إيران.. مرور مائة يوم على الإنتفاضة ضد الدكتاتور! نظرة على الشوط المقطوع وآفاق انتفاضة الشعب الإيراني! – الجزء الثالث والأخير

عبدالرحمن کورکی (مهابادي)*

لعل أهم إنجاز للانتفاضة الشعبية الأخيرة يمكن تلخيصه في هذه الجملة التالية وهي أن : “أبناء الشعب الإيراني قد وجدوا أنفسهم في هذه الانتفاضة”، ذلك لأنهم اعتقدوا بأنهم معا أقوياء وجميلون، ولقد قوبلت قوة وفعالية الإنتفاضة بنظرة إعجاب وتقدير شعوب العالم الشعوب.
بالطبع لم يكن أبناء الشعب الإيراني غافلين عن الحقيقة الخطيرة المتمثلة في أن بعض المدعين جاءوا إلى مشهد الأحداث لمجرد ركوب هذه الموجة للوصول إلى الخبز والزبدة، وباعتمادهم على العديد من الإنجازات والخبرات التي اكتسبوها في نضالاتهم الماضية أدركوا أن هؤلاء المدعين ليس لديهم هدف آخر سوى الإبقاء على الدكتاتورية وإطفاء الانتفاضة، وشئنا أم أبينا لم تكن التيارات التي تريد “إبطاء” تقدم الانتفاضة لصالح الديكتاتورية الحاكمة في هذا الصدد بالعدد القليل، لكنها لم تستغرق طويلا حتى تعرت وبهتت ألوانها في مواجهة الإرادة القوية والمحكمة للشعب في جميع أنحاء إيران.
وعلى الرغم من أن ظهور مثل هذه الظواهر العابرة عديمة الجذور يمكن أن تكون إحدى السمات التي تطرأ على أي انتفاضة على أصعدة مختلفة، إلا أن التغلب عليها قبل كل شيء يظهر مدى تطور وتقدم انتفاضة الشعب الإيراني للوصول إلى الهدف المشترك.
أدرك الشعب الإيراني المائة يوم المنقضية من الإنتفاضة أن “سر الانتصار” على الدكتاتور هو “وحدة القوى” ضد الدكتاتور،  وهذا هو السبب الذي جعل موجة معارضة “الحجاب” في الأيام الأولى لتأجج هذه المرحلة من الانتفاضة “الجدل اليومي  الساخن” وأراد بعض المدعين استبدال هذا الجدل اليوم بشعار الشعب ومطلبه الرئيسي، ولقد تحدى الشعب الإيراني أنصار هذه الموجة باليقظة المطلوبة ولفت أنظار الجميع إلى أن أحد “مبادىء القضية” وهو “الحجاب الإجباري” أي رفض الحجاب بالإكراه، ثم تبع ذلك بجواب واع ترديد شعار ” بالحجاب أو بدون حجاب ماضون قدما نحو الثورة”، وقد أدى المدعون دورهم التاريخي وأظهروا أن تقسيم المجتمع بين فئتين فئة”بدون حجاب” وأخرى “بحجاب” ظاهرة منحرفة حيث تذهب فوائدها مباشرة إلى جيب الدكتاتور، وتثبت هذه الحقيقة أن تقدم الانتفاضة الشعبية ونجاحها يكمن في مدى قدرتها على التصرف بيقظة أمام الانحرافات المحتملة!
ولقد رأينا جميعا في الانتفاضة الأخيرة نمو واخضرار بعض الحركات الفردية والجماعية كنباتات الربيع، ولكونها نباتات ربيع غير أصيلة فقد جفت سريعا وتلاشت! ذلك لأن عصر ركوب الأمواج والإنتهازية قد ولى وأدبر، ولم تنعكس موجات انتفاضتهم الضخمة، هذا ولم تكن قليلة عدد التيارات التي تحركت على أرضية الديكتاتور تحت مسميات مختلفة دينية، وقومية، نسوية، وحول الحجاب والعلم، وإقليمية، و… وما إلى ذلك وجميعها تجري باتجاه حماية مصالحه، لكن رد الشعب كان حاضرا للوقوف  في وجه مثل هذه الأعمال المثيرة للانقسام وردوا على ذلك بترديد شعار “روحي فداءا لإيران” وختموا وشمعوا مطالبهم بتقديم أحبتهم قرابين على طريق “إسقاط الدكتاتور”.
لذلك عندما وجدت قطاعات مختلفة من الشعب وتلاقت مع بعضها البعض في الانتفاضة الأخيرة انفجرت القدرات الكامنة داخل المجتمع الإيراني وتحولت إلى صرخة في مواجهة الدكتاتور كشعارهم “نحن جميعا معا ، نحن أمةٌ لا تقهر”، وفي ضوء هذا التحول الكبير اتخذت ثقافة المجتمع لونا وطعما ورائحة ووجودا مختلفا ومهددا للدكتاتورية ولم تقم بإخضاعه فحسب بل أدت إلى بقاء جماهير الشعب المتحدة على الدوام في الميادين أقوى من أي وقت مضى ولم تنحني، وهذا لأن الجميع كانوا على استعداد للتضحية بحياتهم من أجل الآخرين، فيهتف الأب على جثمان الإبن بـ”العزة والفخر”، والإبن  “يجدد العهد بدم الأب”، ويرفع الإبن أصابعه بعلامة “النصر” على قبر والديه، وتخاطب الناس والدة الشهيد قائلة: “أماه لا تبكين نُقسم أننا سننتقم لإبنك”.
نعم، على الرغم من أعين الجميع الدامعة وقلوبهم المكلومة يقولون لبعضهم البعض “لا بأس عليكم لا تهتموا!” ويتعهدون لبعضهم البعض بالقسم “نقسم بدماء الرفاق ننا سنقف حتى النهاية” و … بهذا المعنى وعلى هذا النحو تشكلت ثقافة جديدة في أوساط الشعب الإيراني.. ثقافة عالية “الكل لأجل واحد، والواحد لأجل الجميع”، ولم يعد أحدا يفكر في رغباته وشعاراته وأفكاره ومُثله الخاصة، وما كان له ذلك الصدى والبريق هو الصدح بشعار”الإطاحة بالدكتاتور”عندما تحولت الدموع إلى صرخات انتقامية ويصدح الجميع في تناغم تام على قلب واحد وصوت واحد: “الشهداء لا يموتون”، “اذا قُتل شخص فورائه الف شخص ظهير”، لقد وجد الجميع بعضهم البعض كأخوة وأخوات ورفاق روح.. الكُرد، اللُر، البلوش، الآذر، التُركمان، العرب، السنة، الشيعة، المسيحيين…وغيرهم، وإن هذا لإقدام تاريخي شجاع ونبيل من جانب الشعب الإيراني نحو المستقبل وغد إيران الحرة، الكل على قلب واحد وبصوت واحد وفي نفس واحد يصرخون بنفس النداء “الموت للدكتاتور”.
وعلى هذا النحو تشكلت وحدة تاريخية بين جميع مكونات الشعب الإيراني، نعم إنها الوحدة التي كانت الدكتاتورية الحاكمة تخاف منها بشدة ذلك لأنها أظهرت للعيان أن كل مؤامراته وجهوده لكسر هذه الوحدة قد مُنيت بالفشل، وكانت هذه هي الظروف  الموضوعية والخزينة التي لا بديل ولا عِوض عنها فقد نشأت بفضل وببركة تضحيات الشعب في الانتفاضة، وهذا ما كانت المقاومة الإيرانية تبحث عنه منذ زمن طويل، أما الآن فسيتم تحييد العديد من مؤامرات الدكتاتور وأعوانه وحلفائه وأنصاره بهذه “الوحدة الوطنية والإنسانية”، الحال وكأن كيميائيا قام يصوغ كل شعار ومطلب داخل إيران بنكهة “اسقاط الدكتاتور” ليس ذلك فحسب بل بات وكأنه يعطى الحكومات توجيهات لمواءمة سياساتها واستراتيجياتها معها(مع الإنتفاضة الإيرانية)!
هذه اللوحة التاريخية الممجدة هي التي جعلت إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس الإرهابي ورؤسائه وأقرانه في حالة غضب وذعر وخوف! أتحت التراب مصيرهم أم فوق التراب وكيف حالهم فوق التراب، لينهض بقفزات ونظرات مرتابة أمام شروق شمس الحرية! إنه الرعب الذي يشير قبل كل شيء إلى المرحلة النهائية للدكتاتورية الدينية، وعاش المنادي بهكذا صرخة ولمثل هذا الغد!
كلمة أخيرة
لن تنطفأ انتفاضة أبناء الشعب الإيراني من أجل إسقاط الديكتاتورية الدينية وستستمر حتى تحقيق النصر ذلك لأن هذه الانتفاضة  “دفاعٌ مشروع” في مواجهة الدكتاتورية، وبغض النظر عن التقلبات والنهضات التكتيكية ووفقا للتقاليد الخالدة للتاريخ وتجارب الشعب الثمينة في كل بقعة جغرافية من هذه الأرض فإن انتصار الشعب على الدكتاتور أمر حتمي ومؤكد!
وبهذا التطور والنضوج المنطقي والعلمي لانتفاضته فإن الشعب الإيراني الآن في مرحلة “الهجوم” على الدكتاتورية الحاكمة، ولقد توصل الشعب إلى حقيقة أن عصر المطالبة من الديكتاتورية قد انتهى ولا ينبغي لهم أن يقبلوا بأقل من الإطاحة بالدكتاتور،  إنهم لا يأبهون لتلك المطالب من قبيل “اللاعنف” الذي تطالب به بعض التيارات الدكتاتورية المنكسرة، لقد أدركوا أن الطريق الوحيد لمواجهة الدكتاتور هي “الرد بالنار على النار”. الأساليب “السلمية” أو “اللاعنف” فليست ولن تكون أكثر من سراب، وأما الاستراتيجية الصحيحة فليست سوى الوقوف بوجه القوى القمعية للدكتاتورية.
لقد وجد الشعب الإيراني أن أفضل طريقة للدفاع في “مهاجمة” الدكتاتور وهو مصمم على الانتقام، ويعرفون أنهم لم يعودوا بمفردهم وضعفاء وأن الأساليب الأخرى لمواجهة الدكتاتور ستكون فعالة عندما يكون ذلك في ضوء “إطلاق النار” على مراكز الدكتاتورية، ولقد انتقل الشعب الإيراني في تحركه من طور”الألم المشترك” إلى طور “العلاج المشترك”، وهذا نهج جيد لمعارضي الدكتاتورية، وإذا اختارت قوى المعارضة الإيرانية أي طريقٍ آخر غير هذا المسير فإنها ضلت طريقها، ففي مثل هذا السياق يجد كل شيء مكانه الحقيقي وبسرعة! إذا تحركت مع الحقائق فإن الثقة وراحة البال وقوة القلب ستحل محل القلق والعجز!
لقد تجاوزت انتفاضة الشعب الإيراني الآن مرحلة “رفض الديكتاتورية”، ويُعتقد أن تقدم وسرعة الإطاحة بالديكتاتورية مرهون بالاعتراف بـ “البديل الديمقراطي” لهذا النظام.
نهاية الجزء الثالث والمقال
*کاتب ومحلل سياسي خبير في الشأن الايراني.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…