شاهين أحمد
كل المؤشرات تدل على أن العلاقات بين الحكومة التركية ونظام الأسد ستشهد تغييراً كبيراً وفي مختلف المجالات خلال المرحلة المقبلة، ومن المتوقع أن تخرج تلك العلاقات من حقول التنسيق الأمني – السري إلى حقول العلاقات السياسية والتجارية العلنية فيما إذا ” سمحت ” أمريكا بذلك . والتصريحات الأخيرة والمثيرة للمسؤولين الأتراك تصب في هذا المسار، وهو شيء طبيعي في السياسة وعالم المصالح والعلاقات بين الدول. حيث قد تشهد العلاقات بين أي دولتين توتراً وانقطاعاً، ومن ثم عودةً وتقارباً أكبر . وبما أن تركيا تستضيف نحو 4 ملايين لاجىء سوري غالبيتهم الساحقة من المكون العربي السني المعارض لنظام الأسد ، وكذلك فإنها توفر ملجأً آمناً لـ قيادة الائتلاف الوطني كأكبر منصة سورية رسمية معارضة و مكاتب حكومته المؤقتة ، لذلك هناك مخاوف مشروعة من تأثير هذا التقارب على السوريين المتواجدين في تركيا بشكل عام وقيادات المعارضة بصورة خاصة.
وجديرذكره أن ماقدمته تركيا للاجئين السوريين في الجانب الإغاثي والإنساني وفي مرحلة صعبة جداً لم تقدمه – باستثناء اقليم كوردستان العراق – أي دولة عربية أو غير عربية . لكن هذا لايعني أن ننظر لتركيا كأنها جمعية خيرية وجدت لخدمة السوريين، لأنها دولة اقليمية كبيرة ، تحتل موقعاً جيو – سياسياً مهماً جداً كبوابة لأوربا، ومطلة على بحار وممرات مائية حيوية، وعضو في حلف الناتو، ولها مصالح كبيرة ومتداخلة مع الجوار الاقليمي والمجتمع الدولي، كما أن لها هواجسها ومصالحها وأحلامها وأهدافها ومطامعها كأي دولة.ومن البديهي أنها سوف تتمسك وتفضل مصالحها على أية مصلحة أو ملف آخر، وهذا مانجده اليوم . ومايجري ليس غريباً أو مفاجئاً لكل متابع لمراحل الأزمة السورية ولمن يفهم قانون المصالح ومبادىء السياسة. فقط السذج مندهشون من التصريحات الصادرة عن القيادة التركية بخصوص التقارب المتوقع بين الجانبين . وهنا نسأل الاخوة في المعارضة السورية ،ماذا كان يجري في أستانا وسوتشي طوال سنوات؟. ولماذا كانت كل تلك المصالحات المحلية التي سلمت بموجبها غوطتا دمشق ونصف العاصمة ،وحمص وشمالها ،وحلب وغربها، وجنوب ادلب وشمال حماه …إلخ. لماذا كل هذا الاستغراب وأنتم كمعارضة حضرتم جميع جولات أستانا عسكرياً وسياسياً ؟. أهو غباءٌ سياسي أم محاولة استغباء للسوريين الذين دفعوا أثماناً غالية من دماء أبنائهم وممتلكاتهم ؟. أليس كل ما جري في مسار أستانا – سوتشي كان خروجاً وانحرافاً واضحاً عن المسار الأممي للعملية السياسية في جنيف وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة وخاصة القرار 2254 ؟. القيادة التركية تخدم مصلحتها ومصالح بلدها وشعبها وهذا شيء طبيعي ، ماالذي يمنعكم من خدمة شعبكم والتمسك بثوابت الثورة الوطنية السورية وأهدافها ؟. لماذا حشرتم أنفسكم في الصراعات التركية – العربية ، والعربية – العربية ؟. هل تمتلكون إرادة التحرر من سيطرة الأسلمة السياسية الراديكالية التي تتحمل مسؤولية حرف الثورة وسرقتها وأخذها إلى مكان آخر بعيداً عن أهداف السوريين ؟. هل ستكملون المسيرة مع توجه أستانا – سوتشي وتقبلون بـ ببقاء النظام كأمر واقع ، وتدخلون في شراكة معه من خلال حكومة محاصصة على قاعدة ( عفا الله عما مضى )؟. لكن بالمقابل ألا تتوقعون بأن هناك من سيخرج وسيرفض هذا المسار وخاصة من الذين خرجوا إلى الساحات من جديد تحت شعار لن ” نصالح ” ، وسيتمسكون بأهداف الثورة وثوابتها الوطنية ،بالرغم من الظروف الصعبة والحالة المزرية للشعب السوري عامة وللحاضنة المعارضة بصورةٍ خاصة ،و ضعف وغياب مقومات الصمود والاستمرارية ؟. القيادة التركية كانت واضحة تماماً وخاصة بعد قمة طهران الأخيرة التي جمعت رؤساء تركيا وروسيا وإيران في إطار مسار أستانا – سوتشي ، ومن خلال وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو الذي أطلق إشارات جديدة وأقل ضبابية نسبياً بإتجاه الإعلان عن ماجرى من لقاءات أو اتصالات في مسار التقارب مع نظام الأسد، وخاصة إزالة الستار عن ما جرى بين الجانبين سابقاً في بلغراد على هامش اجتماعات دول عدم الانحياز . والصدمة التي أحدثتها التصريحات المذكورة في أوساط الحاضنة المعارضة البعيدة عن اللعبة السياسية. ولكن سرعان ما قطعت القيادة التركية الشك باليقين، من خلال تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال رحلة العودة من أوكرانيا حيث التقى بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وذلك بتاريخ الـ 19 من آب 2022 حيث قال : ( هدفنا ليس هزيمة بشار الأسد بل التوصل إلى حل سياسي لإنهاء الأزمة السورية، وعلينا اتخاذ مزيد من الخطوات ” مع النظام السوري ” من أجل إفساد مخططات في المنطقة، والدول لا يمكنها استبعاد الحوار الدبلوماسي ) . كلام في غاية الوضوح ،والسؤال الأهم الذي يطرق أبواب متصدري المشهد السوري المعارض وخاصة قيادة الائتلاف هو : بدون أدنى شك أنكم – قيادة الائتلاف – لن تستطيعوا تغيير توجهات القيادة التركية في مسار التطبيع مع النظام السوري، لأن المراهنة على فشل الحوار أو التقارب بين الجانبين فيما إذا بقيت أمريكا صامتة يعني كمن يخدر نفسه بنفسه ، لأن الأوضاع الداخلية في تركيا وخاصة ما يتعلق بالتحضير للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة التي تعتبر مصيرية للرئيس أردوغان وحزبه،وما يفرض عليهم القيام بجملة اختراقات قد تكون مؤلمة في هذا الجانب ( العلاقة مع النظام السوري )، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ماتقوم بها المعارضة التركية من تحشيد للشارع وتجيشه ضد وجود السوريين،وتحميل السوريين أسباب تدهور العملة والغلاء المعيشي ، وبالتالي التمهيد للمصالحة مع نظام الأسد والتخلص من مشكلة اللاجئين السوريين (حسب زعم المعارضة )!. وسط كل هذه العواصف والأعاصير التي تجتاح المنطقة بشكل عام ومساحات تواجد المعارضة الرسمية المتمثلة بـ الائتلاف السوري بصورة خاصة هناك سؤال مصيري يطرح نفسه بإلحاح على قادة الائتلاف وهو :
ماهي الخيارات الواقعية المتاحة أمامكم تجاه أعباء ومتطلبات المرحلة القادمة، أي مرحلة مابعد المصالحة والتطبيع بين الحكومة التركية والنظام السوري في ظل الانسداد الذي وصلت إليه الأزمة السورية ، والتراجع واللامبالاة من جانب المجتمع الدولي بعد الحرب الروسية – الأوكرانية وتداعياتها السلبية على ملفي الطاقة والغذاء على المستوى العالمي ، والتردد والغموض الذي يكتنف الموقف الأمريكي ؟.
خلاصة القول
طالما أن الأقدار شاءت أن تكون جزءاً من الملايين التي خرجت إلى ساحات الوطن وميادينه ، وطالبت بالتخلص من الاستبداد وإقامة البديل الوطني الديمقراطي ، والانخراط في خندق المعارضة لنظام أوصل بسوريا إلى الدمار ، وبشعبها إلى النزوح والمهاجر والشتات ، فلا بد أن تبحث عن كل ما من شأنه إعادة إنتاج جمهورية سورية اتحادية بنظام وطني ديمقراطي على مسافة واحدة من جميع مكونات الشعب السوري القومية والدينية والمذهبية . ولا بد من البحث والعمل من أجل امتلاك القرار الوطني المستقل . وبدون أدنى شك عملية صناعة هكذا قرار عملية صعبة ومكلفة وتحتاج إلى مقومات ومناخات لاتستطيع المعارضة أن توفرها بسهولة بشكل كامل دفعةً واحدة ، وهذه العملية تستوجب تضحيات كبيرة قد تكون قاسية جداً،لكنها مصيرية ولابد لمن تقبل طوعاً أن يتصدر المشهد المعارض أن يتحلى بقدرٍ كافٍ من الشجاعة لتحمل تلك المسؤولية، والاقتناع تماماً بأن استقلالية القرارهو مستقبله ومستقبل بلده وشعبه. والقضية هنا تحتاج إلى قيادة كفوءة تراهن وتعتمد على شعبها وتتحصن بحاضنتها الشعبية أولاً وأخيراً ،لأن الارتهان للخارج يجعل المرتهن عارياً وضعيفاً في أغلب الأحيان ، ومن المقومات الأساسية التي يجب أن تتوفر في أية قيادة تتصدى لهكذا ملف أن تتعامل مع القضية الوطنية من خلال رؤية واضحة ، ومشروع وطني سوري تغييري جامع يأخذ بعين الاعتبار وجود وحقوق كافة مكونات الشعب السوري، وخارج حقول التابعية والمقاولة السياسية. ومن الضرورة هنا توضيح الفرق بين العمل المعارض والعمل الثوري، وموقع الإنسان السوري في المشاريع المطروحة، ودرجة الاختلاف أو الخلاف بين الحاملين للمشروع المعارض وبين منظومة البعث لجهة شكل الدولة السورية وهويتها وطبيعة نظام الحكم فيها ووجود وحقوق مكونات الشعب السوري والعلاقة بين الدين والدولة …إلخ. وكذلك ضرورة تحديد هوية المعارضة ،وهوية الوطن لأن المشاريع يجب أن تنسجم مع الهوية ، وبالتالي عندما لاتستطيع أن تحدد وتعرف الهوية لن تتمكن من صياغة مشروع مناسب لهذه الهوية وللسوريين تجربة مريرة مع مشروع البعث ودولته. وبناءً على الهوية وإنطلاقاً منها يتم تحديد البوصلة الوطنية التي يجب أن تتحرك وفق متطلبات الوطن والشعب ومصالحه. لأن أية معارضة خارج هذه المساحة تتحول إلى مجرد أداة وظيفية مؤقتة يتم استخدامها في إطار مصالح الآخرين ولحسابهم وتبقى في حقول الرهان والارتهان ، ولايمكن أن تتحرك وفق بوصلتها الوطنية إلا إذا إمتلكت رؤية وطنية واضحة ومتكاملة لترسيخ مفهوم المواطنة الحقيقية والتأسيس لأرضية وطنية لإدارة التنوع القائم بحكمة وعقلانية ، واعتبار التنوع ثروة وطنية وركيزة إيجابية للتنمية ،والخروج من مساحات القلق التي زرعتها العقلية الشوفينية منذ انقلاب البعث قبل ستة عقود. ويبقى السؤال :
هل سيتوجه الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية نحو مناطق النفوذ الأمريكي حيث قسد ومسد وجبهة السلام والحرية فيما إذا تحققت المصالحة والتطبيع بين تركيا ونظام الأسد ؟.