صلاح بدرالدين
ثمة بمراحل التاريخ اشكالا من الحروب، والغزوات، تباينت، وسائلها، وشعاراتها، وأهدافها القريبة والبعيدة، بينها من اجل نشر دين جديد او مذهب آخر، او فرض عقيدة بالقوة، او بسط سيطرة نظام سياسي معين، او احتلال بلدان واراضي، او اخماد ثورات وانتفاضات لشعوب تنشد الحرية، او النبش في أوراق الماضي السحيق واحياء الامجاد على حساب افناء الاخرين، او محاولة إزالة نظام اجتماعي اقتصادي والاحلال محله، او النهب واحلال الدمار، وفي اكثر الحالات يخبئ المعتدي الأهداف الحقيقية، ويتذرع بالاسباب الواهية وتشكل الحرب الروسية على أوكرانيا نموذجا في هذا المجال.
البديل القومي – الانتقامي – في روسيا مابعد الاتحاد السوفييي
بعد انهيار الإتحاد السوفييتي صعدت التيارات القومية، والليبرالية، التي كانت مناوئة للنظام السياسي السابق بالأساس، وتم بناء تحالف واسع لقيادة الدولة عبر طغمة من بقايا الأجهزة الأمنية، ومدراء الصناعات الحربية من الضباط، ومنظمات المافيا العابرة لقوميات الاتحاد السوفيتي السابق، والكنيسة الارثوذوكسية، وعلى راسها الحاكم الدكتاتور الفرد بوتين، وكانت هذه الأطراف متفقة على جملة من الأمور من بينها توزيع الأموال والمغانم، والشركات، والعقارات التي خلفها النظام السابق، واحياء امجاد روسيا، والانتقام من الغرب، وتعزيز القوى العسكرية، والاقتصادية، وتطوير صناعة الأسلحة، وإعادة سطوة الروس وتحكمهم في مصير الدول الخارجة من النفوذ الي استقلت وانضمت للاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، واتخذت النظام الديموقراطي البرلماني شكلا للحكم بغالبية شعوبها الساحقة.
الكسندر دوغين فيلسوف الطغمة الحاكمة، ومنظرها
هو أيضا من بقايا الجهاز الأمني الرئيسي – ك ج ب – ووالده كان ضابطا أيضا بنفس الجهاز، وفي مرحلة ماقبل انهيار الاتحاد السوفيتي كان معارضا، وسجن أيضا، وتتلخص نظريته التي يسميها – الرابعة – أن ” المستقبل للمقدس لا للمستباح، وللمطلق لا للنسبي، وللتقاليد لا للحداثة، انه لعودة العصور الوسطى، والازمنة الكبرى، واحياء امجاد روسيا، والقومية – الدينية الروسية “، وهو صاحب نظرية (الاوراسية) القومية العنصرية، بإعادة شعوب الاتحاد السوفييي السابق الى بيت الطاعة الروسية بالقوة، واتخاذ حجة حماية واحتلال وضم مناطق الناطقين بالروسية ذريعة لاشعال الحروب واحتلال أراضي الغير بقوة السلاح.
ومسالة الناطقين بالروسية في دول الاتحاد السوفيتي السابق معقدة، ومتشعبة، فمعلوم في ظل ذلك النظام كانت الروسية ذات الثقافة المتقدمة العريقة اللغة الرسمية، والدبلوماسية، وكان الروس باعتبارهم العنصر الفعال يحكمون عمليا معظم الجمهوريات، وخلال اكثر من سبعة عقود توزع الروس، وسكنوا في كل الدول، وظهرت جاليات روسية واسعة امسكت بالسلطة والقرار، واستقرت جيلا بعد جيل، لذلك يمكن إيجاد الروس في معظم البلدان والمناطق خاصة الحدودية مع روسيا الاتحادية، كما في إقليم – دونباس – الأوكرانية، ولكن هؤلاء لايقيمون على الأرض القومية الروسية بل في دولة مستقلة اعترفت بها روسيا أيضا كدولة ذات سيادة بحدودها الراهنة، وهي بمثابة ( أقليات ) ومجموعات مختلطة مع السكان الأصليين، لذلك تبقى حجج وذرائع المحتلين الروس اكثر من واهية.
وبحسب الوثائق السوفيتية فان – ستالين – الجورجي الأصل والمتروس هو من تزعم التيار الذي احكم قبضة الروس في كل الجمهوريات الاتحادية، بعكس – لينين – الذي كان مع حريات أوسع للجمهوريات، واحترام الخصوصيات القومية، ولكن وافته المنية مبكرا، مما افسح ذلك المجال للدكتاتور ستالين لتنفيذ مااراد.
وفي حقيقة الامر فان الروس الموزعون في تلك البلدان هم آخر هموم الطغمة الحاكمة في موسكو ان لم يكونوا في طي النسيان أصلا فلو صدقت الطغمة لما مارست الدكتاتورية على شعوب روسيا، وحرمتها من حقوق الرأي، والفكر، والاعلام، وافقرتها، ولما نهبت المليارديرية الحاكمة أموالها، اما الادعاء بمحاربة ( القيم الغربية، والنظم الراسمالية ) فمحض هراء فنظام الطغمة الحاكمة بموسكو راسمالي أيضا ولكن غير ديموقراطي بل استبدادي فردي بدون مؤسسات ديموقراطية، امني، عسكري، بنزعة قيصرية ارثوذكسية.
فلو لم تكن الطغمة الروسية الحاكمة ذات نوايا عدوانية مبيتة لكانت أسست رابطة اقتصادية تكاملية بمنافع متبادلة مع كل البلدان الي انسلخت من الاتحاد السوفييي السابق، وكذلك مع بلدان الاتحاد الأوروبي الجارة، ولما تحالفت مع اعتى الدكتاتوريات في العالم، ولما حاربت ثورة الشعب السوري الوطنية، وقدمت كل أنواع المساعدات من عسكرية، ودبلوماسية لنظام الدكتاتور السوري، فهناك الان على الصعيد الدولي العشرات من الأطر، والاتحادات، والروابط في مجالات التعاون، والتكامل الاقتصادي مثل الاتحاد الأوروبي، الى جانب مبادرات أخرى كمجموعة – البريكس – ومنظمة شنغهاي للتعاون.
ان تقسيم الدول المستقلة، والدفع باتجاه إقامة كيانات منفصلة بالقوة وبذريعة عنصرية لن يشكل حلا للازمات بل قد تفاقمها، وتثير الفتن، فلن يعترف غير روسيا لا باستقلال المناطق المستقطعة من – جورجيا – ولا القرم ولا دونباس تماما مثل عدم اعتراف اية دولة باستقلال قبرص التركية التي ضمت الى تركيا بالقوة لنفس الذرائع الروسية تجاه سيادة أوكرانيا، اما ان تعمل تركيا على تأسيس مجلس الدول الناطقة بالتركية لتحقيق التعاون الاقتصادي، وتبادل المصالح بين دول ذات سيادة، والذي اسسه الرئيس التركي الراحل توركوت اوزال من اجل الاستقرار فامر آخر، وهكذا الحال مع أي شعب آخر يبحث عن التواصل الودي، والتعاون بين الاقربين منها، والتي تجمعها الأصول التاريخية، واللغة القومية، والاهداف الموحدة في التحرر والخلاص مثل الشعب الكردي، او أي شعب آخر.
وهناك أيضا كامثلة في هذا السياق – المنظمة الفرانكفونية – الفرنسية التي نشات إبان الحرب العالمية الثانية بقصد إعادة مجد الدولة الفرنسية ولغتها وترسخت هذه الفكرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فتجلت اهداف المنظمة الفرنكوفونية في تعزيز التعاون بين الدول والمنظمات التي تبنت فكرتها وانضمت إلى المنظمة من خلال تنفيذ عدة سياسات وبرامج تعاونية لخدمة السكان الناطقين بالفرنسية، وتعزيز اللغة الفرنسية، وإرساء السلام، وتنمية دور المرأة.
وهناك أيضا دول – الكومنولث – وهو اتحاد سياسي يضم ٥٤ دولة كانت جميعها تقريبا أقاليم تابعة للتاج البريطاني، ولا تملك الدول الأعضاء التزامات قانونية تجاه بعضها البعض، ولكنها مرتبطة من خلال استخدامها للغة الإنجليزية والروابط التاريخية. تُكرَّس قيمهم المشتركة المعلنة للديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون في ميثاق الكومنولث، وعززتها دورة ألعاب الكومنولث التي تقام كل أربع سنوات.
وتاتي جامعة الدول العربية في السياق ذاته حيث تتعاون الدول العربية المستقلة ال (٢٢) بارادتها الحرة في نطاق ميثاق الجامعة على الأصعدة الدبلوماسية، والاقتصادية، والثقافية، والانسانية،وتحت ظل اهداف تحقيق السلام، ومواجهة الإرهاب، وعدم التدخل بشؤون البعض الاخر.
نظام ولي الفقيه الإيراني بدوره يمارس حربا من نوع آخر وبغلاف – مذهبي – في عدد من دول المنطقة، فحربه الطائفية مستمرة وتحت غطاء – الشيعية السياسية – وتوحيد اتباع المذهب بالقوة، في كل من اليمن، ولبنان، والعراق، وسوريا، وحتى في افغانستان.
فقط روسيا طغمة الدكتاتور الارعن الملياردير – بوتين – وكذلك نظام طهران يشذان عن القاعدة، وتستولي طغمة بوتين على أراضي الغير بالقوة، وتحاول تغيير النظم السياسية الديموقراطية، وتفرض الشروط الاستسلامية على الاخر، وتدعم الدكتاتوريات ونظم الاستبداد مثل نظام الأسد، ونظام – توميشنكو – وغيرهما، وهي ماضية في القضم المتدرج للبلدان المجاورة ومعظم بلدان أوروبا اذا ما رات الى ذلك سبيلا، فهل يمكن القضاء على مصادر الشر قبل فوات الأوان ؟ هذا مع العلم ان الكرد وحركتهم القومية، ونضالهم التحرري في مختلف أماكنهم وأجزاء وطنهم، من اكثر المتضررين من مخاطر قوى الشر، والطغيان هذه.
والقضية قد تحتاج الى نقاش