قدري جان من «كعبة موسكو» الى «كعبة بارزان» .. قضية للنقاش (239)

صلاح بدرالدين

  في اول زيارة وفد حزبي رسمي من الحركة الكردية السورية الى المناطق المحررة بكردستان العراق بعد اندلاع ثورة أيلول عام ١٩٦١، استقبلنا الزعيم الراحل مصطفى بارزاني ( الشهيد محمد حسن وانا ) في مقره الشتوي – قصري – بمنطقة بالك، والى جانبه الراحل ادريس بارزاني، في بداية حزيران ١٩٦٧، ومكثنا بضيافته بحسب البرنامج المقرر يومان، وكانت لدينا ليلتان للمحادثات، نستكملها بعد ذلك بالمكتب السياسي للحزب الشقيق، وفي الليلة الأولى ومابعد طعام العشاء، افتتح بارزاني اللقاء  حول اربعة شخصيات كردية سورية وهم ( اوصمان صبري، و د عصمت شريف وانلي، وخالد بكداش، وقدري جان )، وانطباعاته حول كل واحد منها بكل صراحة ووضوح والتي غلب عليها النقد والعتاب مع شيئ من الاستحسان، 
ويجب الاعتراف اننا وفي تلك اللحظات النابضة بالمشاعر الجياشة من تاثيرات اول لقاء مع شخصية عظيمة مهيبة، لم يكن هناك متسع حتى للتفكير بمغزى افتتاح بارزاني اللقاء حول تلك الشخصيات، ولكننا فهمنا فيما بعد ان ماقاله كان بمثابة رسائل، وتوضيحات، لها مغزاها العميق حول القضية الكردية، وتطور الفكر القومي، ومضار الكوسموبوليتية، واخلاقية العلاقات القومية واصولها، وشروطها .  
  في  تلك الجزئية من المحادثات فقط كان لدي تعقيب على التساؤلات الغاضبة المتعلقة بالمرحوم اوصمان صبري ، واعتقدت حينها انني قدمت الصورة الإيجابية الملطفة عنه، وصححت  جوانب من النظرة السلبية تجاهه، فقد كان سكرتير حزبنا آنذاك، ولم يكن من وظيفتنا التطرق الى مسائل الاخرين الذين لم نكن على بينة من امرهم اكثر من بارزاني، وفي هذه العجالة، وبمناسبة حلول الفعاليات السنوية  الثقافية لذكرى الشاعر والاديب قدري جان، اكتفي بتناول بعض جوانب سيرته استنادا الى ماآخبرنا عنه بارزاني في الجزء الافتتاحي من تلك الجلسة، وقد اعود مستقبلا الى الاخرين بظروف مناسبة  .
  حدثنا الزعيم الراحل ان الشخصية الثقافية الكردية السوفيتية – قناتي كوردو – الذي كان على علاقة وثيقة به،  اقترح عليه الاستجابة لرغبة شاعر كردي سوري باللقاء به، يزور موسكو ضمن وفد الى مؤتمر الشباب العالمي السادس في تموزعام ١٩٥٧وهو الشاعر قدري جان ( ١٩١١ – ١٩٧٢ )، فاستقبلته ( والكلام لبارزاني ) في منزلي بحضور  كوردو، وطلبت منه القاء قصائد من شعره، فاسمعنا ابياتا كلها تمجيد بالاتحاد السوفييتي، والمبادئ الأممية، ومن دون اية إشارة للكرد، وحقهم بتقرير المصير، وبعد كل عدة ابيات تتكرر اللازمة ( كعبا مة موسكفايا ) أي كعبتنا موسكو، فخاطبته قد تكون شاعرا جيدا ولكن المضمون لايعجبني فلماذا لاتكون ( كعبتنا ) مهاباد، او السليمانية، او دياربكر، او قامشلو ؟، وبعد نحو عامين زارني في بغداد حاملا معه رسالة تهنئة بعودتي، وقصيدة جميلة عصماء، بمثابة نوع من الاعتذار، وتاكيد على صحة ملاحظاتي له بموسكو، ولاشك انني قدرت له ذلك .
القصيدة المشار اليها ( بارزاني هات أو عاد بارزاني عاد الأسد الى الوطن – أشرقت شمس كوردستان – ابشركم عاد البارزاني – لقد عاد الأسد الى عرينه …) من اهم وأغنى ما صدر عن قدري جان، تعبر عن تحول فكري وانحياز لافت الى النضال القومي والوطني الكردستاني لدى الشاعر، فهو كان متعاطفا مع قضية شعبه قبل ذلك بلاشك، كيف لا وقد ذاق الام ومعاناة التهجير القسري من نظام اتاتورك الشوفيني،ولكن من منطلق مفهوم الحزب الشيوعي السوري الذي كان عضوا فيه واعتقل في سجن المزة ١٩٥٩ – ١٩٦١ بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي،، وبمعنى أوضح مدى خدمة القضية القومية الكردية للقضية الأممية كما يراه ذلك الحزب، ومصالح الكفاح ضد الامبريالية، وصيانة ( أنظمة التطور الوطني !!) ومن بينها نظاما البعث في سوريا والعراق .
  عاصر قدري جان شعراء كرد سوريين من جيله مثل جكر خوين، واوصمان صبري، واللغوي رشيد كورد وغيرهم، وهم جميعا كانوا يعتنقون الفكر القومي بشدة وبتوجه يساري ديموقراطي، وكان الاختلاف ظاهرا، حيث التزام قدري جان الحزبي قد أخره قليلا للتعبير عن قناعاته الحقيقية التي فجرها في قصيدته ( بارزاني هات )، واصطدامه أحيانا وقبل ذلك مع اقرانه من الشعراء القوميين اليساريين، فهناك قصيدة للشاعر الكبير – جكرخوين – يرد فيها على قدري جان بالتالي :  
  
Hey qedrîcan efendî xortê delal u cindî 
  Reşbeleka te şandî minê xwendî birindî
  Hersê pirsê tegotin weku tîra limindî
  Ewjî fida çavête tu xortekî lewendî   …..
  كما يظهر من مضمون الابيات ( أيها الشاب الرائع قدري جان افندي، قرأت رسالتك باهتمام، بعض كلماتها كانت كالسهام، ولكنني اعذرك لانك شاب وسيم … ) وكما اعتقد فان الرسالة كانت تحتوي على نقد جارح لنهج جكرخوين المغالي بالمشاعر القومية حسب نظرة قدري جان في ذلك الوقت، والتي كما ذكرنا نابعة من التزامه بموقف الحزب الشيوعي السوري، ولكنه لم يظل كذلك بسبب تاثير أصدقائه البدرخانيين، وكذلك المرحوم قدري جميل باشا، كما كان لقاؤه بالبارزاني بموسكو لحظة فاصلة في مساره الفكري كما أتصور .
  من جهة أخرى لا اتفق تماما مع الذين يعتبرون الشاعر قدري جان من الشعراء الحداثويين الكرد، أولا بسبب العدد المحدود من قصائده المنشورة وابرزها القصيدتان المعروفتان حول جمهورية مهاباد، وعودة البارزاني، وحتى الأولى كانت سياسية ففيها تهجم وإدانة لنظام ايران، والسياستان الامريكية والإنكليزية وهذا جائز، ولكن من دون ابداء اية ملاحظة نقدية على الموقف السوفييتي الصامت، والشاهد على الجريمة .
  هناك نوع من التقليد من طرف بعض كتابنا بشأن ( الحداثة والحداثوية ) فهي بلاشك ظاهرة كونية، ولكنها تحدث عادة  في مجتمعات  شعوب أنجزت مرحلة التحرر الوطني، ونالت الاستقلال، ولامست عجلة التطور الاقتصادي، والعلمي، والتكنولوجي، وانخرطت في العولمة، وكما أرى فان مقياس الحداثوية بالخصوصية الكردية هو مدى الالتزام بقضية الشعب الكردي، وحقه بتقرير المصير، وهنا لااشير الى تحديث اللغة، والقافية، والاوزان بل اقصد المضمون والجوهر، ومدى الترابط مع التاريخ، والظروف السياسية الموضوعية السائدة، فالشاعر جكرخوين مثلا هو الاب الروحي للمضمون الحداثوي بالشعر الكردي المتناغم واقعيا مع تطور الحركة الكردية، والصراعات الاجتماعية  الى جانب  اعتباره من الشعراء الكلاسيكيين في القوافي والاوزان، فهل علينا حجب الحداثة عن اعمال الشاعر الأهم في العصر الكردي الحديث ؟ . 
 التقيت بالراحل مرة واحدة بدمشق صيف عام ١٩٦٦ في احد المقاهي ( اعتقد مقهى الفردوس ) خلال شرحي لماحصل للوفد الوطني الكردي من الجزيرة للراحل قدري جميل باشا وشخصيات أخرى من حوله، ذلك الوفد الذي تشكل بناء على مبادرة – حزبنا  سابقا – للقاء مع رئيس الحكومة يوسف زعين وتقديم مطالب كرد الجزيرة تتعلق باالاراضي، والمحرومين من حق المواطنة، والذي لم يتمكن من لقائه .
  وهنا أؤكد انه من حق رواد الفكر القومي، والثقافة الكردية، ومن بينهم قدري جان علينا جميعا، العودة الى تاريخهم النضالي، ونشر نتاجاتهم، وابداعاتهم، والاستفادة منها، والاحتفاء بهم بشكل لائق، ومعرفة ظروفهم الحياتية، وماعانوه من مصاعب، وماواجهوا من تحديات، وكذلك الإشارة بامانة الى تحولاتهم الفكرية، والثقافية التي ستشكل دروسا مفيدة  لجيلنا الراهن .
  وقد تحتاج القضية الى نقاش

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…