شاهين أحمد
عبر التاريخ هناك الكثير من المحطات، منها أزمات وانتكاسات، ومنها انتصارات وانفراجات، وهذا شيء طبيعي خلال مسيرة حياة الأشخاص والأحزاب والشعوب والدول.هناك حقيقة ثابتة يجب الانتباه لها وهي المتعلقة بالشعوب وقضاياها، إذ لا يجوز أبداً أن يتم المتاجرة بها وإخضاعها للنزوات الشخصية، أو وضعها على طاولة البازارات. مثلاً أن نطالب بالفيدرالية في زمن الانفراجات، وننسحب، وننكر وجود الشعب، ونعدّه أقلية قومية في الأزمات أمر مؤسف ومرفوض. هذا ما نلاحظه اليوم بعد أن دخلت الأزمة السورية مرحلة صعبة نتيجة جملة من العوامل منها ذاتية ومنها موضوعية، كـ تخاذل المجتمع الدولي، وغدر غالبية ماكانت تسمى بمجموعة « أصدقاء الشعب السوري» وحرف الثورة وسرقتها من قبل تحالف الوافدين من استخبارات البعث وراديكاليي الأسلمة السياسية.
وبما أن الشعب الكوردي في سوريا هو أحد مكوّنات الشعب السوري، والحركة التحررية الكوردية هي جزء من المعارضة الوطنية السورية، وبما أن المعارضة فشلت في التعبير عن طموحات الحراك الشعبي الثوري، وفشلت كذلك في صياغة مشروع وطني سوري تغييري جامع ومعبر عن وجود وحقوق جميع مكونات الشعب السوري، وخسرت قوتها الجماهيرية، واهتمام المجتمع الدولي بها، وتراجع أداؤها، وحشرت نفسها في صراعات لا ناقة لها ولا جمل. لذلك نلاحظ أن كل تلك السلبيات انعكست بشكل مباشر على الحركة التحررية الكوردية بشكل عام والمجلس الوطني الكوردي بصورة خاصة، وبالتالي ملاحظة ذلك في دور المجلس ومنتسبي أحزابه. لكن المؤسف أن هذا الوضع بدأت نتائجه السلبية بالظهور على نشطاء شعبنا الذين كانوا يطمحون للتخلص من الاستبداد وإقامة البديل الوطني الديمقراطي وسوريا اتحادية.
اليوم نلاحظ أن هؤلاء بدا عليهم التشاؤم، وبدأوا يفكّرون بالتراجُع حتى عن أدنى المطالب كنوع من الاستسلام أو “الردة” التي تظهر في أوقات الأزمات والانعطافات الحادة. مناسبة الخوض في هذا الموضوع هو التّراجُع الحاصل في خطابات وكتابات شريحة لابأس بها من شركائنا السوريين بشكل عام، ونشطاء شعبنا الكوردي بصورة خاصة فيما يتعلق بالموقف من شكل الدولة السورية المستقبلي، وطبيعة نظام الحكم فيها، والعلاقة بين الدين والدولة، ووجود وحقوق مكونات الشعب السوري المختلفة (القومية والدينية والمذهبية)، وفي المقدمة منها حقوق شعبنا الكوردي. وبدون أدنى شك أن اليأس الذي بدأ يتسرّب إلى النفوس هو نتاج غياب مؤسسة وطنية معارضة تتوفر فيها مقومات البديل الوطني المطلوب، وتراجُع الاهتمام الدولي بالأزمة السورية وإطالة أمدها، وزيادة معاناة شعبنا في مختلف المجالات، وتقدُّم خيار المقايضات والتسوية المتمثل في مسار أستانا – سوتشي على المسار الشرعي للعملية السياسية في جنيف بإشراف ورعاية أممية للقضية السورية…ألخ . لا يختلف عاقلان أن سوريا تعاني من أزمات مركبة، وتتحول السحب في فضائها إلى غيوم داكنة يوماً بعد آخر نظراً لإطالة أمد أزمتها، وانسداد الآفاق أمام أية حلول سياسية حقيقية جدية لقضية شعبها، وتحولت ساحاتها إلى مناطق نفوذ اقليمية ودولية، وميداناً لتصفية حسابات الدول على حساب شعبها ودماء أبنائها. وما أودُّ أن أذكره هنا هو التشاؤم الذي يخيم اليوم على أبناء شعبنا الكوردي في سوريا كـأحد أهم مكونات الشعب السوري، ويقيننا بأن معاناته هو معاناة السوريين عموماً. لكن الملاحظ أن الذين انضموا إلى صفوف الحراك الكوردي بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية الثورية في آذار 2011 هم أكثر المرتدين والمتشائمين من بين مختلف الشرائح الشعبية التي تعاني الإحباط. وهنا من الأهمية التذكير أن الأزمة السورية اليوم أدت إلى فرز المنخرطين في صفوف الحراك السياسي إلى طبقتين. الأولى والتي عاصرت مضايقات الأجهزة الأمنية، وصمدت رغم تلك الظروف المعيشية الصعبة، وكذلك الملاحقات والسجن والمطاردات من جانب أجهزة الاستخبارات، بقيت شامخة ومتسلحة بالصبر وإرادة الاستمرارية ، ولم تنجرف مع السوداويين، وستبقى مؤمنة بعدالة قضية شعبها، وحقيقة وجود ذاك الشعب على أرضه وضرورة تحقيق طموحاته وفق العهود والمواثيق الدولية، ولا ترى في تغيير الظروف مبرراً للتراجع والمساومة. والثانية والتي تذكرنا بما حصل في نهاية خمسينيات وبداية ستينيات القرن العشرين، عندما تعرضت قيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني – سوريا آنذاك لموجة اعتقالات ظالمة، وتعرضت للتعذيب والمحاكمة من قبل المكتب الثاني إبان الوحدة بين سوريا ومصر، وبرز تيار داخل صفوف الحزب آنذاك تخلى عن شعارات الحزب، وتراجع عن برنامجه السياسي دون الاحتكام لمحطات تنظيمية شرعية، مما خلق نوعاً من الفوضى واليأس والتراجع في الشارع الموالي للحزب وحاضنته الشعبية، وأدخل قواعد الحزب في حالة من الصراع والاستنزاف الداخلي امتدت لعقود ،حيث نتذكر جيداً كيف أن ذاك التيار كان يعتبر الوجود الكوردي في سوريا “أقلية قومية” وليس شعباً. وهنا وللتوضيح وباختصار شديد نورد الفرق بين الأقلية العددية والأقلية القومية . إن وصف التواجد الكوردي ضمن هذا الحقل يحمل وجهين، فمن جهة، نعم، الكورد هم أقل عدداً من المتحدثين بالعربية أو الذين يعتبرون أنفسهم عرباً في سوريا حالياً (ولن ندخل في الأسباب أو حقيقة هل هذه الأغلبية حقيقية أم أنها نتيجة عوامل وظروف أدت ببقية الأقوام إلى الانسلاخ عن قومياتهم والتظاهر بأنهم عرب مع كل الاحترام لشركائنا من المكون العربي الأصيل؟؟). لكن من جهة أخرى فإن هذا الموضوع مختلف عندما يتم وصف تواجد الشعب الكوردي في سوريا بـ الأقلية القومية.لأن الأقلية القومية تختلف عن الأقلية العددية لجهة الوجود وأركانه وبالتالي الاستحقاقات، ولأن الأقلية القومية يُقصَد بها تلك المجموعة التي تركت وطنها، وهاجرت واستقرت على أرض قومية أخرى نتيجة ظروف معينة (كوارث طبيعية، حروب، ظروف مناخية ومعيشية، مظلوميات دينية أو مذهبية …إلخ) مثل التواجد الأرمني في سوريا، والتواجد العربي في أمريكا. لكن الوجود الكوردي في سوريا مختلف كلياً لأن هذا الوجود هو نتيجة التقسيم الاستعماري الذي تعرضت له المنطقة بشكل عام من جانب المنتصرين في الحرب العالمية الأولى وبموجب اتفاقيات دولية معروفة وخاصة سايكس – بيكو لعام 1916 ولوزان لعام 1923 ورغماً عن إرادة شعوب المنطقة. وبالتالي قضية الشعب الكوردي في سوريا تختلف قانونياً واستحقاقاً اختلافاً كلياً عن قضية المكون الأرمني الكريم، لأن القضية الكوردية في سوريا هي قضية شعب يعيش على أرضه التاريخية .
أسباب هذه الظاهرة (الردة) والعوامل المساعدة لحدوثها وانتشارها
قبل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها قسّم الفرنسيون والانكليز والروس منطقتنا وفق رسومات وأشكال هندسية غير منتظمة تحوّلت لاحقاً إلى خرائط وحدود سياسية وإدارية مقدسة لدول مصطنعة، ومذ ذاك غاب شمس الكورد، وحرموا من كيانهم المستقل إسوةً بشعوب المنطقة. وتعرَّض تاريخُهم للتزوير، وطويت صفحاتهم المشرقة وحضاراتهم التي بنتها الامبراطوريات التي أقامها أسلاف الكورد مثل السومرية والساسانية والميتانية والميدية والأيوبية …إلخ. وتعرضت الشخصية الكوردية طوال الفترة التي تلت التقسيم الاستعماري المذكور لشتى صنوف الظلم والاضطهاد والاقصاء والتهميش، وكذلك الفقر والتهجير، ومورس بحق شعبنا مختلف الممارسات التي هدفت لمحو هويته القومية، مما جعلت الشخصية الكوردية مكسورة الخاطر تخيم عليها المظلومية، رهينة الخرافات، أسيرة السحرة والمشعوذين، وعرضة للسلب والنهب والإلحاق. لكن المفارقة أنه من المعروف أن الأزمات تعد حافزاً ودافعاً لشحن النفوس وإيقاظ الهمم، وفرز شريحة من القادة والكوادر لا تعرف معنى الترهل والضعف والاستسلام. لكن في حالتنا الكوردية السورية نلاحظ – نسبياً – الأمر عكسياً! . بدون أدنى شك أن هناك جملة من العوامل ساعدت في وهن نفسية الشعب وفقدان الأمل، منها كثرة الإشاعات وخاصة تلك الموجهة والحاملة للسموم والتي تأتي ضمن الحروب الإعلامية والنفسية التي تؤدي إلى ترويع الشارع وترهيبه. وخاصة أن بيئاتنا مناسبة لتقبل الإشاعات، والترويج لها وسرعة نقلها وتوسيع دائرة انتشارها وتأثيرها . ومن الأهمية هنا الإشارة إلى نقطة هامة وهي أن هناك عدة أطراف “تتكامل وظيفياً” في خلق حالة اليأس منها المعادية ومنها المأجورة ومنها الفاقدة لدورها. وهناك عامل مساعد لانتشار الإشاعات في مجتمعاتنا يتعلق بالموروث الديني المتخلف، والحكايات الخرافية التي نشرها الأعداء من خلال رجال الاستخبارات المتخفين بلباس رجال الدين. واليوم يعاني مجتمعنا من موجات خطيرة من الإشاعات التي تجري تداولها وتصديقها دون التثبت من صحتها أوصدقيتها. ومن العوامل التي تساعد انتشارها الهدام وجود وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة والمتاحة لدى عامة الناس، حيث يتم العمل من خلالها وبصورة شبكات منظمة وموجهة ومقادة من غرف عمليات استخباراتية وخبراء نفسيين. ومن العوامل الأخرى المساعدة والمكملة ،الدعاية، وافتعال الأزمات، وغياب الأمن، ونشر الفوضى …إلخ . وهذا مانلاحظه بالضبط في مختلف مناطق سوريا وخاصة في ماتبقّى من مناطق كوردستان سوريا حيث خطف القصر، وأزمة المحروقات والخبز، وفقدان المواد الغذائية المختلفة بالرغم من وجود معظم حقول النفط والغاز في تلك المناطق وكذلك المساحات المنتجة للقمح . ووجود التهديدات التركية المستمرة، والمسرحيات الهزلية اليومية التي تقوم بها مسميات pkk المختلفة والمتعددة في سوريا من خلال المظاهرات الاستفزازية، وتبليغ الشعب بضرورة الاستعداد للحرب، لإبقاء مختلف تلك المناطق في حالة دائمة من عدم الاستقرار والخوف، وتحويل كامل تلك المساحات إلى بيئات طاردة لسكانها المدنيين. وبما أن نوعية الإشاعات التي يتم بثها وسط جماهير شعبنا هي من النوع الحامل لشحنات التخويف والترهيب، كي يكون الكوردي المصاب بالرعب جاهزاً لاستقبال الأوهام، وفي حالة دائمة من الاضطراب، ويفقد الثقة بنفسه، ويسيطر عليه روح الانهزام، ويصبح جاهزاً لترك وطنه وكل مايملكه والتوجه نحو المجهول، وهذا مانلاحظه تماماً حيث يتم تفريغ مناطقنا بشكل ممنهج من خلال pkk ومسمياته المختلفة .
خلاصة الحديث
ما يجري في سوريا عامةً وكوردستان سوريا بشكل خاص هو عمل مدروس ومخطط وممنهج، وليس عملاً فوضوياً كما يعتبره البعض. الغرض منه دفع من تبقّى من الشعب إلى ترك ممتلكاته ومناطق سكنه والتوجه نحو المجهول، وعبر مهربين ومافيات تنتمي لنفس تلك الجهات التي توفر مقومات التهجير. وبالنسبة لشعبنا الكوردي في سوريا الموضوع عبارة عن حلقة مكملة لمشروع محمد طلب هلال وحكومات البعث المتعاقبة ومشاريع الإحصاء والحزام لتهجير من تبقى من الكورد، وتفريغ تلك المناطق . وللتقليل من تأثير هذه الآفة ، يجب العمل على تأسيس جهاز إعلامي قوي ومنظّم من ذوي الخبرة والكفاءات، لتوعية الحاضنة الشعبية وتوجيهها للتأكد من مصداقية الأخبار والمعلومات المعروضة في مختلف الحسابات على مواقع التواصل، وكذلك تلك التي تنشرها الجهات الأخرى عبر مختلف المنابر. وضرورة الخروج بشكل يومي إلى الجماهير من خلال منبر إعلامي معروف ومخصص لبيان وشرح الحقائق للشعب، وتصحيح المغالطات، ودحض الأكاذيب والافتراءات، وشرح الغرض من كل مايجري من افتعال الأزمات المعيشية، وغياب الخدمات الاساسية، والهدف من خطف الأطفال القصر، وترهيب المدنيين، ومنع الإعلام الحر. وكذلك متابعة المواقع التي يتم منها بث تلك السموم وتعريتها وتكذيبها عبر توعية الشارع الشعبي بشكل مستمر، واقتفاء آثار تلك السموم لاجتثاث جذورها، وبناء موانع لتجنيب الشارع من تكرار الوقوع في شباكها مرة أخرى، ووضع الحاضنة الشعبية في صورة تلك الإشاعات وشرح دوافعها وأهدافها والجهات التي تقف خلفها والأدوات التي من خلالها يتم بث تلك السموم، وذلك بشكل علمي وبلغة مفهومة. وكذلك ضرورة التحلي بالصبر والصمود ودوام الاستمرارية وعدم الاستسلام لليأس، والتأكيد على هذه المفردات المتلازمة والضرورية كقيم نضالية وخاصة في الأزمات والمنعطفات الصعبة.