صفاقة الجاني وحياء الضحية

ماجد ع  محمد

“السوط الذي يمسكم لاسعاً يمسُّ الرماد في مواقدكم أيضاً، ويمسُ الزيت في المعاصر” 
سليم بركات
كما يعجز المرء عن مطابقة ما يأتي في سياق الكثير من الملاحم والروايات والأشعار بما يجري على أرض الواقع، كذلك الأمر مراراً ما يرى المرء نفسه عاجزاً عن شرح ما يحصل له، أو توضيح ما يجري بحقه، أو إبانة ما تعرّض له بالصورة المطلوبة، فيسلم ذلك الموجوع حينها سفينة المشاعر للصمت جراء ما حصل له أو بعد أن صُبت عليه الفاجعة صبا، وذلك لاقتناعه بأن كل ما سيقوله لن يعبّر عما ألمَّ به؛ فعند الحالة الأولى ترى المرء محلقاً في فضاءات لم يجد لها مثيلاً على الأرض، وفي الحالة الثانية عندما يخفق في إيضاح ما ألمَّ به واقعياً على الأديمِ يرفع الواقعة حينها إلى السماء، ويُعلن استسلامه ويكف عن ذكر ما جرى له أو حصل أمامه.
وتعبيراً عما ألمَّ بأحدهم وربما بالمئات من أمثاله، رأينا بأن بعض ما يرد في المقروءات كثيراً ما نراه قريباً مما حصل لمن يحدثنا عما جرى له وهو فاشل في إيصال فحوى الرسالة إلينا، بما أن الكلمات لا تسعفه، والعبارات كلها دون ما سيقوله حسب تصوره، لذا فعندما نذكّره بالمثال الوارد في قصةٍ هنا أو قصيدة هناك، تكون المادة المستلة من ذلك المنتج الأدبي بمثابة الطاقة المنقذة لحالته النفسية المنهارة لحظتئذٍ.
صحيحٌ أن ما نقوله للأخ المكلوم لا يُعيد له كرامته المنتهكة، ولا يرجع إليه الذي سُلب منه، ولكن المكتوبَ على أقل تقدير يُخفف مِن حدة القهر الذي يعجز عن قوله لنا ولغيرنا، كما أننا حين نأتي بمثالٍ يُحاكي مجريات حياته فإننا نرفع عن كاهله ما كان فاشلاً في إيصاله لأصحاب الشأن، ونطمئنه في الآن ذاته بأننا عرفنا ما ألمّ به وأوصلنا إلى بعض أصحاب الضمائر الحية نحيبه المكتوم. 
وما ذُكر للتوِ هو تقريباً ما جرى لقريبٍ كان في قبو منزله مقيم، حيث كان يسمع دبيبهم، ويحس بكل تحركاتهم وهم ذاهبون آيبون في الطابق العلوي من بيته، يسطون على كل ما في منزله من المقتنيات، بينما هو في قبوه لا يجرؤ حتى على الاعتراض لما يجري لبيته في الأعلى، لأن الاتهام الجاهز ليس فقط بحوزة من يسطون آنئذٍ على محتويات منزله، إنما هو بحوزة جميع السُّراق واللصوص والمنتهكين والمتسلطين على رقاب الأهالي في تلك المرابع، بما أنهم قادرون فوق ما يفعلون بأشيائه على إهانته ليل نهار، وذلك وفق الذريعة التي قدّمها لهم جلاوزة سلطانهم المبجل لفعل ما يحلو لهم بالديار وأهله.
إذ بكل صفاقة قال الذي فرّ من القوة العسكرية التي هجمت على المنطقة في منتصف الشهر العاشر من العام الفائت بأنه ترك المال والحلال والممتلكات خلفه، بينما كل مَن يعرفه يعي بأنه جاء إلى تلك الديار ناهباً ممتلكات أهلها، وذلك بعد أن سمحت الجهة التي أتت به من ريف العاصمة عبر اتفاقية مع حلفاء النظام، وفحوى الاتفاقية التي جاءت به هو أن يترك مواجهة مَن قتل أهله ودمّر ممتلكاته ويأتي إلى هنا ليستولي عوضاً عما خسره هناك على أملاك الأهالي، ومن ثم يضايق هو وأمثاله أهل الدار قدر المستطاع، حتى يتركوا ديارهم وممتلكاتهم وكي يتخلوا عنها  لهؤلاء الذين أفلتتهم على سكان المنطقة الجهة التي جلبتهم لهذا الهدف.
فمقطع الرجل المُغير على ممتلكات سواه والفار أوان الهجوم على تلك المرابع أعادني للسرد الخجول لبعض أبناء المنطقة الذين بكامل الخفر كانوا حين التواصل معهم يتحدثون عما تعرضوا له، وعما حصل لهم على أيدي مَن جاءت بهم رغبات المجبولين على البغضاء من أدوات الخاقان الجديد، وكيف أنهم كانوا يخجلون من سرد ما جرى لهم وما سُلب ونُهب منهم عيانا جهارا، بينما الجناة المستولين على ممتلكات الأهالي بكامل الصفاقة يتحدثون عن فقدان مسروقاتهم في الفضائيات.
فما ذكرتُه في تلك المحادثة مع الرجل الموجوع بخصوص الذي جرى له مما أورده الشاعر اللبناني الراحل جوزيف حرب في قصيدة له تحت عنوان “كُلُّ شيءْ” علّني أخفف عنه الوجعَ آنذاك سأورده هاهنا مجدداً، كما سأردف نص الشاعر اللبناني الراحل بنصٍ للشاعر السوري سليم بركات والذي جاء في سياق ديوانه “تنديد روحاني” وحيث يقول جوزيف حرب:
“قلتُ:
خذوا الذي تريدون من البيت لكم
فبعضهم من أخذ الشجر
وبعضهم من أخذ القمر
وبعضهم من أخذ المطر
وبعضهم من أخذ الصور
ما تركوا لي أي أثر
ثم مضوا يبنون بيوتاً بعدما 
مِن ركن بيتي 
أخذوا حتى الحجر”.
ولا شك أن النص غير مبالغ فيه مقارنة بأخلاقيات بعض الذين تركوا منازلهم وممتلكاتهم خلفهم بعد أن تم سوقهم عبر الاتفاقيات الدولية إلى الشمال السوري، الذين بدلاً من التفكير بالعودة إلى ديارهم واستعادة ما أُخذ منهم بالقوة والإكراه راحوا يُعوضون خسائرهم هناك بالسطو والسلب والنهب على حساب الأبرياء هاهنا في هذه الجغرافية التي كانت وما تزال لأصحابها مصدراً للنقمة المتلاحقة.
عموماً فبعد أن تحدث جوزيف حرب في الأعلى عن الذين أخذوا “كل شيء” من ممتلكات سواهم ها هو سليم بركات يُطالبهم في الأسفل بإعادة ما نهبوه وسلبوه إلى أصحابه قائلاً:
“على الرحب أنتم.
ولكن أعيدوا الأحذية المسروقة،
والكؤوس المسروقة،
والوسائد المسروقة،
وأوعيةَ الطهوِ المسروقة،
واللحومَ المجلَّدة المسروقة،
وزجاجات الجعة المسروقة،
والمخللات المسروقة،
والكلابَ المدللة المسروقة،
والخرائطَ الصوتية المسروقة،
والمناظيرَ المسروقة،
وترابَ الحدائق المسروق،
والأفرانَ المسروقة،
والرُّخامَ المسروق،
والجماجم المسروقة،
والجلود المسروقة،
والقُمامة المسروقة،
أعيدوا التعبَ الذي سرقتموه إلينا.
أعيدوا الصراخَ الذي سرقتموه إلينا.
أعيدوا الجراح التي سرقتموها إلينا.
أعيدوا الألمَ المسروق في القارورة لم تزل مُغلقةً.
أعيدوا ما صرفتم فيه أنفُسَكم جموعاً”.
ويبقى الغريب في أمر الناهبين في عموم البلد الذي يتعرض للانهيارات الأخلاقية المتلاحقة منذ 11 سنة إلى جانب مسلسلات القتل والخراب والدمار أنه عند الحديث مع أي نفرٍ من قطاع الطرق والفالحين في عمليات النهب والسلب تلاحظ تسلحهم الجيد بالنصوص الدينية التي تعمل على حمايتهم حسب تصورهم يومَ توجّه إليهم أيّة تُهم تتعلق بالسطو والاعتداء، حيث سيسرد لك ذلك القائد المغير على وجه السرعة عشرات الآيات والأحاديث، ويدلق في حضرتك قصص العدل والأمانة والعشرات من روايات الفضيلة المشهورة عبر التاريخ لدى أتباع الدين الحنيف، وكل ذلك لتصدق بأن ذلك الوغد ليس سوى خروف مسالم مطيع، ولكنك إن أوردت له الجرائم التي ارتكبها والمنهوبات التي وضع يده عليها بغير وجه حق لن يقر بما ارتكب ولا سيندم على أي من موبقاته، إنما ومن باب الدفاع عن شناعة أفعاله سيعود إلى ذكر الآيات المتعلقة بالفتح ويعتبر بأن هذه الديار التي ارتكب فيها الفظائع هي ديار الكفار، ويحق للمسلمين فعل ما يريدون بديار الكفرة، وإن قلتَ له بأن أبناء هذه البلاد مسلمون منذ ما يقارب 10 قرون سيلجأ عندها إلى ما لديه من العترة والعشيرة والأسلحة ليدافع عن شناعته ويواجه بها أي سلطة أو جهة تتهيأ لإدانته على شر أفعاله، عندها ستحاول تلك الجهة التي وجهت إلى الغازي اِتهاماتها التخفيفَ من وتيرة خطابها الاتهامي له وتسايره بالمسايسة بكونها غير قادرة على مجابهته بالقوة، أو محاكمته على كل ما اقترفت يداه رغم توفر كل الأدلة ضده، ومن ثم تعود إلى مخاطبته بالمفردات الدينية حتى يرعوي، وسترى عندئذٍ الآثمَ بكامل الوقاحة وهو يسرد عشرات المزامير التي تتضمن الأخلاق الحميدة والفضيلة أمام أعين كل الشهود على رذائله.
علماً أن من أهم ما يجب أن يمتاز به أصحاب الفضائل هو الميل الدائم إلى الخير وليس ارتكاب كل الشرور والموبقات ومن ثم ارتداء بُرقع الفضيلة، كما أن من صفات ممتلك الفضيلة أنه لا يحيد عن الطريق القويم بخلاف صاحبنا الذي سلك كل المنعرجات السلوكية ولم يسر على طريقٍ قويمٍ منذ أن اجتاح هذه الديار بناءً على رغبة جهة خارجية أرادته أداةً رخيصة لتُقهر به وبأمثاله أصحاب العرض والأرض؛ كما أن الشخص الفاضل هو شخص حسن الخُلق وطيب السيرة، بينما صاحبنا السارد روايات الفضيلة التي حفظها عن ظهر قلب لا يمتُّ للخلق الحسن بصلة، وسمعته القبيحة تلاحقه كروائح الفطائس التي تغزو مشاتل الورود والياسمين وتطغى بروائحها الكريهة على كل طيبات المكان.
وبودنا في الختام أن نورد شيء من فلسفة الفضيلة وناسه حتى لا يستمر المنافقون في سرد قصص الفضيلة كنوع من أسلحة الدفاع المسبق عن الذات والتشويش على المستمع إلى درجة تكذيب الوقائع التي أمامه كي يصدق ما يسمع من ملفوظات الراوي الذي يحاول جاهداً جعل المستمِع إلى ملفوظاته يُخمن بأن السارد متوافق مع المسرود، بينما في الواقع قد لا يكون المحاضِرُ أكثر من حاويةٍ جميلة من الخارج بينما صندوقه يحوي كل قمامة أبناء الأزقة في جوفه؛ أما الفضيلة الحقة فهي التي يذكرها المؤلف الصيني هونغ ينغ منغ في أحاديثه عن جذور الحكمة، والذي يقول فيها: “إن صاحب الفضيلة لا يصبر على جرح حشرة ولا قتل نملة، ولا يسمح بأخذ خيطٍ غصباً ولا باستلاب إبرةٍ من غير رضى”. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…