إبراهيم اليوسف
قد تبدو المعادلة مثيرة للاستغراب، عندما يرفض ذلك الكردي تلقي بناته وأبنائه التعليم المدرسي بلغتهم الأم، بعد أن كان مجرد الاعتراف بالكرد في سوريا التي هيمن عليها النظام العنصري عقوداً طويلة، سواء في الحقبة ما قبل الناصرية والبعثية، أو ما بعدهما، إذ إن أية قراءة دقيقة لهوية- الدولة العميقة في سوريا- ولو في بنيتها الهلامية، تظهر أنها كانت في حالة عداء مع الكرد، وهو ما تنامى تدريجياً في مختبرات الناصريين و العفالقة الأرسوزيين ومن والاهم، كامتداد للنزعة العنصرية المتأصلة في مواجهة من يسمى- شعوبياً- لمجرد إعلان أو تباهي أحدهم بقوميته، خارج السياق المفروض، وهو ما كان يتم في أوج زعم الادعاء برباط الأخوة الذي كان الكردي أحد أقوى أعمدته الفقرية، لاسيما إذا عرفنا أن نخب: الفرس- الأتراك، وسواهم من أبناء القوميات الأُخرى كانوا يوجهون دفة عالم الدين الجديد الذي انخرطوا فيه.
كلٌّ في اتجاهه، رغم تقديس العربية: لغة القرآن الكريم، إلا إن الكردي، وبسبب طبيعته وعاطفته اللتين يهيمن تحت سطوتيهما، كان الأكثر انخراطاً في لجة رباط هذه الديانة، لتخذله نخب القوميات الأخرى، ويديروا له ظهر المجن، بعد نشوء الدول القومية، برعاية من الغرب- الاستعماري- الذي يذمُّه الآن، جميع هؤلاء الذين حولهم هذا الاستعمار من حالة القبيلة/ التيه إلى حالة الدولة، في تآمر على الكردي، وتنصل لمبادىء ويلسن الأربعة عشر1918 التي سبقت في خطوتها العملية شعار” حق تقرير المصير “الذي نضج وأشيع لاحقاً، ويتمُّ التنكر لمعاهدة سيفر 1920 عبر معاهدة لاحقة هي: لوزان 1923ويغدو أتاتورك، المتعلمن، محط إعجاب جميعهم، تدريجياً، لاعتبارات معروفة، وثمة تفاصيل يمكن قراءتها حين متابعة ما جرى على مسرح السياسة الدولية، وفي كواليسها، وأروقتها، قبل قرن من الآن!
وإذا كانت معاهدة لوزان التي نعيش عشية مرور قرن عليها، بمثابة طلقة رصاص على حلم الكردي، في بناء دولته، واعتماد علمه ولغة علمه، فإن” نخب” الدول المتقاسمة لخريطته أمعن كل منهم، من جهته، في إتباع سياسات محو أرومة الكردي، وتغيير هويته، ورفض الاعتراف بوجوده، وتسميته: عربياً، أو فارسياً، أو تركيَّ جبل، أو حتى ابن جن، وفي كل هذا ما يدل على عظمة شأنه.
دوره. قوته- وهو أحد أعمدة الشرق الأوسط- إلا إن اللغة الكردية استطاعت أن تحافظ على ذاتها، من قبل أبنائها وبناتها، رغم الحرب على وجودهم ولغتهم، عبرعمليات التغيير الديمغرافي، وتشويه صورة الكردي، وتحفيز ضعاف النفوس للتنكر لانتمائهم القومي!
ثمة عطش عظيم، من لدن الكردي لكل ما يتعلق بلغته الأم، إذ إن عوام الكرد، كما نخبهم الثقافية والسياسية، لم يكفوا في يوم ما عن حلم تعلم بناتهم وأبنائهم بلغتهم القومية، أو أن تكون لغتهم اللغة الرسمية الثانية في المدرسة وحياة البلاد، إلا إن ذلك قد لقي كوابح ومواجهات جد صعبة، فما أكثر هؤلاء الذين تعرضوا للتعذيب، والسجن، والملاحقة، و حرب اللقمة، والوجود، بسبب تشبثهم بلغتهم، على اختلاف طبيعة الدكتاتور العنصري في هذا الجزء المحتل لخريطته، أو ذاك، بحيث إن الوعي باللغة كان جزءاً من منظومة رؤى الكردي، أينما كان، وإن وجدنا تذويب الكرد في كردستان الشمالية، منذ بدايات ثمانينيات القرن الماضي، بعد إفراغ قرى الكرد، ومؤامرة تهجيرهم إلى المدن الكبرى في تركيا- وهذا خطر طال الملايين من الأجيال اللاحقة- ويتطلب من ب ك ك الاشتغال على هذا الجانب لا التربع على جغرافيا سواه- ولنجد أن لكل من نظامي سوريا إيران وسيلتيهما في ذلك، وإن كانت كردستان الجنوبية ستحقق لذاتها، حالة جد خاصة، منذ سبعينيات القرن الماضي، بل وإن كانت هذه الحالة قد مرت بمحطات عديدة. إن كل هذا- أجل- ليدل على أصالة ومتانة عرى الربط بين الكردي ولغته، كجزء مهم من هويته القومية، بل وقبل ذلك: الإنسانية!
في ترجمة حلم الكردي- في كردستان”سوريا”
تميز الكردي- في روج آفايي كردستان- بخصوصية وعيه القومي، وهو ما نجده في اعترافات قادة عدد من الأحزاب الكردستانية: الشرقية- الجنوبية- الشمالية، وثمة تعاون مهم، قد تم بين النخب السياسية والثقافية لتعليم القراءة والكتابة باللغة الكردية الأم وقواعدها، وقد كنت أحد الذين أتبعوا إحدى دورات قواعد اللغة في ثمانينات القرن الماضي، مع آخرين، ولا أتصور حزباً سياسياً كردياً. كاتباً كردياً. مثقفاً كردياً، إلا وقد شدَّد على طلب اعتماد اللغة الكردية في البلاد: كل على طريقته، وقد عولنا جميعاً على – الثورة السورية- المجهضة- في بداياتها2011، أن تحقق مثل هذا الهدف، وأكرر ما قلته أكثر من مرة أنني في أول اجتماع تحضيري للمجلس الوطني السوري-قبل إعلانه الرسمي- طالبت بأن يكتب على لوغو المجلس باللغتين العربية والكردية-ولربما غيرهما- ما عدت أتذكر جيداً، ولقي الطلب استحساناً، وكتبت العبارة على- اللوح بخط يدي- وأكد د. عبدالباسط سيدا على دقة الترجمة، ليستحسن الحضور هذا المقترح غير الكرد، كما الكرد، وإن راح هذا المطلب الذي طرح في- استنبول- يتبخَّر، بل لقد وزعت في هذا الاجتماع رؤية اتحاد التنسيقيات في فدرلة سوريا، ووضعت نسخة من هذا المشروع على طاولة كل عضو حضر ذلك الاجتماع- وكان عددنا في حدود الثلاثين عضواً- وهو ما أشرت إليه، آنذاك، في أكثر من حوار أو مقال!
ما يجري في” كردستان سوريا”
بعد تمكن ب ك ك- عبر اسم الاتحاد الديمقراطي- عبر اتفاقات معلنة، أو غير معلنة، لتسلم زمام الأمور في-روج آفايي كردستان- وما حولها، عبر دماء ما يقارب عشرين ألف شابة وشاب، سعى إلى أن يبسط سياسات مجرد حزب واحد، وإن اصطنع بعض الواجهات، واستكرى بعضها الآخر، وانخدع عددٌ منها نتيجة خلل في علاقاتها مع المجلس، لما كان يدور في أروقة المجلس من هيمنات أشعلت نار الفرقة، و أوغرت الصدور- من دون أن ننسى محاولات أدوات” ب ك ك” لتفريق هذه الحالة الكردية، بعد أن كان أي تجمع لهم لا يزيد عن عشرات الشباب المغرَّر بهم، ناهيك عن أنه راح ينفذ- أجندات- اتفاق عمليات التسليم والاستلام، في ضرب الحراك الشبابي، في الوقت الذي سعى بعض المهيمنين في المجلس،أو خارجه، لابتلاعهم. كل لغاية ما، ليعتمد هذا الدخيل عنصر العنف، في مواجهة كل مختلف، والشروع بعمليات: الخطف- القتل- التهديد للهيمنة على الشارع الكردي، ليهيمن عليه، عبر أسلوبي الترغيب والترهيب، ويحدث فجوة كبرى بين أبناء الشعب الواحد، ويتم الاستعداء على الكرد، لاسيما إن بعض أبناء المكونات الأخرى هم في الأصل، ضد كل ما هو كردي، و وجدوا في ظهور واجهات” ب ك ك” مشجباً لتفريغ سمومهم، وهم. أكرر: ضد كل ما هو كردي، ثقافة، بسبب تتلمذهم على أيدي غلاة عنصريي البعث!
كردي وضد التعليم المؤدلج بلغته؟!
أيعقل أن يتحول هذا الكردي، المتعطش للغته إلى معادٍ لتعلم أبنائه وبناته بها، وهو الذي سعى- تاريخياً- للمطالبة بها، في مواجهة عنف واستبداد أعتى أنظمة العالم الدموية؟ .إن إعلام “ب ك ك” يحاول- حالياً- الترويج لعداء ذلك الأب الذي يهاجر خلف الحدود حرصاً على متابعة أبنائه وبناته التعليم، ممتنعاً تعلمهم باللغة الكردية في مدارس تسمى: كردية، بل هناك المعلم الذي يسجن في سبيل ذلك، والمدرسة أو المعهد اللذان يُهدّدان بالغلق إذا اتبعا التدريس باللغة العربية. أيعقل أن يعادي الكردي لغته. أن يهاجر إلى دمشق أو اللاذقية ليواصل أبناؤه وبناته التعليم- ومن بين هؤلاء ساسة وأشباه مثقفين من بطانة السلطة الجديدة يفعلون ذلك.
ثمة سببان رئيسان لابد من أن نذكر ب ك ك بهما:
أولهما أنه مرفوض في- روج آفايي- كردستان- جملة وتفصيلاً، ولولا عامل العنف والمنفعة أو الخديعة لما كان بين صفوف الموالين له أحد ذو شأن، لذلك فإن قوته في- سلب إرادة الآخر- وترهيبه!
ثانيهما عدم ثقة أحد بمستقبل بقاء ب ك ك على رأس السلطة لأنه لم ينبع من إرادة وضمير ابن المكان، وإنما يقوم بدور المحتل
ناهيك عن تفكير الكردي، بمستقبل ابنته أو ابنه، علمياً، ورفضه- أيديولوجيا- ب ك ك، ولربَّ سائل: ترى لماذا لم يرفض أولياء أمور الطلاب والطالبات الكرد تعلم فلذات أكبادهم في مدارس النظام، وقد كان البعث يؤدلج مناهجه حتى التربية الدينية منها:
ثمة ردان هنا:
أولهما أن لا طالب أو طالبة علم كرديين كانا يتقبلان ما يتلقيانه، في مدارس البعث، وإن كان مفروضاً عليهما تلقي هذه الأدلجة مع منهاجهما، لأن البيت الكردي كان ينشىء مناعة- ضمنية- لدى بناته وأبنائه، ضد ثقافة البعث، ونظامه، وإن كان هذا البيت يربى أفراد أسرته على القيم الوطنية والإنسانية كما القومية الكردية!
ثانيهما أن سوريا كانت ولاتزال- إن شئنا أو أبينا معترفة- دولياً، ولاتزال شهاداتها بعد إحدى عشرة سنة من الحرب مقبولة أوربياً، في الوقت الذي لا يتم الاعتراف بشهادات بلدان خليجية- مثلاً- بينما الشهادات التي تنال من مدارس- روج آفايي كردستان- وللأسف، لن ينظر إليها حتى ك” مجرد كورسات”، وإن كنت- في قرارتي- أرغب لو أن أولي الأمر العابر جردوا التعليم من الأدلجة، أو الأوبجة التي لامستقبل لها، بعيداً عن العنف، وأن يعترف بهذه الشهادة.
وإذا كنت أبين موقفي- من ب ك ك- في مكاننا، فإنني أرى أن مكان نضاله هو كردستان الشمالية، وإنني ممن يناصرون أهلهم الكرد في تركيا، في تقرير مصيرهم، ولعلي كنت من عداد من دعوا في- الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد- قبل مئوية سيفر و لوزان لبرنامج عمل متكامل- وهو منشور في موقع ولاتي مه- عبر بيان باسم الاتحاد، ومع حق كل كردي، في كل شبر من كردستان الكبرى، إلا إنني ضد تصدير- السلطة- الاستيلاء- على أجزاء أخرى، من قبل أي طرف كردستان سواء أكان: الديمقراطي- أو الاتحاد أو أي حزب من كردستان الشرقية أو الشمالية أو الجزء الغربي من كردستان، إلا إنني مع دعم كل طرف للآخر، دون التدخل في شؤونه، والاستيلاء على مقدراته، وقدراته، و” أقداره” و وقراره، ووجوده. إنه محض احتلال واستعمار!
عود على بدء:
إن على منظومة” ب ك ك” المتحكمة برقاب وشؤون أهل- روج آفايي كردستان- الكف عن فرض القرارات الجائرة بحق أهل المكان، و تجويعهم، واضطهادهم، وتهجيرهم، لأن لا مستقبل له ولمنظومته في هذا المكان، حتى وإن أكره أن يعامل، كوصي، على المكان وأهله، لما بين يديه من أوراق استحصلها بدماء أهل المكان أنفسهم، وراح يدمر جغرافياهم، ويبدد خيراتهم، وينفذ أبشع خطط التهجير بحقهم، نتيجة تسلطه.
كما إن من واجب النخب الثقافية الكردية، عدم الانخداع، بذرائع واهية، على حساب إنسانهم، ووجوده، أو التنظير المراوغ لما يتم ، لقاء رتبة أو راتب أو ربتة- وهنا مكمن الخطورة- وإن كان السكوت، أفضل، في هذا الحال، إذا ما قورن بأي ضرب من المساومة على مصير الأهل، لأن لا أحد منا أشد حرصاً على مستقبل: ابن أو ابنة ذلك الكردي الذي يواجه قرارات ب ك ك، والمموهة بسلوفانات براقة. خادعة.
قد يتبع