إبراهيم اليوسف
لم تعد جنديرس بحاجة إلى أوراق اعتماد لمعاناة أهلها، كي تقدمها للكرد، للجيران، للعالم كله، فقد فعلت كل ما يلزم، من مواجهة، وصمود، لاسيما إن الاحتلال الذي تم بحق هذا المكان جد استثنائي، حيث تتم- ومنذ خمس سنوات- ممارسة كل أشكال الاضطهاد التي تجاوزها أخس أصناف المستعمرين، في هذا الزمن الذي غدا فيه العالم مجرد عمارة واحدة، وبات كل شيء بادياً يلوح أمام أعيننا جميعاً، بمن فيهم المعنيون بشؤون العالم- كما يفترض- أو من تنطعوا، وقدموا ذواتهم رعاة للأسرة الدولية، وما عاد في إمكان أحد من هؤلاء الزعم أن بلده غفل عن رفيف حركة جناحي فراشة، باعتبار كل ما في هذه العمارة الكونية داخل فضاء الرصد والمتابعة.
إن- انتفاضة شعلة نوروز- في جنديرس/ عفرين لم تأت إلا نتيجة احتقان جد كبير، على امتداد خمس سنوات كاملة، ضمن مخطط ليس بخاف عمن رتب الأمور في هذا المكان، وفق رؤيته، ضمن إطار محو هوية الكرد، وكانت- عفرين- كاملة، بقراها التي يعادل تعدادها عدد أيام السنة، بما في ذلك: نواحيها. بلداتها. قراها الأم، أو أمات قراها، وهي تتربع جميعها فوق جغرافيا مقدسة لدى كل كردي. كل مواطن شريف، لما دأبت أن تقدمه من خيرات لبلد كامل، ناهيك عما كانت تقدمه من مبدعين. من عقول، أو أيد عاملة، أو أبناء بررة، وضراغيم بواسل، ما كانوا في يوم ما بعيدين عن حماية مكانهم، وبلدهم، وإنما كانوا في المقدمة. في مقدمة كل مكان، كما يشهد لهم تاريخهم المشرف!
وإذا كانت دروس انتفاضة الثاني عشر من آذار، ماثلة، في ذاكراتنا، و نحن في حضرة انتفاضة جنديرس، فإن أمضى سلاح كان قد اعتمد عليه هو: الإعلام، من خلال تكامل دورة التفاصيلي، اليومي، في الداخل، والمتابع لحظياً، في الخارج، إذ تفرغت كوادر و مواقع إنترنيتية كردية، خلال نقطة التحول التاريخية في حياتنا، كي تستفيد الانتفاضة – بذلك- من أول أعطيات الثورة المعلوماتية، فتم إطلاق الصوت الكردي، في مواجهة الإعلام المضلل، ليسقط هذا الأخير، إذ إن أقوى داعم للانتفاضة كان التفاف الأهل، في الخارج، حولها، سواء من خلال المظاهرات والاعتصامات التي قاموا بها، حيث إنها حققت أعلى درجة من التعويل عليها، بحق، على صعيدي قوتها وأثرها في آن واحد، فقد جمعت الكرد، ولربما لأول مرة، على موقف سواء. كلمة سواء، في بوتقة الموقف الواحد، بكل رؤاهم ومواقعهم، رغم أن أعدادهم، آنذاك، لم تكن كما هي عليه الآن، ناهيك عن إيصال صوت الانتفاضة إلى المنظمات الدولية، و أتذكر هنا الدور الكبير لبعض الأصدقاء، من خلال تواصلهم مع المنظمات الدولية، كما إن مؤازرة المتضررين، من أسر الشهداء، والجرحى، ومن تعرضت منازلهم ومحالهم للسطو، مالياً، ما كان يحفز الأهل، في الداخل، على الصمود، في وجه آلة النظام، رغم آلة العنف التي أستخدمت – كذلك- لأول مرة، في أبشع صورها، وما استقدام قوات من جيش النظام، معززة بالأسلحة والعتاد، إلى مناطقنا، بهذه الكثافة، ولأول مرة، في تاريخ سوريا، إلا دليل على مدى الرعب الذي لحق بآلة النظام!
على ضوء كل هذا، فإن علينا- وكل منا بحسب إمكاناته ومجاله الخاص- أن نتحرك، ميدانياً، أو إعلامياً، أو حقوقياً، أو دبلوماسياً إلخ، لفضح الجريمة العظمى. جريمة الإبادة بحق أهلنا في عفرين، من دون الالتفات لمحاولات ثنينا، عن مواصلة مساندتنا للأهل، إذ نلمس أمرين خطيرين: أولهما محاولة المحتل وأدواته تصوير الجريمة على أنها فردية، غير منظمة، وثانيهما ما نلمسه من وعيد من قبل أدوات الارتزاق، والجريمة، بحق الأهل، وما الخبر الصحفي الذي نشرته- منظمة حقوق الإنسان في عفرين- والذي قرع الأجراس، ونبه إلى أمر جد خطير وهو محاولة تزوير إفادات الشهود، و إلزامهم بالتوقيع- على صفحات بيضاء- لملئها، كما يريدون، ولعلنا نتفاجأ، قريباً، باعتبار أن المجزرة جاءت نتيجة- خناقة جيران- خلافاً لكل الوقائع التي يعرفها كل متابع، وأعلن الشهود في فيديوهات خاصة حقيقة ماتم، بشجاعة منقطعة النظير!
أجل، لقد كان التفاعل، أو الاستجابة مع صرخة الانتفاضة. مع دماء- حماة جنديرس/ عفرين مكاناً وكائناً- في ذروته، من قبل كل غيور، إلا إن علينا- لاسيما من هم في الخارج- الحفاظ على روح الحماس. الغيرة. الحمية، من أجل هذا الجرح الجنديرسي، فاغر الشفاه، والذي ينز دماً، وعويلاً مريراً، بعدما أصبحت هذه البقعة، في مفترق طرق، بين الإمحاء والبقاء. بين الزوال والحياة، وما كان مطلوباً من أهل جنديرس إنما قدموه، وهم، الآن في انتظار ما نفعله لهم، فإما أن نخذلهم، وإما أن ننتصر لهم. لنا، في مواجهة أعتى احتلال مزدوج؟!