شاهين أحمد
بدأت روسيا الحرب على أوكرانيا بعد مرحلة شهدت فيها العلاقات بين البلدين أزمةً حقيقية على مختلف الصعد إنتهت بإنفجارها عسكرياً، وبعد 48 ساعة فقط من بدء المعركة وصلت الدبابات الروسية إلى مشارف العاصمة الأوكرانية ” كييف” في مشهد يذكرنا بماحصل في ستينات القرن العشرين عندما دخلت الدبابات السوفيتية إلى براغ وسحقت ربيعها. ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن هذه ليست حرباً تقليدية أو نزاعاً بين دولتين على مساحة من الأرض أو لمجرد دعاية إنتخابية ، أو طمعاً بثروات محددة . بل هي حرب من نوع آخر تماماً ، هي امتحان للإرادات والقدرات والمشاريع والطموحات ، هي تأسيس لسيستيم جديد – قديم في العلاقات الدولية ، لإعادة تقاسم مناطق النفوذ على الصعيد العالمي . هذه الحرب ليست الحلقة الأولى في هذا المسار، بل سبقتها حلقات مماثلة في جورجيا – أبخازيا، وجزيرة القرم وليبيا وكازاخستان وسوريا وغيرها بالرغم من اختلاف المواقع ومساحات التوافق والاختلاف بين المواقع المذكورة .
روسيا تمتحن أمريكا والغرب في أوكرانيا
أوكرانيا حلقة جديدة ،ليست الأولى ولن تكون الأخيرة إذا نجح بوتين في معركتها ، وذلك في مسار التحول في العلاقات الدولية ، حيث من المتوقع حصول تغيرات جيو- سياسية كبيرة في القارة الأوربية أولاً ، وقارة آسيا تالياً ومن ثم على مستوى العالم برمته ، ومايجري هو بداية النهاية للنظام العالمي القائم حاليا والذي تشكل عقب انتصار المعسكر الغربي بقيادة أمريكا على المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق في بداية عقد التسعينات من القرن العشرين . والصين ليست بعيدة عن الحدث ، إذ أنها تراقب الأوضاع ومسار العمليات ونتائج الاجتياح الروسي في أوكرانيا بمنتهى الاهتمام ، لأنها قد تقوم بعمل مشابه في تايوان وجنوب شرق آسيا. بإختصار مايجري هو المخاض الذي يسبق ولادة نظام دولي جديد ظاهرياً بـ ثلاثة أقطاب ( أمريكا – روسيا – الصين ) ولكن فعلياً بقطبين كما كان سابقاً حيث الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الغربيين من جهة ، وروسيا والصين وحلفائهما الشرقيين من جهةٍ ثانية . ولن تكتفي روسيا بضم أوكرانيا فقط بل قد تعمل على ضم مولدوفا لاحقاً ، وتضغط على دول البلطيق بشكل مباشر ، وكذلك على حدود بولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا …إلخ . وستسعى روسيا إلى إقناع دول المنظومة الاشتراكية سابقاً بأن الناتو لن يقوم بحمايتهم ، وبالتالي ستحاول فرض فك الارتباط لبعض تلك الدول التي دخلت منظومة الناتو أو في إطار الاتحاد الأوربي . لذلك المشروع الحقيقي أكبر من مساحة أوكرانيا . بمعنى آخر مايجري هو ليس فقط اجتياح عسكري لدولة معينة فحسب ، بل سعي روسي جاد بإعادة تشكيل مساحة نفوذ روسية معترف بها من جانب الناتو ، وتأسيس بنية أمنية جديدة في المساحات الفاصلة بين روسيا والناتو ومن خلال ضمانات مكتوبة. بمعنى أدق فيما إذا كتب النجاح لحلم بوتين ، سنكون أمام حقبة انتقالية من الفوضى العارمة ، والصراع الشرس على المستوى الدولي حتى يتم الإقراربالسيستم الجديد .
هل أوكرانيا تدفع ثمن مراهنتها الخاطئة على الغرب وأمريكا ؟.
نعم ، أوكرانيا تدفع ثمن براءة وسذاجة قيادتها الشابة ( مع كل التقدير لحماستها الوطنية ومقاومتها البطولية )،لأنها نامت على أسرةٍ مخدرة من ريشٍ ناعم أعدها الغرب وأمريكا لها بعناية ، وهي ضحية التصريحات النظرية الجوفاء الغادرة التي أدلى بها زعماء الغرب وأمريكا قبل إندلاع المواجهات العسكرية . وكذلك تجاهلها لتركيبة سكانها ، ومفاعيل التأثيرات التاريخية للحقبة السوفيتية التي كانت جزءاً منها ، ولاحتياجات وتوجسات جارتها روسيا كدولة عظمى ، ولنزعات القيصر ” بوتين ” الامبراطورية ، وحلمه بإعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي السابق بلبوس رأسمالي جديد . كان من المفترض أن تتعلم القيادة الأوكرانية من دروس أبخازيا وسوريا والقرم وكازاخستان …إلخ. وكان على تلك القيادة أن تدرك بأن بلدها وجماجم شعبها عبارة جسر ستعبر عليها الدبابات الروسية الحالمة نحو الخروج من نظام القطبية الأحادية والولوج إلى سيستم القطبية الثنائية من جديد . هناك من يقول بأن أمريكا هي الرابح الوحيد من كل مايجري في أوكرانيا ، ولكن يتجاهل هذا البعض الذي قد يكون صائباً جزئياً في تقيمه السؤال: ماالذي سيجبر بعد اليوم وبعد كل هذا الخنوع والموقف المخزي من طرف أمريكا بقية الدول المشابهة للحالة الأوكرانية على المراهنة والتحالف مع واشنطن بغرض حمايتها من روسيا وغيرها؟!. صحيح أن أمريكا تحاول أن تبقي الدول الأوربية في مزرعتها من خلال إطلاق يد البعبع الروسي في بعض المساحات المتاخمة ، ولكن هناك جانب آخر يتعلق بفقدان الثقة وهو الأهم ، وسيكون لغياب الثقة ارتداداتها المستقبلية على العلاقات والتحالفات الموجودة . ومن جهةٍ أخرى لايمكن المقارنة بين أوربا ودول الخليج العربي لجهة الابتزاز والتخويف .
خلاصة القول :
الحرب بدأت ، والاستقطابات ستحصل ،والانقسامات سوف تتعمق ، والتراجع أصبح صعباً إن لم يكن مستحيلاً ،وخاصة أن هناك عوامل ومناخات باتت متوفرة ومساعدة للسير نحو نظام عالمي جديد بقطبية ثنائية ومن أهمها : وجود رئيس قوي مثل ” بوتين ” بنزعة شمولية وحلم إمبراطوري وذو خلفية أمنية وأحد أقطاب الرأسمالية الروسية وبحلم سوفيتي أولاً . وتراجع وانحسار واضحين للدور الأمريكي في أكثر من موقع ومكان مثل العراق وسوريا وأفغانستان وغيرها في ظل رئيس أمريكي هرم وضعيف ثانياً . وكذلك الصعود الكبير والملفت للتنين الصيني على كافة الصعد وتكامله مع روسيا التي تمتلك ترسانة عسكرية مرعبة مقابل تراجع أوربي واضح ثالثاً. وبدون شك ستكون لهذه الحرب ارتدادات مؤلمة على الاقتصاد الروسي بشكل خاص والعالمي بصورة عامة ، لأن حزمة العقوبات التي ينتظرها الاقتصاد الروسي سيقابلها رد فعل روسي مؤكد على أوربا من خلال تقليل إمدادات الغاز ، حيث ستصبح أسعاره جنونية ، وستصاب قطاع المصانع بشبه شلل جراء شح إمدادات الغاز في عموم أوربا وخاصة ألمانيا المستهدفة بشكل كبير من هذا الصراع . ولايمكن أن نتجاهل الجانب الغذائي وكميات القمح التي يمكن أن تحجبها روسيا عن أوربا ، ولايمكن استبعاد تأثيرات كل ذلك على الصين وعلاقاتها التجارية مع أوربا. إذاً نحن أمام مشهد مشابه لما عرف بأزمة الصواريخ السوفيتية التي نصبت على الأراضي الكوبية مقابل ولاية فلوريدا الأمريكية في بداية عقد الستينات من القرن العشرين . والسؤال هنا هل سينزع جو بايدن فتيل هذا الصراع المدمر بنفس الطريقة العقلانية التي تعامل بها الرئيس السوفيتي آنذاك نيكيتا خروتشوف وجنب البشرية من حربٍ نووية مدمرة؟. أعتقد أن المنطق يقول بأنه يستوجب على الرئيس بايدن وحلفائه عدم دفع روسيا بشكل نهائي إلى حضن العملاق الصيني المتصاعد والذي يشكل الخطر المستقبلي الأكبر والأخطر على الغرب عامةً وأمريكا على وجه الخصوص ، والبحث عن اتفاق واقعي قابل للعيش ويضمن عدم ضم أوكرانيا وغيرها وخاصة جورجيا إلى الناتو ، ومراعاة مصالح وهواجس روسيا كدولة عظمى بعين الاعتبار . ومن الأهمية التأكيد هنا بأن سلاح العقوبات الاقتصادية الذي يلوح به الغرب وأمريكا لن يكون حاسماً مع هكذا نماذج من القادة . ويبقى السؤال الأهم الذي يطرح نفسه على العالم أجمع :
هل ستدشن معركة أوكرانيا مرحلة القطبية الثنائية في العلاقات الدولية ؟.