حدث ذلك في صباح يوم صيفي في مدينة آمنة

مايا خالد محمد*

لم يكن يخطر في بال الناس هناك، قبل أن يناموا، أنهم قد لا يستيقظون من نومهم أو أنهم قد يفتحون أعينهم على أشلاء أقربائهم وجيرانهم وهي تتناثر في الأرجاء. 
في ذلك الصباح الصيفيِّ، في السابع والعشرين من شهر تموز/ يوليو عام 2016، وفي الساعة 9:23 من نهار لن يُمحى من ذاكرة مدينة قامشلو، ما كان يتنبّؤون بأن لقمة إفطارهم ستكون مغموسةً برائحة التفجير، ونُثار الغبار، ودماء ضحايا لا ذنبَ، وأنهم بعد أن قضوا عقوداً من أعمارهم في تشييد بيوت ومساكن تُؤيهم، سيفيقون على أنقاض ودمار هائل، أو سيكونون جثثاً مهروسة ومبعثرة تحت الأنقاض أو في حفرة لا تصدقها عينٌ ولا يقبلها ضمير.
كنت مع عائلتي، وقد بدأنا بتناول الإفطار تحت دالية العنب وشجرة الزيتون، بالقرب من نافورة المياه في حوش جَدّي وجدَّتي، بحيِّ (هلالية) المجاور للحي الغربي الذي شهد التفجير، وكانت السماء صافية زرقاء اللون، بالرغم من أننا كنا في منتصف الصيف ولكن كنا نستمتع بنسمات الهواء العليلة وزقزقة العصافير التي كانت تشاركنا الفرحة بجمال ذلك الصباح، حيث رائحة الورود والأشجار، وضحكات الأطفال وهم يلعبون ويمرحون، وأصوات السيارات والأغاني التي تأتي من مسافات بعيدةٍ، لنسمعها، وفرحتنا بزيارتنا إلى بلدنا وأهلنا بعد أن كنا فارقناهم قرابة خمسة أعوام قضيناها في إقليم كوردستان، لم نكن نعلم أن تلك الفرحة ستتحول في لحظة إلى ساعات مشؤومة مليئة بالحزن والبكاء.
في تلك الأثناء غابت زُرقة السماء وفصل بيننا وبينها حاجز من دخان أسود، وغبار متصاعد، كأنه ليل معتم كئيب. في تلك الأثناء، كان ما يشبه القيامة، واختفت كلُّ تلك الأصوات ولم يبقَ سوى صوت ذلك الانفجار الذي هزّ المدينة بأكملها و أصوات  سيارات الإسعاف والشرطة و بكاء النساء والأطفال، حينها ركضنا نستطلع ما حدث… لنرى أن تلك السماء الصافية الزرقاء تحولت إلى ليلة سوداء قاتمة كئيبة، ونرى أن المياه والدماء والتراب قد اختلطت وامتزجت بعضها ببعض، خلال تلك اللحظات ما كان أحد يستطيع رؤية الآخر، بسبب الغبار والدخان المنبعث… 
هناك، في ذلك المكان، وفي تلك اللحظة المؤلمة، غاب عشرات الأشخاص الذين كانوا يملؤون المكان حياةً وحركة وابتسامات، وكان بعضهم متجهين إلى أعمالهم، وآخرون كانوا متوجهين إلى المخابز لشراء الخبر لعائلاتهم التي تنتظر عودتهم، بل كان بينهم من كانت ذاهبةً لشراء فستان زفافها وقد غمرها الفرح… لا أزال أتذكر دموع النساء والأطفال والدماء التي صبغت ملابس الشباب، وهم يحاولون إنقاذ الأطفال والعوائل بأصعب الطرق. 
ثَمّةَ سقوف مهدَّمة، وجدرانٌ واقعة ومائلة بشدة على أجساد الأطفال وكبار السن… تلك الجثث المحروقة والمقطعة، أيامهم التي عاشوها، والتي كانوا سيعيشونها ذهبت دون أن يحصلوا على تذكرة عودة… أمهات تلملم تفاصيل أطفالها وتضعها في أحضانها، وهي تبكي بحرقة… وجوه وعيون غابت أحلامها وآمالها… هنا وهناك أشخاص ينظر بعضهم في عيون بعضٍ، دون أن يبوح أيٌّ منهم بكلمة، بعد أن عجزت اللغة عن الإفصاح عمّا في قلوبهم.
في اللحظات ذاتها وقع نظري على أحد المدرسين المعروفين في تلك المدينة، وإذ به يقف على أطلال بيته المتهدم تماماً،  وكان قد أمضى أعواماً من عمره وهو يكمله جزءاً جزءاً، ها هو يتأمل عمق الحفرة الواسعة التي أحدثها ذلك التفجير، واختفاء معالم الحي تماماً، وقد شكّل ركام الأبنية المنهارة كومةً من المخلفات الحجرية مختلطة بدماء الناس. 
أما أنا فقد وجدت نفسي بين الجموع الحاضرة، أتابع تفاصيل الموقف بألم عميق، وأفكر في أولئك الراحلين الذين غابت معهم أحلامهم وآمالهم، وأتأمل حطام الزجاج والجدران والبيوت المهدمة، وقد امتزجت الدماء بالتراب والحجر، كأنه مشهد من فِلمٍ خياليّ لا أكاد أصدقه حتى الآن، وقد مضى على الحادثة أعوامٌ.
بالرغم من أنهم باشروا بتظيف المكان والشوارع وإعادة ترميم وبناء الأبنية والبيوت، لكن من غاب هذه المرة، هم أبطال الرواية التراجيدية، الذين لم يبق لهم سوى صور وأسماء زينت بها زوايا منازلهم، وفي كل مرة كنت أرى تلك المنطقة، يحضر إلى ذاكرتي ذلك المشهد وذلك اليوم الذي دفن فيه أطفالٌ، رجالٌ، نساء وشباب دفنت معهم أحلامهم، وصاروا علاماتٍ فارقةً لن تزول من ذاكرة مدينة اسمها (قامشلو).
***
• مايا خالد محمد- طالبة سنة ثانية، جامعة بوليتكنيك بهولير – قسم الإعلام.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…