أجرت الحوار فى أربيل: دينا دياب
زعيم تاريخى بمعنى الكلمة، حمل هموم وطنه على كتفيه، وضع روحه رهن إشارة مستقبل أمته، لم ترهبه الشدائد ولا الخطوب، حمل الزعيم على عاتقه سلاح النضال عن شعبه، جاب الأرض من مشرقها لمغربها مطالبا بحقوق وطنه، وبين مواقفه السياسية وأخرى النضالية، لم يتوان للحظة فى توثيق تاريخ شعبه، واستقطع من لحظات عمره ليؤدى واجبًا وطنياً، اعتبره حقًا إلزاميًا عليه.
إنه الرئيس مسعود بارزانى، زعيم الأمة الكردية، رئيس الحزب الديمقراطى الكردستانى الحاكم، القائد الشعبى والرئيس الحلم، الرمز لشعب كردستان، الذى يجسد قيم وتقاليد المجتمع الكردى العشائرى، فضلا عما لعائلته من مكانة دينية فى كردستان، وتاريخ طويل فى العمل من أجل حقوق الأكراد.
حين وجد “بارزاني” المستشرقين يوثقون تاريخ الأكراد بأحداث مغلوطة مزجت بين الواقع والخيال، قرر أن يؤدى واجبه الذى لا يقل أهمية عن حمل السلاح وأداء واجبه النضالى الذى بدأه بين البيشمركة وعمره 13 عاماً، حيث وثق فى عدة كتب نضال شعبه، كان آخرها كتاب “للتاريخ” الذى صدر باللغة العربية ورصد فيه أحداثا حقيقية كشاهد على العصر مزجها بصور ووثائق وخرائط تكاد تكون نادرة ليوضح من خلالها تاريخ بلاده.
صادفنى هذا الكتاب بينما أبحث فى الشأن الدولى، وخاصة الشعوب التى اجتثت التنظيم المتطرف داعش، وجدت أنه يرصد الواقع المؤلم والمهم فى هذا الشأن، وبالفعل تأثرت بالكتاب وكتبت عنه عدة مقالات.
وفى مفاجأة حقيقية، جاءنى اتصال هاتفى من الإعلامى العراقى الصديق د. قيس الرضوانى، يخبرنى بأن الزعيم تابع عن كثب ما كتبته عنه، فى ضوء متابعته الدائمة لوسائل الإعلام العالمية بشكل عام، والعربية والمصرية بشكل خاص، ووافق على تحديد مقابلة سريعة لإجراء حوار صحفى معه، وبالفعل، تم تنسيق الزيارة سريعا.
وفور حضورى إلى مطار أربيل كانت صور الزعيم تملأ أرجاء المكان، استوقفنى صورة خاصة له على الجدران وفيها يظهر وهو خاضع لـ«التفتيش» من فرد أمن، فهو الزعيم الرمز كما يتعامل معه شعبه، وهو النموذج الذى يُحتذى به فى كل المواقف.
وبالفعل تحدد موعد اللقاء بعد ساعات قليلة من وصولى، وعلمت أن الزعيم لا يملك وقتا كافيًا نظرًا لتضارب الموقف السياسى فى العراق، إذ تزامن موعد الحوار مع انسحاب مقتدى الصدر من الانتخابات، وهو ما أربك المشهد العراقى، ولكن ضيق الوقت لم يمنع الرئيس من استقطاع جزء من وقته الثمين للقائى.
كانت الرهبة تسيطر على مشاعري، والارتباك يرتسم على ملامحى، أدرك الزعيم ذلك فإذا به يذيب الجليد من أول دقيقة، وكانت حفاوة الاستقبال، كافية لإزالة الرهبة وبدأ لقاء صحفى هو الأهم خلال مسيرتى الصحفية.
نسعى لتطوير العلاقات المصرية -الكردية ونتوق أن تكون عصب علاقاتنا.
وبالفعل كان اللقاء، حوار شيق، بدأه الزعيم سائلا، كيف حال مصر، متابعا: لقد زرتها عدة مرات هى بلد جميل، زرت فيها الأهرامات، وأيضا المتحف المصرى، مستطردا، أحب كثيرا شعب مصر فهو شعب بشوش وأصيل، وأنعم الله عليه بقيادة حكيمة.
فأجبته، الحمد لله، الوضع مستقر، ودائما الشعب المصرى يرتبط بشكل كبير بالشعب الكردى، هناك روابط عميقة بين البلدين تمتد إلى الحضارة المصرية القديمة، مع بداية علاقات “الميتانيين” أجداد الأكراد، وبين الملوك الفراعنة منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وبعدها انتشر الأكراد بشكل كبير فى مصر بعد الفتح الإسلامى وتحديدا مع تولى صلاح الدين الأيوبى “الكردى الأصل”، والذى ساهم فى توافد كبير للأكراد إلى مصر، كرجال حكم وإدارة وقادة عسكريين وجنود وتجار وحتى طلبة علم فى الجامع الأزهر، وغيرهم من الأكراد الذين أثروا الثقافة والإبداع المصرى مثل الشاعر أحمد شوقى، والأديب عباس محمود العقاد الذى ولد لأم كردية، وكذلك المخرج الكبير على بدرخان وغيرهم.
* وسألته، كيف ترى هذه العلاقة التاريخية بين مصر والأكراد؟
فأجابنى قائلا: “علاقة الأكراد مع كل الشعوب والدول فى المنطقة علاقات تاريخية سواء مرت بفترات سلبية أو إيجابية، لكنها مع مصر كانت باستمرار علاقات طيبة”.
* وهنا، استرجعت علاقة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بالأكراد واستقباله للخالد مصطفى البارزانى فى مدينة بورسعيد، وتبادلنا أطراف الحديث حين أتاح ناصر للأكراد أن يطلوا على
العالم من خلال محطة إذاعية هى الأولى من نوعها، فى عام 1957م، وسألته، كيف رأيتم دور الرئيس جمال عبدالناصر فى هذا الوقت؟
** فقال، الرئيس عبدالناصر أحدث بثورته تغييرا كبيرا ليس فى مصر فحسب بل فى المنطقة عموما وخاصة للتيارات التقدمية وحركات التحرر للشعوب المضطهدة، ومن هذا المنطلق استقبل الرئيس عبدالناصر بحفاوة قائد حركة التحرر الوطنية والقومية الكردية الزعيم مصطفى البارزانى وأبدى استعداد مصر وثورتها للوقوف إلى جانب الشعب الكردى.
«الديمقراطى الكردستاني» يبنى علاقاته مع الجميع بثوابت وطنية أساسها التعايش السلمى والشراكة والسلام وقبول الآخر وتطبيق الدستور
نؤمن بأن أى تحالف يجب أن يبنى على ثوابت وطنية.
* توقفنا قليلا لاسترجاع العلاقات، خاصة وأن أول صحيفة كردية فى التاريخ، اسمها “كردستان” صدرت فى مصر عام 1898، وسألته: هل ترى أن العلاقات الآن تليق بعمق العلاقات التاريخية؟
** فأجابنى قائلاً: بالتأكيد الطموح الذى نريده أكبر بكثير من العلاقات الحالية، إلا أننا نعمل من أجل تطويرها أكثر.
* فسألته، كيف ترى الطريق لتوطيد هذه العلاقات؟
** فأجابنى: فى عالم اليوم لم تعد العلاقات السياسية فقط طريقا وحيدا لتوطيد العلاقات بين الشعوب والدول، ولذلك نرى فى مصر دولة كبيرة فى تاريخها وحضارتها وعلومها وتجربتها ومدى تأثيرها على شعوب المنطقة ودولها من خلال علاقات ثقافية وعلمية ومعرفية واقتصادية نتوق أن تكون عصب علاقاتنا مع مصر العربية.
* استكملت الحوار حول رؤية الرئيس عبدالفتاح السيسى فى توطيد العلاقات الدولية مع مصر، وتجلى ذلك فى زيارته العراق مطلع العام الماضى، والتى تعتبر أول زيارة لرئيس مصرى منذ 1990، وشهدت إطلاق مشروع الشام الجديد من خلال قمة بين مصر والأردن والعراق تهدف إلى تعزيز التعاون الأمنى والاقتصادى والتجارى والاستثمارى بين الدول العربية الثلاث.. وهنا سألته: كيف ترى هذه الزيارة وهذا التعاون؟
** فأجابنى باهتمام قائلا، توجه صحيح يخدم شعوب المنطقة خاصة شعوب العراق ومصر والأردن، ويتيح لهم فضاء أوسع للتكامل الاقتصادى والثقافى والعلمى بما يفيد الجميع.
* انتقلنا إلى محور آخر أكثر خصوصية وسألته، العراق يعيش وضعا صعبا فى ظل عدم تشكيل حكومة: كيف ترى المشهد العراقي؟
** أجابنى وهو حزين قائلا، للأسف إنه فى غاية الصعوبة، وأزمة عميقة بسبب التعقيدات التى حصلت بعد إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة، وهناك حوارات ومبادرات من أجل الوصول إلى صيغة لحل هذه العقد المستعصية.
* استرجعت الحديث مرة أخرى حول المشهد فى الانتخابات الحالية وتساءلت.. كيف ترى تحرك الإطار التنسيقى ضد تحالفكم مع الزعيم الصدرى مقتدى الصدر خاصة بعد مشهد انسحابه؟
** فأجابنى: لا تزال الأمور فى بداياتها بعد انسحاب السيد الصدر، ولدينا علاقات ودية مع الصدر غير مرتبطة بالتحالفات، وعموما نحن لا نبنى تحالفاتنا على أساس معاداة تحالفات أخرى، بل نؤمن بأن أى تحالف يجب أن يبنى على ثوابت وطنية جامعة أساسها الدستور وأهدافها الحفاظ على مكتسبات الشعب والعمل من أجل خدمة المواطنين وتلبية حاجياتهم الأساسية وحل الإشكاليات بروح وطنية خالصة.
* وسألته.. هل سيدفع الحزب الديمقراطى الكردستانى بمرشح لرئاسة العراق؟
** فقال لدينا مرشح منذ البداية.
* وهنا توقفت لأتساءل، لا يمكن أن يمر الحوار دون فهم طبيعة العلاقة بين الحزب الديمقراطى الكردستانى بالقوى السياسية داخل العراق «السنية» والشيعية»؟
** فأجابنى: «الديمقراطى الكردستاني» يبنى علاقاته مع الجميع بثوابت وطنية أساسها التعايش السلمى والشراكة والسلام وقبول الآخر وتطبيق الدستور بروح وطنية جامعة بعيدا عن الانتقاء أو التهميش بما يعزز مكتسبات العراقيين ومكوناتهم القومية والدينية والثقافية وتكريس حقوقهم كاملة وثابتة حسبما جاء فى الدستور.
* هل نجح بارزانى فى الحفاظ على الحقوق الكردية مع بغداد؟
** فأجابنى: نجحنا فى صياغة دستور جيد يضمن حقوق شعب كردستان، وكذلك حقوق كل العراقيين، ولم يتم الالتزام به حتى الآن.
شعوب المنطقة تعبت من الحروب وهى بحاجة إلى الأمن والسلام والاستقرار والازدهار وليس إلى السلاح النووى
* وهنا توقفت وسألته.. معنى ذلك أن هناك تأثيرا لحزب العمال الكردستانى على الأوضاع فى إقليم كردستان العراق؟
** فأجابنى: للأسف نعم وقد تسبب وجوده العسكرى فى بعض المناطق إلى تهجير سكان مئات القرى بما منع الحكومة ومؤسساتها من تطوير تلك المناطق وشمولها بمشاريع الصناعة والزراعة والسياحة والطرق، ناهيك عن أن تواجدهم تسبب فى مقتل وجرح المئات من المدنيين العزل، وأعطت الحجة للقوات التركية باجتياح المنطقة الحدودية.
* توقفنا كثيرا بعدما طال الحوار.. وسألته، البيشمركة الكردية قدمت نموذجا يحتذى به فى مجابهة داعش عالميا، واجتثاث جذورها بعد هجومهم على العراق فى الفترة من 2014 وحتى 2017..ومشاهد سيادتكم وفى يدك السلاح بين صفوف البيشمركة كانت الأكثر تداولا عالميا فى هذا الملف الشائك، حدثنا عن خطة حكومة كردستان العراق فى مواجهة داعش والجماعات الإرهابية؟
** المؤسسة العسكرية الكردستانية (البيشمركة) مؤسسة وطنية انبثقت منذ عشرات السنين من قلب الشعب كحركة ثورية ناضلت وقاتلت وقدمت آلافا من الشهداء من أجل كردستان وخيارها فى التعايش السلمى بين كل المكونات والأديان بعيدا عن التطرف، ولذلك ورغم الحصار المفروض على هذه المؤسسة فى قضية التسليح من قبل بغداد، إلا أن إرادتها الصلبة ووحدة صفوفها جعلها تقاتل ببسالة منقطعة النظير وبتعاون كبير مع التحالف الدولى الذى دعم تلك القوات وساندها وقاتل معها، حيث استطاعت تحطيم أسطورة الخوف من داعش الإرهابية حتى غدت رمزا عالمية للمقاومة والصمود والبسالة.
* وإذا كانت الحرب على داعش كلفت الدولة الكثير.. وكان لها تأثير سلبي كبير فى كافة المجالات، فقد كان لها أسوأ الأثر على مجال النفط، ولذا سألت الزعيم، أين أصبح مشروع النفط والغاز فى البرلمان العراقى، ولماذا لم يقر حتى الآن؟
** أجابنى: للأسف هناك قوى تعمل على عدم تشريعه بالصيغة الوطنية التى يتفق عليها جميع العراقيين، مما تسبب فى تعقيد الأمور فى هذا الملف بين الإقليم والحكومة الاتحادية، ونرى أن حل هذه الإشكالية هى فى الإسراع بتشريع قانون ينظم موضوع الطاقة ليس بين الإقليم وبغداد فقط بل بينها وبين المحافظات المنتجة أيضا، ولو كانت الحكومة جادة منذ 2007 حينما وضعنا مسودة قانون النفط والغاز لاختصرنا كثيرا من الوقت والإشكاليات.
* إذن كيف ترى نجاح كردستان العراق فى صناعة علاقات جيدة مع الدول العربية؟
** لكوننا نؤمن أن عمقنا يكمن فى أشقائنا العرب ودولهم، ونسيجنا الاجتماعى والدينى والتاريخى محبوك منذ القدم نعمل جاهدين على بناء علاقات تليق بذلك النسيج، ونرى أننا نجحنا إلى حد كبير فى هذه العلاقات مع مصر والخليج العربى والأردن ونطمح إلى توسيعها مع بقية الدول العربية الأخرى.
* ما رؤيتكم لتأثير الملف النووى الإيرانى على المنطقة؟
** شعوب المنطقة تعبت من الحروب، وهى بحاجة إلى الأمن والسلام والاستقرار والازدهار وليس إلى السلاح النووى.
* هل تعتقد أن الحرب الروسية – الأوكرانية.. مقدمة حرب عالمية ثالثة؟
** فأجابنى: نتمنى أن ينجح المجتمع الدولى فى حل هذه المشكلة وألا تتطور إلى حرب أكبر.
* تنهدت كثيرا وراجعت محاور الحوار الذى اتسم بالبساطة وخرج من إطار الرسمية، لأستشعر وأنا فى حضرة الزعيم أننى أحاور شعبا بأكمله له نضال كبير وتاريخ طويل، مرورا ببعض الأحداث العصيبة التى مر بها الشعب من قطع الرواتب وعدم التزام الأطراف السياسية بالمبادئ الثلاثة الشراكة والتوازن والتوافق، وتحدثنا عن قوانين منطقة بارزان التى ظلت حتى الآن تحكمها الأعراف والعادات والتقاليد والدين، كما تطرقنا للعلاقات المصرية والكردية واستقبال الزعيم عبدالناصر للزعيم الخالد مصطفى البارزانى، وكان سؤالى الأخير..
* بعد كل هذا العمر، توليت رئاسة الإقليم وكنت قائدا للبيشمركة، ورئيسًا للحزب الحاكم وسليل العائلة النضالية فى تاريخ كردستان، ما الذى يقلق مسعود بارزانى فى العراق وكردستان العراق؟
** فأجابنى: التفرد فى الحكم وإقصاء الآخرين والتدخلات الخارجية وتهميش الدستور واستخدامه بشكل انتقائى هذا كل ما يقلقنى، لأننى أتمنى أن نعيش دائما فى سلام.
وفى النهاية..شكرت الزعيم على حفاوة الاستقبال، وهذا الشرف التاريخى الذى أهدانى إياه بوجودى فى حضرته، وشكرته أيضا على كتابه “للتاريخ” الذى أعتبره وثيقة حقيقية لتأريخ مسيرة الشعب الكردى، ففاجأنى بأن الكتاب لم يتناول إلا حقائق بسيطة، قائلاً: “الواقع أصعب بكثير، ووعدنى بلقاء جديد فيه متسع من الأحداث والتفاصيل، كى يعى العالم تاريخ النضال الكردى الحقيقى دون زيف.
كما شرفنى بزيارة “منطقة بارزان” بمعاونة مستشاره الصحفى ذكرى موسى، والإعلامى الكردى الكبير أحمد شيخو، صاحبى الدعم الكبير فى إتمام الزيارة وإنجاحها، وبالفعل سافرت إلى بارزان ووجدتها «قطعة من الجنة» مليئة بكل خيرات الله من جبال وطبيعة ساحرة خلابة ممنوع فيها الصيد أو قطع الأشجار، وهى بلدة تنعم بقبر الأب مصطفى بارزانى والجد الشيخ عبدالسلام البارزانى ومسقط رأس عائلة بارزان، وبها متحف يضم رفات كل شهداء بارزان، كان لى الشرف بزيارتها، وتوثيقها فوتوغرافيا، خاصة وأن الكلام يعجز عن وصفها، واكتفيت بتصويرها كى تكون ذاكرة حقيقية فوتوغرافية لتاريخ بارزان.
————
المصدر: جريدة الوفد المصرية