الانحسار الامريكي ـ ج1

زاكروس عثمان 

نشرتُ هذا المقال بعنوان امريكا تخسر في موقع مركز النور الالكتروني بتاريخ 15.07.2014 رأيت من الاهمية إعادة نشره نظرا لما يتضمن من إشارات إلى احداث كبيرة تقع اليوم في الشرق الاوسط والعالم، علما انني تصرفت بالنسخة الاصلية للمقال بإدخال بعض التعديلات والاضافات إليه ومن ضمنها تغيير العنوان وذلك بهدف الربط بين ما ورد بالمقال في 2014 واحداث وقعت في 2022 ـ 2023.
شهد موقف الإدارة الأمريكية من انتشار الديموقراطية تغيرا دراماتيكيا، إذ بعد سقوط القطب الشرقي “الدكتاتوري” تحمست الإدارة الامريكية برئاسة بوش الأب لعولمة الديموقراطية، وكان بمقدور واشنطن آنذاك تسريع عملية دمقرطة العالم،
 فقد كانت روسيا في اضعف حالاتها، وكانت الشعوب تتطلع إلى التخلص من  الدكتاتورية، ولكن الذي حدث هو تردد واشنطن في اتخاذ خطوات عملية تدعم التحول الديموقراطي في مختلف بلدان العالم، فاكتفت بسقوط الدكتاتوريات في  أوروبا الشرقية حيث توهم الأمريكيون بأنها تحولت إلى النظام الغربي، وأن الصراع بين الشرق والغرب تحول إلى صراع بين الشمال والجنوب، فلم تشغل واشنطن نفسها بدعم الشعوب حتى تجهز على الدكتاتوريات التي نجت من السقوط، واستمرت الإدارات الأمريكية التالية على نفس المنوال، حيث لم تقدم دعم ملموس للتحول الديموقراطي إلا بشكل انتقائي في بلدان محدودة او بشكل مشوه في بلدان اخرى، ترتب على ذلك أن معسكر الدكتاتورية العالمية  نال فرصة ليقف على قدميه ثانية، ومن سوء حظ أمريكا والعالم أن بوتين رجل روسيا القوي دخل الكرملين ليباشر عملية إعادة بناء الإمبراطورية الروسية، في حين وصل رجل أمريكا الضعيف اوباما إلى البيت الأبيض فاخذ يتخلى عن زعامة بلاده للعالم، فكان التمدد الروسي انتعاشا للدكتاتورية والانحسار الأمريكي نكسة للديموقراطية، ويبقى السؤال لماذا تخلت واشنطن عن عولمة الديموقراطية، إن لم نقل لماذا تخلت عن النظام العولمي الجديد.
برزت أمريكا كقطب عالمي، وكان المفروض أن تعزز زعامتها للعالم ولكنها لم تفعل، ربما لأنها لاحظت بان العالم غير مستعد لتلقي تدفقات المتغيرات الدولية، لان التقنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتوفرة عجزت عن الاستجابة لتداعيات منعطف جديد في تاريخ البشرية، بمعنى آخر وجد الأمريكيون بان العولمة تتطور بخطى متسارعة نحو بناء القرية الكونية، ولكن غياب ملامح النظام السياسي لهذه القرية دفع صناع القرار في واشنطن إلى التردد والارتباك من معطيات عولمة يصعب التحكم فيها لاقترانها بثورة المعلوماتية، وكان عليها الاختيار بين ترك النظام العولمي الجديد يأخذ مجراه الطبيعي لينقل العالم إلى مرحلة تاريخية مغايرة أو تقنينه بما يتوافق مع التقنيات المتوفرة، لم تكن واشنطن واثقة من قدرتها على إدارة القرية العتيدة، ولهذا فضلت فرملة المد الديموقراطي لأنه يزيد من وتيرة العولمة، وكانت واشنطن بعد كل هذا التخبط  بحاجة إلى رجل يحسم الأمور، فجاء الرئيس باراك اوباما الذي قرر وضع نهاية لما سمي بالنظام العالمي الجديد، و حتى ينهي مرحلة القطب الأوحد قرر تحويل أمريكا إلى جزيرة معزولة، حيث لم يرغب أن يثبت مرحلة القطب الأوحد كمنعطف تاريخي يأخذ مداه الزمني، بل أرادها مرحلة انتقالية انتهت سريعا، ومعها خابت آمال الشعوب بعالم أكثر ديموقراطية، ليصبح كما هو عليه اليوم في  2023 برميل متفجرات، فقد أدت سياسته الخارجية المثيرة للجدل إلى عودة القطبية الثنائية بعد تقزيمه للقطب الأمريكي و سكوته على تضخم القطب الروسي.
شيء محير أن يدفع اوباما بأعظم دولة إلى تقديم تنازلات مؤلمة إلى دولة  اقل منها مكانة، على ما يبدو أن فلسفته الخاصة الغريبة عن ميول الديمقراطيين والجمهوريين  لا تحبذ عالم بقطب واحد حتى لو كان هذا القطب أمريكا ذاتها، التي ما برحت تقدم تنازلات استراتيجية مجانية إلى موسكو وقوى الاستبداد العالمي، هذا يدل على أن صناع القرار في الدوائر الأمريكية بقيادة اوباما لا يريدون للديموقراطية أن تحقق  انتصارها النهائي، وفي الآونة الأخيرة أدرك أعضاء في الكونجرس وسياسيين أمريكيين، النتائج الوخيمة التي ستجلبها سياسة اوباما الخارجية على بلادهم حيث  تستغل روسيا ضعفه لتسجل باطراد حضورا عالميا فاعلا في المحافل الدولية  وذلك بتحقيق انتصارات سريعة وسهلة، ليس في الميدان السياسي والدبلوماسي والاقتصادي  فحسب بل كذلك انتزعت موسكو زمام المبادرة الاستراتيجية باستحواذها على سوريا وابتلاعها لشبه جزيرة القرم وتوسع نفوذها السياسي ـ العسكري في رابطة الدول المستقلة، ودعهما اللامحدود لإيران والأنظمة الاستبدادية والحركات الراديكالية، وتوسيع نفوذها في مناطق من الشرق الأوسط كانت تعتبر مناطق نفوذ تقليدية لأمريكا، ما يعني فشل سياسة اوباما في تجنب مواجهة مع روسيا، لان تمادي موسكو في أطماعها بات يهدد المصالح العليا لأمريكا، ولهذا تزداد وترتفع أصوات المحتجين داخل الكونجرس وخارجه، ولسان حالهم يسأل ما الحكمة من تمادي اوباما في إضعاف بلادهم أمام القوى المنافسة لها، وماذا تجني واشنطن من سياسة المهادنة، يقول البعض أن سياسة اوباما ترمي إلى عدم توريط بلاده في حروب خارجية أخرى بعد ان أنهكت الحروب في أفغانستان والعراق الاقتصاد الأمريكي، و ما يزيد من أعباء دافع الضرائب الأمريكي ومن مخاوف اوباما، هي أزمة العقارات والأزمة المالية، إضافة إلى خطر انهيار اقتصادات العديد من الدول لكل هذا فضل اوباما الاهتمام بالداخل الأمريكي وإهمال  السياسة الخارجية، هذه مبررات تؤخذ في عين الاعتبار ولكن في اعتقادي المتواضع أن أصحاب هذا الرأي لم يشاهدوا غير الجزء الظاهر من جبل الجليد في دماغ اوباما فالرجل على ما يبدو معجب بالاستبداد الشرقي، ولهذا رسم سياسته الخارجية لتخدم الحكومات والقوى الدكتاتورية خارج أمريكا، للحد من انتشار الديموقراطية في دول الجنوب “الشرق الأوسط ” لهذا ترك الساحة الدولية مفتوحة لروسيا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…