الدكتور باسل معراوي
تملك الشعوب قضايا جوهرية لا تساوم عليها وتبذل لأجلها الغالي والنفيس، وتتحمل من أجلها الصعاب، وبالتأكيد ستعترضها مصاعب جمة ولكنها ستصل لنهاية طريقها مهما تم وضع العراقيل أمامها.
والشعب السوري من الشعوب الحية التي سطرت أروع الملاحم والبطولات، وعندما خرجت الجماهير للشوارع والساحات تطالب بإسقاط النظام كانت تعلم أن ذلك لن يتحقق إلا بدفع أثمان باهظة وكانت مستعدة لذلك، وكانت ذاكرتها الجمعية تختزن أحداثاً مؤلمحة لمجازر اقترفها نفس النظام قبل ثلاثة عقود في حماة وتدمر وحلب وجسر الشغور، وكان القمع الوحشي يطال كل من يفكر بالتمرد على السجن والسجان.
وكانت جموع الشعب تعلم أن هذا النظام يملك من العلاقات العربية والإقليمية والدولية الكثير لِغض الطرف عن أفعاله، ولم يخيب المجتمع الدولي ظن الشعب السوري فلم يضع قيوداً على كمية ونوعية العنف الذي واجه بها معارضيه والمنتفضين عليه.
فسجل التاريخ أن سورية هي البلد الوحيد من بلدان الربيع العربي الذي يسقط به ضحايا بتصويب ناري مباشر على الرأس في اليوم الاول لاندلاع التظاهرات ضِده، وتطور عنف السلطة إلى إنزال الجيش إلى الشوارع باكراً، وقصف الأحياء المنتفضة بالمدفعية والدبابات وصولاً إلى استخدام السلاح الكيماوي ضِد الثائرين عليه مروراً بالبراميل المتفجرة والصواريخ الروسية والحقد المذهبي الايراني الذي مارس كل انواع الإرهاب المنظم، فيما كان أصدقاء الشعب السوري وعلى كثرتهم العددية ظاهرياً كغثاء السيل وأشبه بالمتفرجين (إلا من رحم ربي).
يرى السوريون أنهم في ثورة شعبية ضد نظام مجرم وثوابتهم معروفة ومعلنة منذ اليوم الأول، الشعب السوري واحد، وسورية بدها حرية، والمطلوب الوصول لدولة المواطنين المدنية والتي يتساوى بها الجميع بالحقوق والواجبات ويختارون من يحكمهم بإرادتهم الحرة، بينما رأتها الدول فرصة لتحويلها (ولازالت) لبؤرة صراع إقليمي ودولي.
ما أود قوله أنه لم تدعم دولة الشعب السوري لتحقيق أهداف ثورته بل لأجندتها الخاصة بها، وما دمنا بمناقشة التطبيع العربي مع جزار سورية فإنه لابد من القول إن كل الدعم العربي (على قِلته قياساً لدعم حلفاء النظام) تم تقديمه لمحاربة النفوذ الإيراني بسورية وبِفضل ذلك توجه الدعم بالجهة التي نعرفها والتي لا تمت للثورة بصلة وإن تدثرت بعلمها ورفعت راياتها، بل كانت تملك أجندة جهادية عالمية تناكف الاجندة الايرانية أحياناً وتتفق معها أحياناً أخرى، وهو ما حدث على الأرض حيث كانت تلك التنظيمات وبالاً على الثورة السورية بل وقاتلت الفصائل الثورية أكثر بكثير مما قاتلت النظام
اختلف الروس والأمريكان على صيغة وأهداف الحل في سورية بعد وضع خطوط رئيسية له في بيان جنيف1، الذي تطور إلى القرار الدولي 2254، فقرأه كل واحد منهم وفق مصالحه وحاول الروسي حسم الصراع عسكرياً والانقلاب على التفاهمات مع الأمريكي، وتكريس أمر واقع إلا أنه لم يتمكن من ذلك.
وبحضور القوى العظمى على الساحة يتضاءل تأثير القوى الإقليمية، ومنذ توقف المعارك الكبرى في ربيع 2020 ظهر للجميع أن الأمريكان لا يملكون رؤية للحل ويناسبهم تجميد الصراع واستثمار الورقة السورية في بازاراتها السياسية فتارة تضغط بها على إيران أو روسيا أو تركيا، وكانت لا تخفي مقاربتها للملف السوري من بعد إنساني وذلك عبر تقديمها لمساعدات إنسانية والحفاظ على خفض العنف وتجميد خطوط القتال.
قام الروس بإفشال مسار جنيف، واخترعوا مساراً منافساً آخر هو مسار أستانة جمعوا فيه الأعدقاء الثلاثة (روسيا وتركيا وإيران) وأدى المسار أغراضه في منع الاشتباك المباشر بين القوى الثلاثة على الأرض، وتم تقاسم المنافع وتبادل المصالح، لكنه وصل أيضاً إلى طريق مسدود وبات عنواناً لمحوراً اقليمياً له أبعاد دولية لا تمت للصراع في سورية بصلة وبات أشبه بِمنصة للتعاون بين أطرافه.
وكان التموضع الأمريكي العسكري وسيف عقوبات قيصر من أشد العوامل التي أوصلت مسار أستانة الى نهايته، وتبدد الأمل بالتعويل على تفاهم أمريكي روسي لحل ما في سورية باندفاع الجيش الروسي إلى داخل الأراضي الأوكرانية، وتمت القطيعة الكبرى بين الروس والأمريكان وبات الحديث عن تفاهمهما لإنجاز تسوية في سورية من سابع المستحيلات ودخلت القضية السورية في مرحلة جديدة محفوفة بالمخاطر ومن الصعب التنبؤ بتطوراتها إذ أن الأطراف الدولية والإقليمية المشتبكة بحرب ساخنة في أوكرانيا هي نفسها المنخرطة بصراع بارد في سورية ولكنه قد يتحول إلى ساخن في أي لحظة.
بدأت المبادرات الإقليمية لإيجاد تسوية أو حل أو بشكل أدق إدارة صراع هادئ منعاً لتطوره إلى أخطار لا تحمد عقباها، فلم يرق للأتراك مثلاً تجميد الصراع السوري وهما يرون أنفسهم من أكبر المتضررين منه بقضيتي اللاجئين في داخلها والدويلة الكردية المحمية أمريكياً في خاصرتها، وابتدأ الحديث التركي عن استغلال الظروف لعملية عسكرية جديدة تسهم في حل القضيتين اللتين تعاني منهما تركيا أو على الأقل تدفع بالملف السوري للاهتمام الدولي، ثم استعاض الاتراك عن عمليتهم العسكرية(بعد تعذر القيام بها) بمسار سياسي أسقط كل الخطوط الحمر وجوهره التفاهم مع نظام الأسد على حل ما بمباركة روسية إيرانية.
ومنذ شهرين تقريباً بدأنا نسمع لهجة سعودية مختلفة تجاه القضية السورية وتحديداً سبقت الزلزال وازدادت بعده، حيث كان آخر موقف سعودي عملي من القضية السورية أطاح بجهود بذلتها الجزائر ودولاً عربية أخرى لحضور الأسد القمة العربية الاخيرة في شهر تشرين ثاني الماضي التي عقدت في الجزائر.
كانت تصريحات الوزير السعودي الأمير فيصل بن فرحان مختلفة النبرة وغير مألوفة، فتحدث عن ضرورة الإتصال مع نظام الأمر الواقع في دمشق ولم يعد مجدياً إتباع نفس سياسة العزل السابقة، والتي لم تؤدِ أغراضها، ويجب ألا يستمر الوضع السوري على ما هو عليه، فقد تزايد الدور الإيراني في مناطق سيطرة النظام على حساب تآكل الدور الروسي الذي كان منافساً له، وتحولت مناطق النظام السوري إلى جمهورية كبتاغون تصدر سمومها للجوار وتستهدف أول ما تستهدفه الشباب السعودي، وليس مقبولاً تجذر عمليات التغيير الديمغرافي والتي كانت على حساب تهجير ملايين السنة العرب السوريين سواء إلى الخارج أو الى الشمال السوري، ولم يعد مجدياً غياب الدور العربي عن سورية وتركها للاعبين غير عرب (روس وأتراك وإيرانيون وأمريكان).
ويبدو أن السياسة السعودية الجديدة بقيادة الأمير محمد بن سلمان (التي لا تملك أي سابقة بالتدخل في سورية) بعد 2015، كانت بِصدد استدارات سياسية عميقة في الإقليم لا ترقى لتسميتها استراتيجية حيث تشغل بال الإدارة السعودية الشابة هموم داخلية كبرى أهمها تنفيذ رؤية ابن سلمان 2030 وتلك الورشة من البناء الداخلي تحتاج لأموال هائلة واستقرار يتيح مجالاً لِتدفق الاستثمارات وضمان سريان تصدير هادئ للنفط السعودي، وكل الأخطار المحتملة ستأتي من أذرع الحرس الثوري الإيراني وخاصةً من الجيب الحوثي في اليمن، فلابد لضمان ذلك من إنجاز تهدئة مع إيران، وبما أن إيران تلح في خطب وِد المملكة خوفاً من إنخراطها بمشاريع الصلح الإبراهيمي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي والذي مهدت له (او هددت به) المملكة بٍفتح المجال الجوي السعودي أمام حركة الطيران الإسرائيلي وإتمام الصفقة مع مصر بقضية جزيرتي تيران وصنافير.
وكان واضحاً أن المملكة تسعى للنأي بنفسها وشقيقاتها الأصغر عن أي رد فِعل إيراني (طالما هددت به طهران) إزاء أي ضربة أمريكية إسرائيلية لمنشاتها النووية، وكان قراراً سعودياً قد اتخذ بأن لا آرامكو جديدة بعد آرامكو 2019، واختارت القيادة السعودية صلحاً إسماعيلياً معها عوضاً عن الصلح الابراهيمي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وكانت الصفقة الكبرى في بكين (وهي بالتأكيد صفعة للولايات المتحدة وإسرائيل ) برعاية وضمانة صينية.
بدأ الإعلان الثلاثي الصيني الإيراني السعودي (الذي توقعه بعضهم دعائياً) يؤتي أكله على الأرض، فبدأت تلوح ملامح تسوية باليمن بعد أن تم تبريد الصراع فيها، وتم تسريع الزيارات العلنية بين الرياض وطهران لإنجاز فتح القنصلية والسفارة في كلا البلدين.
وظهرت ملامح ذلك التوافق لِتلقي بِظلالها على الملف السوري حيث بدأت خطوات متسارعة من الاتفاق على إعادة الخدمات القنصلية مع نظام الأسد وصولاً لزيارة المقداد إلى جِدة واستقباله من وزير الخارجية السعودي وصدور بيان مشترك عن الزيارة.
ويدرك الجميع حجم الخلافات السعودية الإيرانية التي لا حل لها، وإنما يحرص الفريقان على إنجاز تهدئة إلى حين تخدم أغراضه، وكذلك يًدرك السعوديون والعرب معهم أن النظام السوري لم ولن يتغير ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر فلن يتمكن النظام السوري من تلبية أي مطلب سعودي ولو على سبيل عدم إحراج السعوديين، فلن يتمكنوا من إقناع أي لاجئ سوري بالعودة لحظيرة الأسد، ولا يرغب الأسد ذاته بإعادة أي لاجئ، فهو لم يستعد لاجئين من عند أصدقائه اللبنانيين، وأجهض المسار مع تركيا لأنه سيواجه بطلبات لإعادة لاجئين، وهو يريد أموالاً لإعادة لاجئين وليس اللاجئين أنفسهم، وكل الدول المانحة تربط عملية إعادة الإعمار التي تمهد لعودة اللاجئين بالشروع بالحل السياسي الذي يرفض الأسد مناقشته ويريد إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل عام 2011.
قد يطمح العرب للطرح على الأسد، كما ورد في نص البيان الختامي بعد زيارة المقداد الطلب من نظام الأسد حل كل الميليشيات واستعادة الدولة لسيادتها على كامل أراضيها، قد يطلب العرب من الأسد اعتبار أن الاحتلال الإيراني والميليشيات الإيرانية المرتبطة به والوجود التركي هو وجود غير شرعي واقتصار الوجود الأجنبي على الروس والأمريكان صاحبا مبادرة جنيف1 وراعيا القرار الدولي 2254، وبالطبع لا يملك الأسد من القوة والشجاعة لمفاتحة الإيرانيين بهذا المقترح ولا يستطيع فرضه على الأتراك والفصائل الثورية المتحالفة معهم.
ويرى بعضهم أن زيارة رئيس وكالة المخابرات المركزية (CIA) إلى الرياض مؤخراً قد تمحورت حول طلبات أمريكية ثلاثة من المملكة وهي عدم بيع النفط السعودي بالـ (يوان) الصيني واعتبار ذلك خطاً أحمر أمريكياً، وعدم الاندفاع أكثر باتجاه نظام الملالي، وعدم تعويم الأسد عملياً، وبقاء حرية المناورة والمصلحة السعودية بهذا الأطار.
من غير المعروف الآن كم سيصمد الاتفاق السعودي الايراني قبل انهياره ولكنه بالتأكيد سيكون مرحلياً وينتظر استحقاقات كبرى، إن كان بنتيجة الحرب في أوكرانيا أو مآلات التوتر بين الصين وتايوان أو حتى بقدوم إدارة جمهورية في 2025.
حتى ظهور النتائج تلك أو وقوع أحداث مفاجئة كبرى غير متوقعة ستستمر التهدئة السعودية الإيرانية وسيتم إقامة علاقات دبلوماسية باردة مع الأسد.