الدكتور محمود عباس
كان من المفروض لإنقاذ دراستهم (نسميها دراسة تقديرا للموقع الذي أعطاها الصفة، رغم أنها تفتقر إلى أبسط مقوماتها) أن يقدموا إحصائية واحدة رسمية، عن ديمغرافية الجزيرة بشكل عام، والكوردية بشكل خاص، كالتي تمت من قبل المستعمر الفرنسي، أو ما قبلها والتي جرت في عهد العثمانيين، حتى ولو كانت دون المستويات الدراسات الديمغرافية العلمية، فهي رغم الثغرات العديدة تعكس حقيقة التنوع الإثني المذهبي لسوريا، ونسبة مكوناتها وما آلت إليه بعد هيمنة الأنظمة العروبية على سوريا، والتي أدت إلى تناقص المكون المسيحي من قرابة 50% في بداية القرن الماضي، إلى 40% عام 1932 حسب الإحصائيات القديمة، إلى أقل من 1% عام 2020م حسب إحصائيات منظمات حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم، وتراجع الكورد من نسبة 45% إلى أقل من 15% كما يتبجح بها الكتاب العروبيون ورأس النظام المجرم بشار الأسد.
فما يوردونه حاليا رغم أنها لا تخرج من كونها تخمينات مبنية على الرغبة الذاتية، ومسنودة على مصادر وإحصائيات عشوائية لكتاب من نفس منهجيتهم، افتقرت مثل دراستهم إلى المصداقية، كما وتناسوا فيها ليس فقط مسيرة التعتيم المخطط على الوجود القومي الكوردي وعمليات التهجير والتعريب والتوطين في الجزيرة، بل وفي سوريا عامة، وبالتالي حولوا سوريا من الوطن الافتراضي للجميع إلى دولة استبدادية عنصرية عروبية إسلامية بامتياز، وما يتم تقديمه حول الجزيرة تتمة لما تم طوال القرن الماضي للشعوب السورية.
وعلى الأرجح لا يعلمون أنه كان يفرض علينا، نحن الطلاب الكورد، في المدارس بالقول (عربي سوري) عند السؤال عن جنسيتنا، وكنت أنا شخصيا من بين الضحايا الذين تعرضوا إلى الطرد وإحضار ولي الأمر إلى المدرسة، لأننا ذكرنا بأننا كورد سوريون، وكنت حينها في الصف السابع. ومن الغرابة وبعد مرور نصف قرن وأكثر لا زالت المنهجية ذاتها مهيمنة على ذهنية العديد من الكتاب العرب، ولم تطالهم جزء من الحضارة الإنسانية.
كنا نأمل أن يكون المحاميين (موسى الهايس وعبدالله السلطان) متحررين من الذهنية الثقافية المترسخة من بشائع الأنظمة السابقة عند نشر كراسهم، وألا ينجرفوا في قادم كتاباتهم إلى إثارة نزعة التقسيم بين قرى الجزيرة، ويساهموا في الحد من المزاجية العنصرية التي يتسم بها أصحاب مصادرهم، وتصحيح منهجية المدعين بالوطنية، ولمعرفتنا بأبناء القبائل العربية نستطيع القول أن الشرفاء من أبناء تلك القبائل بريئة من النزعات الحقدية المثارة بين فينة وأخرى، فهم سكنة كوردستان ولا ينسون فضلها، وفي مقدمتهم أبناء قبيلة الشمر، الذين لا يزال طموحهم بحائل كطموح الكورد لكوردستانهم.
للأسف إلى جانب تناسي الكاتبين مخططات تهجير الكورد من مناطقهم، يتناسون الإحصائيات الرسمية عن النسب السكانية في المراحل التي سبقت هيمنة الأنظمة العروبية، ويمكن استشفافها من كتاب محمد جمال باروت ذاته، فيما لو تم التدقيق في الإحصائيات التي يوردها، دون أن ينتبه إلى أن الإحصائيات العثمانية والفرنسية التي قدمها؛ تبين على أن الكورد كانوا يشكلون قرابة 45% من سكان سوريا عامة حتى بداية القرن الماضي. ففي عام 1919 كان عدد سكان سوريا الكبرى مع لبنان والأردن قرابة مليونين ونصف فقط، بلغت قرابة 3 ونصف مليون عام 1932م، وكان عدد سكان الكورد يتجاوز ثلاثة أرباع المليون، بإمكانهم العودة إلى الدراسات والإحصائيات الديمغرافية لتلك المرحلة الزمنية عن سوريا الكبرى وهي عديدة، سيجدون ما ننوه إليه، وبحثنا فيها بشكل مفصل في دراستنا (مصداقية الباحث العربي).
وللعلم، ففي التقسيمات الإدارية حتى عام 1919 لم تكن الجزيرة تحسب ضمن الجغرافية السورية، وديمغرافيتها كانت خارج الإحصائية، وبالتالي ما تم ذكره حول نسبة الكورد إلى سكان سوريا الكبرى؛ كانت بدون الجزيرة، كانت تضم عفرين وحماة وجبل الأكراد وكورد دمشق وحلب ولبنان وغيرها من المناطق السورية، وحينها كان الحضور العربي شبه معدوم في الجزيرة، والقبائل العربية التي تم ذكرها في الدراسة لم تكن قد تجاوزت نهر الفرات نحو الشمال، باستثناء مجموعات كانت تبحث عن الكلأ لقطعانها من عشيرة الطي، الذين تمكنوا من اجتياز الفرات مع قطعانهم، ومجموعة من الشمر اتجهوا نحو ضفاف الخابور، يترأسهم أخ نايف رئيس القبيلة لخلاف بينهم، تذكرها (الليدي آن بلنت) في كتابها الصفحة (223) ” وأخيرا علمنا بأن فارسا المطلوب يقيم اليوم على ضفاف نهر الخابور، ولا يبعد كثيرا عن وهاد جبل سنجار” وتتبين من خلال رحلتها وتوجهها نحو خيامه أنها تقصد جنوب منطقة الشدادة، أي جنوب الجزيرة، ذكرت على أنهم كانوا أحيانا يشاهدون تلال سنجار وجبل عبد العزيز من بعيد، ففي الصفحة (251) تقول ” كانت الأرض تنحدر شمالا وجنوبا بنفس المقدار وعلى بعد عشرين ميلا امتدت جبل سنجار وجبل عبد العزيز الذي يعتبر استمرار لامتداده الجنوبي. ولم نجد أية خيام في المنطقة”. أتحدى أن يتمكن أصحاب الدراسات التاريخية-الديمغرافية من الإتيان بمصادر يثبتون فيها وجود قبائل عربية متحضرة في شمال الفرات قبل عام 1900م، وبالمناسبة في عام 1936 ولإدراج نائب عن القبائل العربية في الجزيرة تحت صفة الحضر، فرضت على البعض من قبيلة الجبور تقديم ذاتهم في السجلات المدنية كحضر، وبالتالي كان نائبهم هو الوحيد من بين نواب القبائل العربية في الجزيرة من الحضر-الرحل…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
18/8/2022م