عز الدين ملا
الأمور في سوريا كما يلاحظها الجميع تسير نحو مستقبل مجهول، هذا الغموض وهذه الضبابية تظهر بشكل جليّ في مآخذ الدول الداخلة والمتداخلة في الشأن السوري، هذا بالنسبة لنا نحن السوريين، أما بالنسبة لهم فهي توازنات ومقايضات وتصفية حسابات وترتيب لمناطق النفوذ، والساحة السورية تفور وتغلي على صفيح حرب اقتصادية ومعيشية شرسة لها تبعات سيئة وخطيرة، بعد أن كان هذا الشعب يتعرّض إلى لفحات سعير حرب عسكرية نال خلالها السوريون أبشع أنواع الانتهاكات من فنون التنكيل والتدمير والتشريد.
أما الآن فالوضع لا يسرّ ولا يبشر بالخير، لا وجود لحرب عسكرية ولكن ما يمارس هي حرب بشعة وخطيرة، والذي من الممكن أن تؤدي إلى وجود أو لا وجود لشعب كامل، حيث محاربة لقمة العيش وتجويعه في نهاية المطاف، إنهاء شعب وإفنائه، هذا هو الجحيم بحد ذاته، كل ذلك يجري أمام أعين العالم أجمع، وخاصة ممن يعتبرون أنفسهم من الحماة والمدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير.
علماً أنّ التحولات التي طرأت على مسار الثورة السورية، أو بالأحرى الأزمة السورية، جعلت من الشعب السوري يتخبط يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً، أدخله في متاهة من التناقضات والتفاعلات، وتعرّضه لنزلات مشاعر البرودة والحرارة، يرتجف أحياناً من هول برودة التعامل الدولي، وخاصة من يتباهى بدفاعه عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وفي أكثر الأحيان يتعرق من شدة الانتهاكات والجرائم التي تمارس ضده من قبل الأدوات والأذرع، وخاصة من هم من أهل بيته، وممارسة أبشع الجرائم التي تقشعرّ لها الأبدان.
ان اصطدام الشعب السوري بجدار النفاق واللامبالاة جعله يفقد الثقة بكل ما يتم الحديث عنه من قبل المنظمة العالمية والدول المدافعة عن حقوق الإنسان، كما يصرحون به جهاراً نهاراً، إن هذه اللامبالاة كالسيل جرفته إلى نفق مظلم، يسير فيه دون أن يدري وجهته، فقط الذي يعلمه أنه وحده يصارع الفناء والموت في مستنقع مظلم، تفوح منه رائحة النفاق والجشع وكل صفات الخبث والنذالة، مما جعله فريسة سهلة للسفلة واللصوص وعديمي الإنسانية يتحكّمون بتقرير مصيره.
بعد مرور كل هذه الأعوام وعقد الكثير من المؤتمرات والاجتماعات وتحت مسميات عديدة من جنيف إلى أستانا وسوتشي، والانتقال من السلة الأولى إلى إنهاء ما هو عسكري والبدء بالحل السياسي والحكم الانتقالي إلى السلة الأخيرة، وهو تشكيل لجنة لكتابة دستور جديد دون إنهاء السلة الأولى والبدء بالحل السياسي. وكأنك تقلب الطاولة رأساً على عقب وتدعوهم إلى الجلوس حوله، كيف يمكنك العمل فوق طاولة مقلوبة؟ كل ذلك حدث فقط لأن الإرادة الدولية لا تريد إنهاءها، بل المصلحة وفقدان الضمير يريد بقاء الوضع على ما هو عليه، والأنكى أن تعود وتفاوض ما قمت بثورة ضده، هذا كان بداية الابتعاد عن مسار الثورة التي كانت شعارها إسقاط النظام.
ومن الشؤم والخوف أن كل ما حدث خلال سنوات الأزمة السورية وكأنها لم تكن، وخاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، فالمتغيرات والترتيبات الجديدة قد تجعل من السياسة الدولية الممارسة في سوريا تعود إلى نقطة الصفر وكأن الأزمة السورية لم ترَ النور وأنها بدأت للتو، وهذه الأحداث جميعها جرت وتجري أمام أعين السوريين وهم يتحملون الويلات والعذابات على أمل الوصول إلى حل ولو جزئي فقط لإنهاء تلك المعاناة، ولكن هيهات، ما يظهر للعلن أن أرض سوريا أصبحت مرتعاً للمبارزات والصراعات الدولية، كل دولة تبرز عضلاتها في حلبتهم، وتتفنن في استخدام مخططات سياسية جديدة وفنون عسكرية حديثة.
يتمخض من الأحداث الآنية، أن الساحة السورية لم تعد مرتعاً ساخناً كما في السابق، ولكن مع بقائها كـ ساحة ضغط ومقايضة، وخاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وهنا يظهر الخطر، بحيث أن المشكلة السورية ستبقي دائرة الصراع والتنافس بين أمريكا وروسيا، من جهة، وأيضاً ساحة تصفية حسابات لـ تركيا وإيران ضد مشاكلهما الداخلية والخارجية، من جهة أخرى.
وهذا ما نكتشفه مما يجري على الساحة السورية، من إعادة انتشار للحرس الثوري الإيراني على مساحات واسعة من غرب ووسط وشرق سوريا، وكذلك محاولات تركية الاستفادة من الظروف الحالية لكسب المزيد من الامتيازات لها، والنظام الذي يحاول فرض سيطرته على مناطق أخرى ليست تحت نفوذه مستغلاً تردد السياسة الأمريكية في المنطقة، كل ذلك يثير القلق والريبة لدى السوريين من تداعيات جديدة وانزلاقات خطيرة تنذر بمستقبل مريب.
لذلك يجب ألا ينتظر السوريون هؤلاء الغرباء لإصلاح ما فسد وإعادة ترتيب البيت السوري، بل عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم ويبدؤوا بالترتيب من الداخل.
كل ما حدث ويحدث نتيجة سيطرة غريزة الشر والكره بين السوريين وممارسة الأنَّا والتملك والاستمتاع باستخدام أدوات الذلّ والإهانة ضد بعضهم البعض، فقط لأن هذا مختلف معه في قومية أو دين أو طائفة، دون التفكير أن ذاك المختلف يشاركه في الأرض والعرض وقبل كل شيء في الإنسانية.
الثورة السورية التي نبتت من البذرة الصالحة والمحبة الموجودة في قلوب ومشاعر السوريين، لكن ما حصل أثبت أن هذه البذرة لم تستطع المقاومة أمام ذلك الشذوذ الفكري الذي تم غرسه في عقول السوريين لعقود طويلة، وهنا ومن هذه النقطة يستطيع السوري الخروج من كل هذه الأوحال، فقط العمل والمحاولة على سقي بذرة المسامحة والمحبة وتقبل الآخر، والاعتناء بها حتى يتمكن من المصالحة مع أنفسهم أولاً ومن ثم مع إخوتهم المختلفين معهم، عند ذاك الحين تينع الثورة وتحقق أهدافها في بناء سوريا المستقبل، سوريا أكثر رونقاً وجمالاً.