ريزان شيخموس
تساؤلات كبرى يطرحها نشاط سياسي ودبلوماسي غير مسبوق في قلب مناطق الشرق الأوسط ، تقوده القوتين العالميتين الأعظم ، الولايات المتّحدة وروسيا ، يتجسّد في تزامن انعقاد ثلاث لقاءات قمّة موسّعة .
كيف نقرأ أسباب ودوافع هذا النشاط السياسي، ونفهم طبيعة المصالح التي سعت أطرافه لتحقيقها ، وما هي نتائجه المتوقّعة على صعيد الصراع على سوريا ، والحرب الروسية على أوكرانيا؟
أعتقد أنّ القراءة الموضوعية الشاملة والدقيقة للنتائج المحتملة لقمم القدس وجدّة وطهران ، وما تخلّلهم من لقاءات جانبيّة ، تتطلّب وضع النشاط الكلّي في سياقين مترابطين جدليّا ، السياق الإقليمي العام- وفي قلبه سياق الصراع على سوريا- إضافة إلى سياق الصراع “الروسي الأمريكي” على أوكرانيا ،
في غمرة السباق التنافسي الروسي الأمريكي على الهيمنة الإقليمية بشكل عام ، ومصادر الطاقة ، بشكل خاص ، والتركيز على الأهميّة الإستثنائية للمنطقة، قلب منطقة الشرق الأوسط حيث مثلث النفط والغاز الإستراتيجي العالمي، في تحديد مستقبل مشاريع التحالفات الجديدة في العالم، خاصّة في سياسات الولايات المتّحدة وروسيا، وإن السيطرة على ثروات المنطقة ،و أوراق القوّة الهائلة التي تملكها في موازين قوى الصراع العالمي ، هي حجر الزاوية في نجاح خطط وسياسات السيطرة الأمريكية على أوروبا والعالم.
أوّلا ،
في قمّة طهران.
١- في سياق الصراع على أوكرانيا، يأتي هاجس الطاقة في رأس اولويات الرئيس الروسي؛ الذي تخوض حكومته معركة ضروس في كلّ من طهران والرياض ، بشكل خاص، في محاولة لتفشيل مساعي واشنطن لتخفيض أسعار النفط والغاز ، عبر زيادة نسب صادرات دول المنطقة من النفط والغاز إلى أوروبا ، وبما يحول دون نجاح سياسات روسيا لإستخدام هيمنتها على مصادر الطاقة الأوربية ، بما يُزيد من مواردها المالية ، ويعزّز وسائل “انتصاراتها ” في الحرب على أوكرانيا.
في نفس الإطار ، من جهة ثانية ، من الطبيعي أن تشغل حيّزا مهمّا من المباحثات بين الرئيسين الروسي والتركي قضيّة “الوساطة ” التركية لإنجاح جهود صفقة روسية / أوكرانية، تسمح بالتصدير الآمن للقمح الأوكراني عبر البحر الاسود.
٢- في سياق الصراع على سوريا.
إن الهدف الرئيسي “لقمّة طهران” بين القوى الرئيسة المتورّط في حروب تقاسم الحصص ومناطق النفوذ في سوريا ، المستمرّة منذ ٢٠١٥ ، هو الوصول إلى “صفقة سياسية” ، تلبّي ما يضعه النظامين الايراني والروسي من شروط ، مقابل إعطاء النظام التركي الضوء الأخضر لتنفيذ حملته العسكرية الخامسة ،والتي تستهدف ، كما هو مُعلن إلحاق ” منبج وتل رفعت “و ” عين عيسى ” بجغرافية ” المنطقة الآمنة ” التي تعزم تركيا إقامتها على امتداد ما يقارب ٤٥٠ كم ، بعرض يصل إلى ٣٢ كم ، على امتداد تخومها الجنوبية مع سوريا ؛ رغم اننا لا نعرف بالضبط حقيقة ما اتفق عليه العاملون على “مسار آستنة ” في نسختها الأخيرة ، لكن يمكننا أن نتوقّع أهمّها من خلال رصد نتائجها الملموسة !
ضمن هذا السياق، ومع ملاحظة أنّ أبرز أحداث اليوم التالي لنهاية القمّة أتت على شكل “رسائل دموية “- في موقع سياحي ، في منطقة زاخو ، محافظة دهوك ، التابعة لإقليم كردستان العراقي ، حيث استهدفت تركيا بهجمات صاروخية منتجعا سياحيّا، والهجوم الروسي على موقع ” الجسر ” من منطقة ” خفض التصعيد ” الإدلبية ، وراح ضحيتها عشرات المدنيين ، نساء و أطفالا، وما واكبهما من تصريحات غير مطمئنة – يمكن الإعتقاد بفشل المتصارعين على اقتسام الجسد السوري في الوصول إلى “صفقة سياسيّة” ، تلبّي شروط الجميع !!
ان امتلاك تركيا ورقة حزب العمال الكردستاني كأهم ورقة تستخدمها في كافة مشاريعها العصرية على المستويين الاقليمي والدولي ، ربما يكون الاخطر على سوريا والعراق واقتطاع أجزاء منها وضمها إلى الخريطة التركية ، والتهديد الجدي على مستقبل كردستان سوريا والعراق وخاصة ما لها من انعكاسات على قضية الشعب الكردي في كردستان تركيا والتي تملك اكبر أجزاء كردستان مساحة وسكاناً.
ما هي الآفاق ؟
يمكن الاعتقاد أنّ الصراع الروسي/ الأمريكي في أوكرانيا ،و حول قضايا الطاقة والسيطرة الإستراتيجية على أوروبا، لن ينعكس مباشرة على علاقات البلدين حول الصراع السوري ، التي تميّزت طيلة سنوات الصراع بعمق الشراكة في الاهداف، والتنسيق في الوسائل ، وليس من المتوقّع أن يتجاوز السجال السياسي الذي أطلقه الروس بضرورة انسحاب الولايات المتّحدة ، وإعادة بسط سلطة النظام على كامل الجغرافيا السوريّة، مستويات الدعاية السياسية.
على أيّة حال ، ربّما يكون” نجاح ” قمّة طهران في عدم الوصول إلى تفاهمات صفقة، تُعطي الضوء الأخضر لتركيا بإطلاق عملية عسكرية جديدة ، حافزا لإنجاح جهود موسكو وطهران في التقريب بين أنقرة والنظام من جهة ، وبين النظام وقسد ، من جهة ثانية ، بما يُعيد رسم المشهد السياسي السوري على صعيد الشمال السوري، وعلى المستوى السياسي العام ، على حساب مصالح واشنطن واوراق هيمنتها ، وقد يكون وصول وزير خارجية النظام إلى العاصمة الإيرانية، حتّى قبل مغادرة الوفود، مؤشّرا كبيرا على ما قد تحمله الايام والأسابيع القليلة القادمة من تغيّرات في قواعد اللعبة الأمريكية؛دون أن ننسى للحظة واحدة قدرة واشنطن على خلط الأوراق ، وقلب الطاولة على رؤوس الجميع !!
إنّ تأجيل تنفيذ خطط الحرب، كما هو مرجّح ، انتظارا لفرصة أخرى – وما قد يؤدّي إليه من رفع وتيرة التهديدات التركية ، وما يقابلها من تصعيد إعلامي ” قسدي ، و تبادل المزيد من رسائل الموت والدمار، سواء على صعيد المواجهة المباشرة بين ” قسد ” وتركيا ، او الغير مباشرة مع ايران وروسيا ؛ في محاولة كلّ طرف لتحسين شروطه في صفقة سياسية قادمة – قد يُعطي الولايات المتّحدة فرصة لتقويض فرص إرتقاء التنسيق بين أطراف قمّة طهران إلى مستويات تتجاوز خطط وسياسات السيطرة الأمريكية.
ثانيا ،
في قمّتي القدس وجدّة !
يتفق معظم المتابعين لمجريات قمّتي القدس وجدّة تركيز الرئيس الامريكي على عدّة قضايا ، غير مرتبطة مباشرة بأحداث الصراع الراهن بين تركيا من جهة ، والولايات المتّحدة وروسيا وايران ، من جهة ثانية ، حول مناطق جغرافية محددة ؛ دون أن يخرجها هذا عن نتائج الصراع ، وعوامل سياقه التاريخي ، الممّتد منذ ٢٠١١.
مع انتهاء المعارك الكبرى في الصراع على سوريا خلال ٢٠٢٠ ، تسعى الولايات المتّحدة لرأب التصدّعات في علاقاتها مع حليفيها الرئيسيين، الإسرائيلي ، والسعودي ، بما يعوّض الدولتين عن بعض ما اصابهما من أضرار مادّية ومعنوية نتيجة ما حققته أدوات المشروع الإيراني من تمدد إقليمي في مناطق كانت تاريخيا حكرا على سياسات سيطرة النظاميين ،من جهة ، وبما يحضّر الأجواء لخطوات دمج ” النظام الإيراني ” في المنظومة الإقليمية ، التي ستطلقها إجراءات توقيع “اتفاق نووي ” ، أصبح على رأس اجندات الولايات المتّحدة والنظام الايراني؛ ولا يغيّر من واقعية هذه الأهداف ما تطرحه الدعاية الأمريكية من سعيها لإقامة “تحالف إقليمي” ، لمواجهة ” الخطر الايراني ” من جهة ، وأخطار ” حرب باردة ” جديدة، ناتجة عن تصاعد سياسيات روسية / صينية ، للسيطرة على المنطقة ، والعالم !!
في قمّة القدس ، وفي قمّة جدّة الخليجية أيضا ، حرص الرئيس الامريكي على إطلاق حزمة من الوعود والتعهدات ، رغم إدراكه بما آلت اليه المصداقية الأمريكية من ضعف وهشاشة .
التعهّد” بعدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي” ، وتقديم مساعدات تنمويّة ، وعسكرية تقنية ، وعقد صفقات أسلحة متطوّرة ، خاصة للسعودية والإمارات . مع كلّ هذا ، يعتقد البعض بفشل الرئيس الامريكي في إقناع محاوريه الإسرائيليين بأهمية استمرار التعويل على الوسائل الدبلوماسية لمواجهة الخطر النووي الإيراني ، كما في إقناع محاوريه في قمّة ” جدّة ” بوجود أخطار حقيقية لأقطاب عالمية ، روسيّة صينيّة ” تستدعي وقوف الجميع “صفّا واحدا “في مواجهته ، على غرار تحالفات ” الحرب الباردة ” ضدّ الإتحاد السوفياتي، بما يجعل من الحديث عن نجاح اهداف المشروع الأمريكي الشرق أوسطي الجديد مشكوكا بصدقيته !!
صحيح أنّ خطوات التطبيع السعودي / الإسرائيلي قد حققت بعض التقدّم الملموس ، لكنّها بطيئة جدّا ، ولا تستطيع إخفاء هذا الفشل الأمريكي الواضح في البحث عن إقامة تحالف ناتويّ ” عربي ” أو ” عربي / إسرائيلي ،في مواجهة محور إيراني / روسي / صيني ؛ شكّل الترويج له مادّة إعلامية ساخنة على عدّة مستويات ، جعل البعض يعتقد بأنّه الهدف الرئيسي لجولة الرئيس الامريكي ، الشرق أوسطية !
على صعيد العلاقات التركية / الأيرو روسيّة، من المستبعد أن تقدم تركيا على تنفيذ تهديداتها في مواجهة مباشرة مع روسيا والنظام وإيراني ، كما حصل في مطلع ٢٠٢٠ ، ودفع ثمنه الجميع اثمانا باهظة . استمرار حالة التوتر ، وتزايد محتمل للعنف ، يبقى واردا في ظل غياب شروط توافق حول تحقيق اهداف المشروع الأمريكي ، الساعي لتأهيل متزامن لسلطات الأمر الواقع وبما يفترض أن يؤدّي إليه من حالة ” تهدئة ” شاملة ، تؤسس لحالة استقرار مستدامة.
في الختام ، وفي مواجهة تحدّيات جمّة ، يتوجّب على الاحزاب والقوى السياسية الكردية توحيد السياسات والمواقف ، والوصول إلى ما يقارب “العقد السياسي الوطني” ، يجعل من مناطق” الإدارة الذاتية “مكانا آمنا للعيش والنشاط السياسي الحر ، وفرصة لجميع مكوّنات الشعب السوري لتحقيق نهوض شامل ، على جميع الصعد والمستويات، تحوّل “الإقليم” إلى ما يشبه حالة كردستان العراق . من المؤسف الاعتراف بأن السياسات الإقصائية والعدائية التي تمارسها قيادة ب.ي.د. ما تزال اكبر العقبات الداخلية ، وما تزال سياساتها ” الخارجية ” توفّر ظروف ومبررات حالة حروب وصراعات إقليمية ، تلقي بظلالها على حياة الناس اليومية ، وتمنع توفير مقوّمات نهضة اجتماعية / اقتصادية شاملة . بل أن هذه السياسات في النهاية تخدم المشروع التركي في استخدام ورقة حزب العمال الكردستاني والاستمرار في التهديد في اقتحام المناطق الكردية السورية .