إبراهيم محمود
هاهوذا عام 2022 على الدرج الأخير لأيامه، وعما قليل، عما قليل جداً، سوف يختفي عن الأنظار، ليصبح في عداد ذاكرة ” كان يا ما كان ” ليظهر عام 2023 على العتبة في أول طلّته، وثمة من يستقبله بالألعاب النارية،، ويتهيأ لاستقاله هكذا، والانغماس في الطرب واللهو والدخول في طقوس نهاية السنة وبداية شقيقتها اللاحقة عليها، وثمة من يستقبل العام هذا بالمزيد من كتم الأنفاس، وإعمال القتل والنصْب والاحتيال والنهب وخنق الحريات، هنا وهناك، تعبيراً عن صلابة موقف بؤس خلف لبؤس سلف، وعناداً في الاستمرار على الخط الوحيد والمعدِم لشعب بكامله أو يكاد.
ها هوذا العام الجديد المرتقَب، أو هكذا يجري وصفه، حيث يدقَّق في سيمائه، في نظرات عينيه، في هيئته، في قيافته، في سلته أو حقيبته البابانويلية ذات الطبعة الشرقية كثيراً وأي ميتات يحضّرها، وهو يقدّمها لأولي أمر هذه المجتمعات التي تعيش عبودية ما بعد عولمية.
وماالذي يمكن تأمله تحت وطأة هذا المشهود له بالبؤس ونزيف الأرواح بالجملة، وضخ المخاوف بالجملة، والعقابات الجماعية بالجملة، قبل الأوان وبعد الأوان؟ ماالذي يمكن أن يظهر عليه وجه العام الجديد وهو محاط بكل هذه المهالك والتوترات ؟
كيف لي أن أعبّر عما يعنيني إنساناً قبل أن أكون كاتباً، وكاتباً إنساناً يقدّر مسبقاً أن ليس من فصْل ممكن بين الحالتين، في الوقت الذي يُجزَم فيه أنه، في أيامنا هذه، من الصعب أن تكتب حيث تعيش، حيث المسمى بك وطناً، بصفتك إنساناً، فأي كتابة مقهورة تتلبسك بك، وتتراءى أشبه بأضواء ساطعة وساخنة تسمّي أحزانك والذين تنتمي إليهم، وما أصعب أن يكون الكاتب إنساناً ليكتب وملؤه إنسانية تستشرف أفق كرامتها وشرفها وحريتها كما هو حقها، وأن يكون كردياً، حيث ضاق الخناق على الكردية بأكثر من معنى، وفي الوقت نفسه، لا عليك، باعتبارك كاتباً إلا أن تكون صادقاً، كما هو المطلوب منك، وأنت على بيّنة تامة،ما يعنيه هذا الطلب ممن يعجزون تماماً عن النطق بألف المطلوب بينهم وبين أنفسهم. يا للمفارقة الكبرى ؟!
سوى أن علي أن أقول ما أراني ملزَماً بقوله، تعبيراً عن عمْر لا أراه يستحق عناء التفكير في المتبقي به، وأنا أعيش احتراقات الكردي بالكردي، والكردي النفاث في عقد الكردي، والكردي المتكالب على الكردي وفيه، والمتربص بالكردي، الكردي الذي يموت ليس حتف أنفه كثيراً على حدوده، لاحدوده، في الفناء الخلفي من داره، على عتبة بيته، في فراشه، في الطريق البائس إلى عمله المرهق.
أقول ما أراه واجباً أخلاقياً في الوقت الذي أدرك تماماً خواء هذا المعنى، وبعد هذا الحصاد المر من السنين، والثقافة التي تجلب الوبال لصابها كثيراً، ومن يعرّف بنفسه بها، وهذا المقام غيرالمحمود لما يعيشه ويشكِل فيه معناه على كل شيء.
ما يشفع لي، ما يشد في أزري ولو قليلاً، ما يعزز في كتابتي هذه، يتمثل في القلة القليلة ممن غادرونا في دهاليز العام 2002، وممن أبصرهم في أزقة العام 2023، ويصعب علي تصور حدوث تغيير في هذه الأزقة، ربما بالعكس .
تلمهني كثيراً أسماء وما أقلها، أصبحت في عالم اللامرئي، ما عدا أرواحهم وهي تمنحني تفاؤلاً رغم قلته .
ثمة أهل، معارف، أناس بسطاء، أناس لا يستعملون سوى لسان واحد، دون أن ينقسم على نفسه، أناس يعيشون يومهم دون تعقيدات رغم رعب المعيش اليومي، ولكم أفادني هؤلاء ” الكبار بأرواحهم ” في التشبث بالحياة .
ثمة من كنت وإياهم على قرب من مقام روح مشتركة.. كان هناك عزاء، مؤاساة، وجلّد نفسي للاستمرار في الحياة .
وربما أصْل هذا المقال الوداعي، التوديعي ، الودائعي مكتوب من أجله، وباسمه في الصميم، ربما كان اسمه في الأصل خميرة هذا المقال الذي يتنفس قبيل اختفاء ظل عام 2022 .
إنه محمد سيد حسين، الكاتب الكردي، الكبير عمراً، قلباً، وحيوية خاصة، المقاوم لعِلَله، شهيد الغربة والمدينة التي أحبها وأرادها مقامه الأخير: قامشلو، والقرية التي لطالما تغنى بها بشعره الخاص، ونثره الخاص: تل عربيد، والذي غادرنا في (12 شباط 2022 )، إشهاراً بما هو مأساوي في وسطه، كما لو أن الانتقال إلى الإقامة الأبدية في تل عربيد، حيث هناك الذين سبقوه من أهله: أبويه وخلافهما، طلب لراحة بعد عمر لم يُعد يطاق في حمْله الثقيل، ووسطاً يُسمّي سيئه المرئي أسوأه عن قرب وعن بعد . هو ذا الراحل الكردي الذي أسمّيه، وهو مسمى، العصي على النسيان، حيث كانت الجهات أكثر اعتدالاً، وبساطة عند تجاذبنا لأطراف الأحاديث عن بعد.
طبعاً، سأكون منكراً لنفسي، لخاصيتي ككاتب، إن لم أتمنَّ الخير للجميع، لأي كان، لمن ينطق بالكردية وغير الكردية، للذين بيني وبينهم أكثر من عقد محفوظ في الذاكرة المشتركة وليس مكتوباً، بوجوب التواصل والتواسي هنا وهناك. أصدقاء، وهم قلة، قلة، قلة قليلة، لكنهم يكفْونني فيما أفكر فيه، وأجد نفسي أقل توتراً، وانغلاقاً على الذات . حيث نظراتي ممتدة إلى صغار العالم، وبينهم حفدتي، وقلبي يتوسل المجهول أن يكون القادم من الأيام أرأف بهم مما هو الآن وقبل الآن !
أبث سلام العام الجديد، ولا بد من ذلك، باسم من أشرت إليهم، ومن يفكّرون مثلي بالطريقة عينها، إلى الذين يقيمون في الجهات الأربع من المعمورة. أحيي روح الصديق الكبير عمراً، ومقاماً، وحضوراً باسمه: محمد سيد حسين، حيث مثواه في قريته ذات المناقبية اللافتة: تل عربيد. كل سنة وأنت بذكْر أفضل، ومن هم حولك بحياة أفضل، ومن يدركون ويعرفون من أسمّي وإن لم أسمّ، حيث التلميح مقروء ومؤدي المعنى أكثر .
لنلتق بعد سنة !