صلاح بدرالدين
( ١ )
تؤكد التجربة التاريخية الطويلة للحركة الكردية السورية، استحالة حل القضية الكردية بشكل عادل ونهائي ومستدام، الا في ظل النظام السياسي الديموقراطي، وهذه الحقيقة باتت من المسلمات،لأن الأنظمة والحكومات المستبدة، ومنظوماتها الأمنية، لم تعمل يوما، بل عجزت عن تقديم أي حل، فقط وظيفتها الأساسية هي إدارة الازمات، واختلاق المشاكل، واثارة الفتن بين مكونات، وفئات الشعب السوري خصوصا ضرب العرب بالكرد، ووضع المخططات التي تفرق ولاتوحد مثل التجاهل، والاقصاء، والاحصاء، والحزام، واشعال النعرات العنصرية، ولدينا أمثلة، وقرائن لاتعد ولاتحصى في هذا المجال، منذ عهد الانتداب، مرورا بحكومات الاستقلال ، وانتهاء، بحكومات الوحدة السورية المصرية، والانفصال، وحزب البعث، وآل الأسد، منذ بداية الستينات وحتى الآن.
( ٢ )
الشرط الثاني الذي يجب توفره بحسب دروس تلك التجربة هو تحقيق التفاهم والتوافق مع شركاء الوطن، وحركتهم الديموقراطية ( مهما كانت ضعيفة ) التي تمثل موضوعيا إرادة الغالبية من الشعب السوري، وذلك على جملة من المبادئ المتعلقة بالمصير الوطني، والدستور، والنظام السياسي المنشود الذي يحقق طموحات الجميع، والحوار هنا يستند الى عملية الأخذ والعطاء، خاصة اذا علمنا الطبيعة التعددية للمجتمع السوري قوميا، وثقافيا، و،دينيا، ومذهبيا، وضرورة مراعاة، واحترام خصوصياتها، وصولا الى توافقات حول القضية الكردية وسبل واشكال حلها، أي ان أمام المحاور الكردي الشرعي المخول مهام معقدة، ووظيفة في غاية الصعوبة، لايجوز استسهالها.
( ٣ )
أما الشرط الثالث الذي لابد منه، فهو ان يكون المحاور الكردي على شكل (الهيئة، أو اللجنة) مستندا الى نوع من (الإجماع الكردي)، المتجسد في حركة كردية سياسية سورية موحدة، منبثقة عن مؤتمر جامع يضم كل التيارات، والأطراف الوطنية الديموقراطية في اطار (الاتحاد على قاعدة التنوع)، ويستعيد الشرعية القومية، والوطنية، وفقط بهذه الحالة يمكن تمثيل إرادة الكرد، وابرام الاتفاقيات مع شركاء الوطن، والمشاركة عن جدارة في تقرير مصير البلاد، أما مايروج له الآن من مزاعم أن (الانكسي) بتحالفه مع الائتلاف كفيل بحل القضية الكردية فمجرد – مزحة – عابرة، أو أن جماعات – ب ك ك – ستحقق ذلك عبر تقلباتها بين – قنديل – والمحور الإيراني الروسي، وتعاملها المصلحي مع التحالف الدولي، وتفاهماتها مع نظام الأسد فمحض تضليل .
هذه الشروط الثلاثة المستقاة من تجربة عمرها يقارب القرن من الزمن تقريبا، في مسار طويل، واستثنائي شديد الوعورة، مثقل بالآلام، والتضحيات الجماعية، والفردية، ترتبط مع بعضها بصورة تكاملية، ولايمكن فصلها عن بعضها في أي مكان أو زمان، في عهود الاستبداد، وحتى في ظل الديموقراطية، في ظروف الثورات، والانتفاضات، او في أوقات السلام، تحت وطأة الكوارث الطبيعية – كما هي الحالة عليها الآن جراء الزلزال المدمر – و في أجواء الامن والاستقرار، وبايجاز شديد لاتخضع هذه الشروط للحالات الطارئة، ولاتذعن لمزاعم الإجراءات الاستثنائية، والحالات الخاصة، والمشاعر، والأهواء، والأمزجة الصادقة منها أو المزيفة.
نزعات انعزالية مغالية تهدد وحدة المصير الكردي السوري
يجتاز الكرد السورييون منذ العقود الثلاثة الأخيرة، وبشكل خاص في العامين الأخيرين المرحلة الأخطر في تاريخهم ( أزمة وجود ) ، وتعاني مابقيت من حركتهم السياسية الأزمة الأعمق منذ ظهورها قبل عقود، والتي كما نعلم اخترقتها أجهزة نظام الدكتاتور حافظ الأسد في (عهد محمد منصورة) بداية التسعينات بعد تجنيد حفنة من مسؤولي الاحزاب الكردية الضعاف النفوس، والمسألة لاتتعلق (بحزب الاتحاد االشعبي) كتنظيم كان له دور ومكانة مرموقة، بل (بكسر عيون) مناضلين واجهوا النظام بشجاعة، وحملوا مشروع حق تقرير المصير الكردي، وللمرة الأولى يحصل اصطفاف علني بمشهده المشين تحت خيمة العار بالقامشلي، يجمع أجهزة النظام بصف واحد مع مواليه من التيارات السياسية الكردية في مواجهة أصحاب المشروع القومي – الوطني، وتطبيق معادلة – تكريد الصراع – الذي شمل فيما بعد أيضا جماعات – ب ك ك – ومحاولة تصفية انجازات شعب كردستان العراق، وماتلا ذلك من تراجعات، وردات، وانقسامات نعيش نتائجها المدمرة الآن، على شكل ظواهر مرضية سلبية، ونزعات انعزالية – ماقبل قومية – تهدد التطور الطبيعي للحياة السياسية، والاجتماعية الكردية، وتضع العوائق أمام توفير شروط تحقيق المشروع الكردي بشقيه القومي، والوطني .
النزعة الانعزالية السياسية – المناطقية
التي ظهرت، وتوسعت بعد تردي الحركة السياسية الكردية، وانحراف مسؤولي غالبية الأحزاب عن الخط النضالي، والتبعية للمال السياسي بمصادره الداخلية والخارجية، والتراجع عن الدعوة القومية الديموقراطية الجامعة بين كل المناطق نحو التقوقع في أماكن جغرافية محددة، وتكتل مجموعات متجانسة ومن منطقة واحدة على شكل شلل تستبعد مشاركة الآخرين .
وللأسف لم تشكل ردة الفعل المتجسدة الان في هذه النزعة الانعزالية المناطقية المبالغة لعدد من الافراد من لون واحد البديل الأفضل لا في النظرية، ولافي التطبيق، بل أساءت أكثر في مجال اثارة الحساسيات بين صفوف الكرد، وبينهم وبين المكونات الأخرى، وزيادة الانقسامات (العامودية)، حتى بتنا نسمع عبارات نافرة مثل (إقليم المنطقة الفلانية وتقسيم الجغرافيا الكردية الى عدة أقاليم) في حين لم ينجح الكرد السورييون جميعا في جلب الاعتراف الوطني لإقليم كردي واحد منذ عقود وحتى الان.
وفي ظروف الزلزال المدمر الأخير ساهم أصحاب هذه النزعة في الإساءة الى – مسلمات – النضال الكردي، واثارة الأحقاد، واستفزاز الآخر المختلف، وعلى سبيل المثال كلنا يعلم أن المناطق الكردية في جبل الاكراد (جياي كرمينج) التي تعرضت للزلزال، قد تعرضت قبل ذلك الى عملية التغيير الديموغرافي، والتهجير بعد الاحتلال التركي ولاسباب عديدة أخرى (ليس المجال هنا للتوسع فيها)، ولم يعد الكرد يشكلون الغالبية في مناطقهم، ويسيطر عليها مسلحون فاسدون من غير اهل المنطقة، وبدلا من مراعاة أحوال البقية الباقية من أهلنا، نرى أن أصحاب النزعة الانعزالية، وبدعواتهم اللفظية المتطرفة غير الواقعية، يضعون أهلنا في دائرة الخطر من جديد، بل يتمادون في اعتبار أأنفسهم أوصياء ولايجوز لغيرهم من الوطنيين الكرد حتى بحث أوضاعهم، أو ابداء مواقفهم !! .
وفي سيرة النزعات الانعزالية هناك اشكال عديدة بدأت تظهر خصوصا بعد حدوث فراغ في الساحة الوطنية الكردية، وتفكك وانقسام الحركة الكردية، وفي ظل حكم، وسيطرة الأحزاب، التي تغذي الى جانب النظام المستبد هذه النزعات مباشرة وغير مباشر، ومنها الانعزالية العشائرية – القبلية، والانعزالية الإنسانية في ظروف االزلازل، والنزعة الانعزالية الحزبوية الضيقة، وكذلك الانعزالية الآيديولوجية، ولاننسى هنا شرور الانعزالية ” الثقافية ” عندما يعزف ” كتاب ومثقفون ! ” على وتر تلك النزعات القاتلة للروح المبدعة كتوابع لهذا الحزب وذاك، والتنقل بينها حسب المصلحة الذاتية، بل مساهمة بعضهم المباشرة في تعميق النزعة القبلية، والرفع من شأن دور ( الأغا – الزعيم ) على حساب دور الشعب الكردي في صنع تاريخه، أو ذلك ” المثقف الافتراضي ” الذي ذهب بعيدا في النزعة – الانشائية – المفرطة الخالية من أي مضمون فكري، ثقافي مبدع .
هذه النزعات جميعها كظواهر مرضية، وتجليات واضحة لأزمة الحركة الكردية لابد من ازالتها، لأنها تتناقض من حيث الجوهر مع الشروط الثلاثة الآنفة الذكر التي لابد من توفرها لاعادة الأمور الى نصابها في توحيد الحركة، وتوفير الاجماع الكردي الدموقراطي، وتحقيق التوافق مع شركاء الوطن، ومن ثم حل القضية الكردية على قاعدة مبدأ تقرير المصير في سوريا الجديدة التعددية الموحدة.
وقبل هذا وذاك العودة الى انتهاج الطريق الصحيح في محاولة إعادة بناء حركتنا، وماتتطلب من تكاتف، وتعاضد بين مختلف الفعاليات الوطنية، والشرائح الشبابية، والنسائية، والمثقفة الملتزمة بقضايا الشعب، وصولا الىى تنظيم هذه الطاقات المؤثرة لتحقيق مانصبو اليه جميعا في توفير مستلزمات عقد المؤتمر الكردي السوري الجامع.