إبراهيم اليوسف
قامة عالية
مقام رفيع!
لما أزل تحت هول الصدمة التي تلقيتها ليلة أمس، بتلقي نبأ رحيل أحد أبناء عمومتي وهو المربي الجليل عدنان سيد أحمد الذي فتحت عيني ووجدته يسبقني في عالم التعليم: طالباً ومن ثم معلماً، بل كان أحد أوائل المعلمين في العائلة، إذ فتح عينيه في قرية- سحيل- إحدى قرى آل غيدا الكرام، و التي عاش فيها بعض أهلنا، وزرتها وأنا طفل مع أبي، ومن ثم وأنا فتى، فشاب، فكهل، إلى أن اضطررت إلى الهجرة، وغدا الوطن ألوان طيف حلمي، كما وغدا المقربون: الأهلون منهم والأصدقاء الأوفياء نيازك تسوح في أفق المخيلة والذاكرة، أنى هرست أرواحنا رحى الغربة والاغتراب.
ابن العم عدنان، أو العم عدنان، بحسب سنة أسرتنا، وتقاليد مجتمعنا التي تتأسس على تقدير من هم أكبر منا، تربى في كنف أسرة فلاحية تعتمد على دورة الطبيعة، شأن أكثرنا، في منطقة لم تكن فيها فرص العمل متوافرة: الوظائف لأبناء المحافظات الأخرى، بما فيها مهنة التعليم، كما إنه لم تكن فيها معامل أو مصانع، ما خلا حقل الرميلان الذي كان يدار من قبل بعض ذوي النفوذ من أبناء المحافظات الأخرى، كما إن نسبة كبيرة من عمالها كانوا من أبناء المحافظات الأخرى، إلى جانب توجه النظام إلى توظيف البعثيين، ومحاولة إقصاء الكرد. رغم هذه الظروف الصعبة استطاع عدنان أن يشق طريقه، ويتابع دراسته. أتذكره- وأنا بعد طالب ثانوية- كيف كان يعمل في مجال أحد الأعمال الشاقة، إلى جانب عمله معلماً وكيلاً في التربية، ليعيل أسرته، ويساعد والده في تأمين مصاريف البيت. الأخوة. الأخوات، إلى أن استطاع عبر عمله أن يتحول إلى- رجل أعمال- من دون أن يتغير قيد أنملة عما كان عليه من قبل!
ينتمي أبو عادل إلى تلك الندرة من الناس الذين لم يؤذوا أحداً في حيواتهم، ويقولون: سلاماً لمن يؤذونهم، وهذا- تحديداً- ما أهله ليكون مع عدد من الأقرباء والمقربين نواة لجنة مصالحة عملت سنوات طويلة، لربما هو أحد أواخر هؤلاء الذين رحل أكثرهم، ولربما كان هذا السبب في اختياره ضمن لجنة- السلم الأهلي- التي كان يديرها أ. حسن صالح في قامشلي، وعدد آخر من الوجوه الاجتماعية.
لقد كان أحد هؤلاء الذين يشاركون من حولهم في السراء والضراء، فما من محنة مر بها أحد معارفه إلا ووقف إلى جانبه، كما وقوفه إلى جانبه في فرحته، فقد كانت حياته اليومية، خارج ساعات متابعة شؤون مكتبه و زراعته تحت خيم- عزاء المعارف- سواء أكانت في قريته التي نشأ فيها، أو في ريف المنطقة، أو خارجه، أو في مدينته التي استقرَّ فيها في ربع القرن الأخير، وكان بيته محجاً لكل محتاج، ولطالما دفع ثمن مثل هذا النبل، من لدن أناس ابتزوه- مالياً- بل لطالما واجه معتدياً على سواه بكلمة الحق.
بدهي، أن مثل هذا الأنموذج ليفعل كل ذلك على حساب راحته. أسرته. بيته. ذويه، ويتكبد لقاء خدمته للأخرين، من ماله، في سبيل إصلاح ذات البين، ومد اليد لكل محتاج، والراحل أبو عادل كان أحد هؤلاء الذين ضحوا بالكثير من أجل سواهم، من دون أن ينتظر كلمة- شكر- من أحد. إنه أنموذج- الندرة- أنموذج الصفوة التي عملت وتعمل جاهدة من أجل سواها، وإن كانت الظروف التي مررنا بها في عقود- الاستبداد- وما تلاه من عقد ونيف في ظل ما يمكن وصفه بما بعد الاستبداد، أو ما نجم عن صنيعه وسلوكه، راح يسعى لمحو مثل هذه القيم، وتغليب روح الأنا على كل ذلك، في إطار تشويه ما لم يشوه، والإجهاز على مالم يجهز!
إنها لمقدمة أكتبها، كاستهلالة أولى، قد تتبع ببعض التفاصيل، أنى التقطت أنفاسي، بعد صدمة هذه الفجيعة المريرة، بغياب ابن عم عزيز، كانت له بصماته في حياتي الشخصية. حياة بعض مجايلي من الأهل، والجيران، لسمو أخلاقه، وكفاحه كي يبقى شامخ القامة، في زمن دأب القائمون عليه على محاولات تكريس حالة الانحناء. تكريس حالة الرعب. تكريس روح الفرقة بين الناس. تكريس الإذلال، وضرب جميعهم بجميعهم، وهو ما وجدناه في أكثر من امتحان ومحنة!
يتبع……….