تلاوة اللامبالاة

ماجد ع  محمد 

بالرغم من مرور أكثر من اسبوعٍ على دخولنا العام الجديد إلاّ أن وتيرة الأيام بقيت كما هي، فما من أحداثٍ صاعقة تشي بأن المُقبل أكثر ظلاماً من المغادر، ولا وقائع إيجابية تشير إلى أن الوافد سيكون أكثر إشراقاً من المنصرف، لذا فإن الوضع الراكد هذا جعل تساؤلات نهاية السنة الفائتة ما تزال معلّقة في صدر بهو الذاكرة على غرار الأشياء التي جررناها معنا إلى العام الجديد، ومن تلك الاستفهامات التي كانت أقرب إلى وخز الذات ومساءلتها، ما الذي يدفعك صوب مناخات الخمول وأنتَ في الشريط الأخير من وصلةٍ زمنية سريعة العدوِ وحيث أنك تدرك بأن تلك اللحظات الحاسمة التي تبدو فيها مستهتراً ستُضاف إلى الغابر بكل نجاحاتك وإخفاقاتك؟ ولن يكون بمقدورك إعادة إقلاع أي نابضٍ من نوابض المبادرة طالما أنها غدت خارج حدود الاستطاعة، وليس لك إلاَّ التحسر على الفائت أو معاهدة الذات بألا يكون القادم بسوية الذاهب.
ما الذي عليك القيام به في الهزيع الأخير من السَّنة المغادرة أو مع تباشير السنة الآتية وأنتَ قابَ قوسين من ألسنةٍ ستحرق آخر صفحات التقويم؟ وعادةً ما تكون المناسبة محطة مهمة لجرد الحسابات الحولية لما مضى وإعداد خططٍ جديدة للقادم من الأيام والشهور؟ ما الذي يدفعك لكامل البرود عوضاً عن مشاعر الحماسة التي تحثك على سرعة اغتنام لحظاتٍ على وشك التملص منك وأنت على ناصية الحدث الذي ينتظره الملايين غيرك حول العالم على أحر من الجمر؟
ما الذي ألزمك السكينة في الوقت الذي ترى كل مَن حولك يعيش في كامل الاضطراب بكونه على مفترق الوداع والاستقبال، ذلك ربما هو السؤال الذي لن تجد له جواباً عندما تكون بصدد القيام بشيء وإذ بشيء آخر لم يكن موضوع اهتمامك ولا كان حديث الساعة يوماً بالنسبة لك ولكنه مع ذلك يتصدر زمام المبادرة، وتراك بكامل الإنسابية متتبعاً خطى تلك الهواجس التي داهمتك من غير ميعاد، ويغدو حالك كمن كان قاصداً وجهةً ما في القطار ولكنه يرى نفسه ماضياً باتجاهٍ آخر عكس الأول، ويبقى أغرب ما في الأمر هو سرعة اندماجك مع الاتجاه الجديد بدلاً من تذمرك من آلية تغيير المسار برمته.
لا بدّ أن التوق الداخلي الخفي لدى المرء لمعرفة شيء جديد في الخارج أشبه بالاشتهاء المفاجئ لنوع معين من الطيبات، وبدا لي أن هذه الرغبة تأتي في بعض الأحيان بغتةً، بدون مقدمات، بدون أيَّ جاهزية وبدون تحضير مسبق، بل ويغدو ذلك الميلُ الجارف كالفكرة الخاطفة التي تأتيك ليس في وقت بحثك عنها أو تطويقك لكل الأفكار في زاوية ما حتى تستطيع الإمساك بتلك المطلوبة كما تفعل المرأة القروية وتحشر كل دجاجاتها في زاوية الحظيرة لكي تختار الأفضل من بينهن لمائدة يومها، ولكنها وسط اضطراب الكائنات في الحظيرة إذ بالدجاجة التي كانت ببالها تفر منها ويقع اختيارها لا شعورياً وعفو الخاطر على واحدة لم تكن محط اهتمامها قط، ولا فكّرت بها يوماً، ولا وضعتها نصب أعينها قبل حصارهن في الزاوية، وهكذا يكون وضعنا على الأغلب مع تزاحم التصورات ونحن بصدد تخميناتٍ معينة، وحيث نكون مشغولين بأخريات ومنتبهين لغيرها من الأفكار وهب تطل برأسها فكرة وتستحوذ على كامل تفكيرنا.
هكذا كان الحال مع القراءة أيضاً، فحيث يكون بعض الأحيان اهتمامنا منصب نحو نوعٍ معين من المصنفات ونكون مخططين لنهل صنفٍ محدّد من الأسفار، وإذ بنا في مجالٍ آخر، ونرى أنفسنا منهمكين بقراءة ما لم نخطط له وما لم يكون محور اهتمامنا في تلك الأوقات، ومنها أذكر أني حملتُ إلى البيت قبل أيام من مكتبةٍ في حي الفاتح باسطنبول كتابي الألفاظ الكتابية للهمذاني والحكمة الخالدة لابن مسكوية، وذلك علّني أبدأ عامي بهما ولكني عوضاً عنهما لم أجد نفسي إلاَّ وأنا أسبح في عالم مارك مانسون في كتابه فن اللامبالاة وأتصور أن اختياره ربما للشخص الفاشل لإيصال فكرته كان قد شدني أكثر لاتمام القراءة، لأن الاستهلال بتجربة صاحب “لا تحاول”* جرني لفضائه مع أنه سبق أن تحدث أمامي الزملاء عن الكتاب من قبلُ عشرات المرات ونصحني به بعضهم كثيراً ولم أشتريه، ولم أفكر طوال تلك المدة بقراءته، إنما من باب الاحتياط حملتُ يوماً ملفاً إلكترونياً من الكتاب في المحمول، ولأن الميترو كان مزدحماً جداً ذلك اليوم وهو ما منعني من تصفح ما اقتنيته حينها ولإشغال نفسي بشيء ما أثناء الرحلة بدأتُ بتصفح الكتب الموجودة في الجوال، وفتحتُ عدة ملفاتٍ وأغلقتها تباعاً، ولكني حين تصفحت سِّفر مانسون جذبني بشكل عجيب وربما لحاجة ما نفسية استحوذ على اهتمامي ذلك الكتاب ونسيتُ أمر الكتب الورقية التي اشتريتها للتوِ، وعند وصولي إلى البيت وضعتُ المشتريات على الرفِ، وعوضاً عنهما رحتُ أقلب صفحات الملف الإلكتروني واحداً تلو الآخر، ورأيتني في خضم اهتمام العالم من حولي وإكتراثهم الجم أطأُ عتبة السنة الجديدة بتلاوة سطور اللامبالاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*ديوان الشاعر تشارلز بوكوفسكي. 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف ليست القيادة مجرد امتياز يُمنح لشخص بعينه أو سلطة تُمارَس لفرض إرادة معينة، بل هي جوهر ديناميكي يتحرك في صميم التحولات الكبرى للمجتمعات. القائد الحقيقي لا ينتمي إلى ذاته بقدر ما ينتمي إلى قضيته، إذ يضع رؤيته فوق مصالحه، ويتجاوز قيود طبقته أو مركزه، ليصبح انعكاساً لتطلعات أوسع وشمولية تتخطى حدوده الفردية. لقد سطر…

نارين عمر تدّعي المعارضة السّورية أنّها تشكّلت ضدّ النّظام السّابق في سوريا لأنّه كان يمارس القمع والظّلم والاضطهاد ضدّ الشّعوب السّورية، كما كان يمارس سياسة إنكار الحقوق المشروعة والاستئثار بالسّلطة وعدم الاعتراف بالتّعدد الحزبي والاجتماعي والثّقافي في الوطن. إذا أسقطنا كلّ ذلك وغيرها على هذه المعارضة نفسها – وأقصد العرب منهم على وجه الخصوص- سنجدها تتبع هذه السّياسة بل…

فوزي شيخو في ظل الظلم والإقصاء الذي عاشه الكورد في سوريا لعقود طويلة، ظهر عام 1957 كفصل جديد في نضال الشعب الكوردي. اجتمع الأبطال في ذلك الزمن لتأسيس حزبٍ كان هدفه مواجهة القهر والعنصرية، وليقولوا بصوتٍ واحد: “كوردستان سوريا”. كان ذلك النداء بداية مرحلةٍ جديدة من الكفاح من أجل الحرية والحقوق. واليوم، في هذا العصر الذي يصفه البعض بـ”الذهبي”، نجد…

كفاح محمود تعرضت غالبية مدن الشرق الأوسط خاصة في الدول العربية المتعددة المكونات القومية والدينية والمذهبية منذ اكتشاف النفط وفي دول أخرى بُعيد انقلابات العسكر على النظم السياسية الى تضخم مريع في التركيب السكاني، وتغيير ديموغرافي حاد في ظل أنظمة اجتماعية قروية وسياسية شمولية، حولت المدن الى قرى مسرطنة بعد ان فعل الفقر والجهل والتصحر والعقلية السياسية المغلقة فعلته في…