تبدلات في طبيعة الصراع الدولي.. تداعيات، ونتائج

صلاح بدرالدين

 توحد الشرق الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق ، مع الغرب الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية في الحرب ضد النازية ، والفاشية ، وأدى ذلك الى دحرها ، وانتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء ( الاضداد ) ، والتوافق على تقسيم مناطق النفوذ بينهما في جميع انحاء العالم ، بموجب اتفاقيات مبرمة ، توجت بقيام هيئة الأمم المتحدة والتوقيع على ميثاقها المعمول به حتى الآن ، والذي جسد في جوهره موازين القوى على الصعيد الدولي حينذاك .
  شهدت الفترة بين عام ١٩٤٥ وحتى نهاية الثمانينات بداية انهيار المعسكر الشرقي ، أي قرابة ثمانية عقود ، اضطرابات ، وحروب محدودة ، ومواجهات بالوكالة ، وحرب باردة تجسدت فصولها مباشرة او بصورة غير مباشرة في اطار الصراع الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، و،تاليا الصناعي ، والعلمي ، وحرب النجوم ،  اطلق عليه المعسكر الشرقي ( الصراع بين الاشتراكية ، والرأسمالية ) وسماه الغرب ( الصراع بين الديموقراطية والاستبداد الشمولي ) .
  انهيار دول المعسكر السوفييتي ، وتفكك حلف – وارسو – منذ بداية تسعينات القرن الماضي ، بعد عقود من الحرب الباردة بين المعسكرين ، يعد هزيمة ليس لدول ، وقوى عسكرية ، فحسب بل لنظام سياسي ، واقتصادي ، وآيديولوجيا ، ولمجمل الاستراتيجيا النظرية  التي بنيت عليها أنظمة ، ودولا ، وحكومات ، واحزابا ، وحركات تحرر في مختلف القارات ، وذلك لاسباب متعددة بينها فقدان الديموقراطية ، وقمع الرأي المخالف ، والفساد الإداري ، وحرمان شعوب وقوميات من حقها بتقرير المصير ، ودكتاتورية الحزب الواحد ، .
  الكثير من حركات الشعوب المكافحة من اجل الحرية ، وتقرير المصير في العالم ، وبينها الحركة الكردية ، والتي كانت تشكل جزء – افتراضيا – من المعسكر الاشتراكي ، او حليفة ، وصديقة له ، لاسباب تاريخية ، واحيانا تحت وطأة الجغرافيا السياسية ، أو بسبب عداء الغرب الراسمالي لكل ماهو تحرري ، وتقدمي خاصة خلال سنوات الحرب الباردة ، وانحيازه للنظم الدكتاتورية في الشرق الأوسط عموما وبينها أنظمة مقسمة للكرد ، ومضطهدة لهم ، أقول ان تلك الحركات وجدت نفسها امام واجب مراجعة بالعمق للماضي ، وضرورة استيعاب المعادلة الجديدة المتحكمة بطبيعة الصراعات وقواها الفاعلة ،  بمقاربة تحفظ مصالح شعوبها ، وقضاياها ، ومستقبلها ، فبعضها نجح ، وأخرى أخفقت .
  بعد انهيار المركز الرئيسي للنظام الاشتراكي العالمي واقصد الاتحاد السوفييتي السابق ، وخروج دول أوروبا الشرقية بمحض إرادة شعوبها منه ، وإعادة بناء أنظمتها السياسية الجديدة على أسس راسمالية ليبرالية عبر الانتخابات الديموقراطية ، وسعيها التقارب مع دول الاتحاد الأوروبي ، وحلف الناتو ، نشأ في الوقت ذاته نظام ببنية راسمالية على انقاض النظام السوفييتي في موسكو ، قوامه التحالف المصلحي بين كل من : بقايا الأجهزة الأمنية وخصوصا – ك ج ب – و مدراء الصناعات العسكرية ، وشبكات المافيا العابرة للقوميات ، والكنيسة الارثوذوكسية ، واستولت الطغمة الحاكمة على جميع مقدرات الدولة السوفيتية ، وحرمت منها الدول والشعوب الأخرى خارج الاتحاد الروسي التي قدمت التضحيات الجسيمة  ، وهو امر يغفله الكثيرون .
  هذا ماحصل لبلد المنشأ كما يقال ، أما الصين فقد سبقت سقوط السوفييت بالتحول التدريجي نحو نظام راسمالي استبدادي شرقي ، يتخذ قاعدة الحزب الشيوعي الحاكم بديلا عن المؤسسات الديموقراطية المعروفة من اشتراعية ، ورقابية ، وقضائية ، مع الحظر الكامل للمعارضة ، والاعلام الحر ، وحقوق القوميات ،  أي نظام راسمالي ، شمولي ، استبدادي ، آيديولوجي ، يتحكم فيه الفرد الواحد الاحد .
  لاشك ان التبدل الأبرز في جوهر الصراع بين المعسكرين ، او القطبين ، هو انتقاله من المبارزة التنافسية بين الاشتراكية ، والرأسمالية ، والتي خسرت فيها الأولى لاسباب جئنا على ذكر بعضها ، الى صراع بين نظم راسمالية ديموقراطية ليبرالية مثل دول الاتحاد الأوروبي وامريكا من جهة ، ونظم أخرى راسمالية تقودها الطغم الاستبدادية ، الشمولية ، الفاسدة مثل روسيا والصين ، والتي تغذي أنظمة دكتاتورية أخرى  كما في سوريا ، وترعى ميليشيات عسكرية مرتزقة مثل ( فاغنر ) وتعيش على الابتزاز ، وتهديد الاخر ، والمنافسة غير الشريفة ، وتعادي قضايا الشعوب التحررية في اكثر من مكان اذا اقتضت مصالحا الاقتصادية ذلك .
  ان تشخيص الولايات المتحدة الامريكية وبلدان أوروبية اخرى في صف النظم الديموقراطية الليبرالية ، لاينفي اطلاقا الرفض الكامل  لمواقفها المستندة الى الكيل بمكيالين ، وسياساتها العوجاء حول اكثر من حدث ، وقضية ، مثل قضايا الشرق الأوسط عموما من أفغانستان الى ايران ، وبينها خذلان الشعب السوري ، وكذلك مواقفها الإشكالية من القضية الكردية على وجه الخصوص .
  لقد شكلت الحرب العدوانية الروسية الظالمة على أوكرانيا أجواء من الغموض لدى البعض ، عندما تم تفسيرها على انها حرب بين روسيا من جهة ، وحلف الناتو من الجهة الأخرى ، فالاخير لم يعلن الحرب ، بل يتحاشى المواجهة المباشرة ، وروسيا هي البادئة بالحرب ليس من اجل ( انتصار الاشتراكية ) بل في سبيل مصالح الطغمة الحاكمة ، وهي حشدت كل جيوشها ، واجتاحت أوكرانيا من كل الجهات ، وتنهال عليها بالصواريخ البعيدة المدى ، والطيران ، لاعادة الشعب الاوكراني الى بيت الطاعة الروسية ، وفصل مناطق من ارضها الوطنية تحت ذريعة حماية الناطقين بالروسية ، وفرض خيارات اجنبية على بلد ديموقراطي مستقل ذات سيادة ، وان يقبل النظام المنتخب ديموقراطا بإرادة الشعب الاوكراني الاستسلام ، وحل جيشه ، وسلب ارادته ، وتغيير نظامه ، وفرض الخيارات عليه بالقوة .
  النزعة القومية الروسية الاستعلائية بادية على كل شيئ ، على تصرفات الدكتاتور الارعن الملياردير بوتين وتهديداته بالحرب النووية ، وعلى قيادته العسكرية ، وآليته الحربية ، واعلامه ، ووفده الى المحادثات ، وشروطه المذلة ، وتعصبه الاعمى للروبل الروسي ضد العملات الأخرى المتداولة في أسواق التجارة العالمية بموجب ضوابط ، وارصدة ، وقوانين ، واعراف ، تستند الى مصادر القوة الاقتصادية . 
  كل من شاهد اجتماع الدكتاتور الشكلي – الإعلامي بحاشيته المدجنة لاقرار الإعلان عن سلخ إقليم – الدومباس – من أوكرانيا وضمه لروسيا باسم دولتين مستقلتين ، وبثه الرعب في وسطهم ، واستدعائه الواحد تلو الاخر للاستنطاق بمايريده هو ، يتذكر المنظر نفسه بقاعة الخلد ببغداد عندما اعدم الدكتاتور صدام جمعا من رفاقه ، وبث الرعب بقلوب الحاضرين ، او مشاهد مفزعة  للدكتاتور النازي ادولف هتلر وهو مجتمع بالمقربين منه .
  اذا كانت نتائج  الحرب العالمية الثانية العسكرية ، قد وضعت قواعد للسلم والاستقرار العالميين ، واسسا للصراع التنافسي السلمي حينها بين المعسكرين المختلفين ، واذا كانت طبيعة الصراع قبل نحو ثمانين عاما قد تغيرت الان بصورة جذرية ، وظهرت اقطاب اقتصادية ، وعسكرية ، وعلمية متقدمة ، في مختلف القارات ، فليس بالضرورة ان تنشب حرب نووية حتى يعاد التوازن بين القوى الراسمالية المتحكمة في العالم ، وإزالة الفوارق بين الشمال والجنوب ، وتثبيت البيئة النظيفة ، وتحريم الأسلحة الفتاكة تصنيعا ، وتجارة ، وإعادة الاعتبار لمبدأ حق تقرير مصير الشعوب ، ومنع استخدام القوة في حل المشاكل ، بل يمكن التوافق حول اعادة النظر في ميثاق هيئة الأمم المتحدة ، واعتماد الجمعية العمومية بدلا من مجلس الامن ، ومشاركة كل دول العالم من دون تمييز بين الغني والفقير في إدارة الشؤون العالمية على أساس الاعتراف المتبادل ، وقبول مبدأ – توازن المصالح – .  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…