الـشَّـمـسُ تـشـرُقُ من بـارزانَ

أمـل حـسـن .

الأمةُ الكرديَّةُ أمةٌ عظيمةٌ ، و شعبُها مكافحٌ ، اعتادَ على مُصاحبة الجبال و شموخها ، و قد استمدَّ شجاعته من صلابة صخورها ، فواجهَ الأعداءَ بكلّ شجاعة و عُنفوانٍ ، من خلال ثوراته المُتلاحقة التي برهنتْ على جبروت هذا الشعب المناضل ، و إصراره على نيل حقوقهِ المشروعة في الحياة الحُرَّةِ الكريمةِ ، و لا شكَّ أنَّ تلكَ الثورات التي أشعلَها الشعبُ الكردي في وجهِ الغاصبين لأرضه و المُعتدين على حقوقهِ ، قد أثمرتْ عن مئات الآلاف من الشهداء و الجرحى الذينَ باتوا منارةً يقتدي به الشعب الكردي عبرَ أجياله المتلاحقة في كفاحهِ ضدَّ الأعداء ، و لم تهدأ نيرانُ الثورات في عُموم كردستان بأجزائه الأربعة ، فمن ثورة إلى أخرى سارَ الشعب الكردي بمقاومته ضدَّ الغُزاة و المُحتلين لأرضه ، الأمرُ الذي جعلَ العدوَّ يزدادُ شراسةً و وحشيةً في مُحاربة الكرد و إنكار حقوقهم في الحياة .
ففي شمال كُردستان ارتكبتِ الفاشية التركية مئات المجازر بحق الكرد المدنيين العُزَّل ، كمجازر آمد عقبَ ثورة الشيخ سعيد بيران التي خلَّفتْ أكثرَ من خمسة عشرَ ألفَ شهيد ، و مجزرة ديرسم الكُبرى عقبَ ثورة السيد رضا التي راح ضحيتُها أكثر من خمسين ألف كردي غالبيتهم العُظمى نساء و أطفال ، إضافةً إلى الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان بحق الشعب الكردي .
و في جنوب كردستان لم تكنْ وحشية أعداء الكرد أقلَّ من شمالها ، فقد عمدَت الأنظمة العراقية المتعاقبة ، و على رأسها النظام البعثي الصدَّامي الشوفيني إلى ارتكاب العديد من الإبادات بحق الكرد ، منها : 
– مجزرة عشيرة البارزان (أكثر من اثني عشرَ ألف شهيد مدني) .
– مجزرة حلپچة (أكثر من خمسة آلاف شهيد مدني) .
– إبادات الأنفال (أكثر من مئة و ثلاثة و ثمانين ألف شهيد مدني) .
أضافة إلى العديد من المجازر المتفرقة .
كما لم تقلَّ وحشية العدو في شرق كردستان عن شماله و جنوبه ، ففي صبيحة كل يوم يوم يستفيق الشعب الكردي على إعدام العديد من الشبّان و الشابات الكرد المناضلين ، و في غرب كردستان عمدَ النظام البعثي الأسدي الشوفيني إلى إنكار هوية الكرد ، من خلال تعريب مناطقهم ، و محاربة اللغة الكردية ، و الزجِّ بالمُناضلين الكرد في غياهب السجون ، وتعذيبهم .
لقد عانى الشعب الكردي عبر العقود السابقة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بحقّه على أرض وطنه ، و لكنه رغمَ كلّ تلكَ الانتهاكات لم يقفْ مكتوفَ الأيدي ، فقد كافحَ و ناضلَ بكلِّ ما أوتيَ من شجاعة ، بُغيةَ نيل حقوقه المشروعة ، و هذا ما حدثَ في جنوب كردستان ، حينَ انتزعَ الكردُ حقوقهم من العدوّ إثرَ انتفاضة عام ١٩٩١م ، و التي تجسَّدتْ في تأسيس إقليم كردستان الفيدرالي ، و لا شكّ أن هذا الإنجاز العظيم لم يولد عن الصُّدفة ، إنما جاءَ حصيلةَ المقاومة المريرة التي قادَها الكرد ضدَّ أعدائهم ، بقيادة أبطالٍ شُعجان و قادة عِظام دخلوا التاريخ الكردي و العالمي من أوسع أبوابه ، و على رأسهم الأب الخالد المُلا مصطفى البارزاني .
وُلِدَ البارزاني الخالدُ عام ١٩٠٣م ، من عائلة مُناضلة في منطقة البارزان في جنوب كردستان ، قادَ في صِباهُ عام ١٩١٦م مجموعةً من الپشمرگة لإنقاذ عدد من الأرمن الهاربين من الإبادات الجماعية ، فأنقذَ الآلفَ منهم ، و شاركَ عام ١٩١٩م ، في ثورة الشيخ محمود الحفيد ، قادَ فيها قوةً من الپشمرگة قوامُها ثلاثمئة عُنصر ، و قد شكَّلَتْ هذهِ المشاركةُ بدايات البارزاني الخالد الأسطورية ، و في عام ١٩٣٥م ، قامت القوات البريطانية بنفي البارزاني مع أخيه الشيخ أحمد البارزاني إلى السليمانية ، و في عام ١٩٤٣م قادَ ثورة برزان الكُبرى ، ثمَّ توجَّه إلى مدينة مهاباد في شرق كردستان للمشاركة في تأسيس الجمهورية الكردية الوليدة فيها ، فتولَّى قيادةَ قوات الپشمرگة فيها برتبة الجنرال ، و في عام ١٩٤٦م أسَّسَ البارزاني الخالدُ الحزبَ الديمقراطي الكردستاني ، و بعدَ انهيار جمهورية مهاباد اتَّجهَ مع خمسمئة عنصر من قوات الپشمرگة إلى الاتحاد السوفيتي السابق سيراً على الأقدام ، ثمَّ عادَ إلى العراق عام ١٩٥٨م ، لقيادة النضال الكردي مجدَّداً من خلال ثورة أيلول ، إلى أن أجبرَ الحكومة العراقية آنذاك على التوقيع على اتفاقية الحكم الذاتي عام ١٩٧٠م التي استمرت إلى عام ١٩٧٥م ، و بقيَ نضالهُ مستمراً إلى آخر أيامه ، حيثَ ختمَ نضالهُ عام ١٩٧٩م بالرحيل عن الدنيا ، و قد تسلَّمَ قيادة الثورة الكردية من بعده الرئيس مسعود البارزاني الذي تربَّى في مدرسة أبيه الراحل على مبادئ الوطنية و الأصالة الكردية ، و قد تجلَّى نضاله على رأس قوات الپشمرگة بشكل جلي للعالم أجمع من خلال انتفاضة عام ١٩٩١م ، و التي أثمرتْ عنها ولادة إقليم كردستان الفيدرالي في جنوب كردستان ، و تلاهُ الإنجازُ الأبرزُ للكرد و هو شجاعةُ الشعب الكردي ، بقيادة الرئيس مسعود البارزاني على الإقدام على خطوة الاستفتاء لتقرير مصير الإقليم و الشعب الكردي في جنوب كردستان ، و قد شكَّلَ هذا الإنجازُ العظيمُ صدمةً صاعقةً لأعداء الكرد الذينَ سارعوا إلى إفشالهِ بشتَّى السُّبل و الوسائل ، و لكنَّ الشعبَ الكردي أتمَّ إنجاز الاستفتاء الذي نتجَ عنه تصويتَ الغالبية العُظمى من الشعب الكردي لصالح استقلال الإقليم عن العراق .
إنَّ إنجازَ تأسيس إقليم كردستان و الاستفتاء على الاستقلال إنجازانِ عظيمانِ يُضافانِ إلى سجلِّ الإنجازات الكردية في العصر الحديث ، لذا لا بدَّ من الحِفاظ عليهما ، و حشد الطاقات الكردية لتحقيق المزيد منها .
و قد اشتهرتْ غالبية المدن و المناطق الكردستانية بنضالها ضدَّ العدو ، و باتتْ بعضُها رمزاً للشهادة كمدينتي حلپچة و ديرسم ، و بعضُها رمزاً للشموخ كمهاباد و هولير ، و بعضُها رمزاً للمقاومة و البسالة كعفرينَ و بارزان .
إنَّ منطقة بارزان في جنوب كردستان منبعُ البطولة و الفداء ، و مصنعُ الرجولة و الأبطال ، فقد أنجبتِ الكثيرَ من الأبطال و القادة ، و على رأسهم القائدُ و البطلُ الراحلُ البارزاني الخالدُ ، و لا زالتْ منطقة بارزان في جنوب كُردستان تجودُ بأبطالها ، في سبيل حُرية كردستان و شعبها ، فقد أشرقتْ شمسُ الحُرية من بارزان ، بعد أن باتتْ موطنَ الشهداء ، و ستبقى الشمسُ تشرقُ من بارزان .
إذاً ، فالشعب الكردي لم يتوانَ عن النضال يوماً في سبيل الظفرِ بحقوقه المشروعة ، و قد تمسَّكَ بهويته الوطنية و القومية ، و تشبَّثَ بأرضه ، و حافظَ على لغته ، رغمَ كل محاولات الإمحاء و الإبادة التي استهدفته ، فبقيَ إلى اليوم شامخاً يقود نضاله ضدَّ الأعداء ، و يرى الإنسانُ الكردي أن الأرضَ و اللغةَ الكرديتين خطَّان أحمران ، لا يتمُّ المُساومة عليهما أبداً ، و في سبيلهما ساقَ آلافَ الأبطال إلى ميادين الشهادة و الفداء ، كما يعتبرُ لباسَهُ الكردي الجميل رمزاً من رموز هويته القومية ، لذا فهو يحافظ عليه بألوانه الزاهية الجميلة .
تحيَّةَ إكبارٍ للثوَّار الكرد المُناهضينَ للظلم في عموم كردستان ، و ألف تحيَّةٍ لأرواح شهداء كردستان ، وعلى رأسهم رمز الشعب الكردي القائدُ الفذُّ الأبُ الخالدُ مُصطفى البارزاني الذي خرجَ من رحم المعاناة ، وأشرقَ سراجُ بطولتهِ مثلَ بزوغ الشمس من ناحية بارزان على جميع أرجاء كردستان ، وعاشتْ مقاومة قمم جبال بلادنا الحبيبة وقواتها الراسخة ، و منطقة بارزان حاضنة الشمس ، و رجال العزّ الپيشمرگة فُرْسان الشَرَقَ  ، و هي عنوان  الوصال و البقاء و قُبْلة الكرد والسَلام .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين من المعلوم انتهى بي المطاف في العاصمة اللبنانية بيروت منذ عام ١٩٧١ ( وكنت قبل ذلك زرتها ( بطرق مختلفة قانونية وغير قانو نية ) لمرات عدة في مهام تنظيمية وسياسية ) وذلك كخيار اضطراري لسببين الأول ملاحقات وقمع نظام حافظ الأسد الدكتاتوري من جهة ، وإمكانية استمرار نضالنا في بلد مجاور لبلادنا وببيئة ديموقراطية مؤاتية ، واحتضان…

كفاح محمود مع اشتداد الاستقطاب في ملفات الأمن والهوية في الشرق الأوسط، بات إقليم كوردستان العراق لاعبًا محوريًا في تقريب وجهات النظر بين أطراف متخاصمة تاريخيًا، وعلى رأسهم تركيا وحزب العمال الكوردستاني، وسوريا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في هذا السياق، يتصدر الزعيم مسعود بارزاني المشهد كوسيط محنّك، مستفيدًا من شرعيته التاريخية وصلاته المعقدة بجميع الأطراف. ونتذكر جميعا منذ أن فشلت…

خوشناف سليمان في قراءتي لمقال الأستاذ ميخائيل عوض الموسوم بـ ( صاروخ يمني يكشف الأوهام الأكاذيب ) لا يمكنني تجاهل النبرة التي لا تزال مشبعة بثقافة المعسكر الاشتراكي القديم و تحديدًا تلك المدرسة التي خلطت الشعارات الحماسية بإهمال الواقع الموضوعي وتحوّلات العالم البنيوية. المقال رغم ما فيه من تعبير عن الغضب النبيل يُعيد إنتاج مفردات تجاوزها الزمن بل و يستحضر…

فرحان مرعي هل القضية الكردية قضية إنسانية عاطفية أم قضية سياسية؟ بعد أن (تنورز) العالم في نوروز هذا َالعام ٢٠٢٥م والذي كان بحقّ عاماً كردياً بامتياز. جميل أن نورد هنا أن نوروز قد أضيف إلى قائمة التراث الإنساني من قبل منظمة اليونسكو عام ٢٠١٠- مما يوحي تسويقه سياحياً – عالمياً فأصبح العالم يتكلم كوردي، كما أصبح الكرد ظاهرة عالمية وموضوع…