد العراق وتركيا مثالاً يحتذى لاتباعه. ولذلك يجب على السوريين اجتراح حلّ سوري يشكّل نموذجاً للآخرين. هل هي معجزة؟ ربما، ولكن ألم يجترح هذا الشعب الكثير من المعجزات؟.