الثلج الذي لا يُردُّ من جهة قامشلو

 إبراهيم محمود
أربعة من الأصدقاء القامشلوكيين، تواصلت معهم في عهدة ثلجية في هذا اليوم الثلجي المقام: الثلاثاء19-1/ 2022 ، والوجه المتوّج بالثلج، والصدى الصامت والمتصادي بياضاً، بنفَسه الثلجي واللعوب على طريقته، من محل إقامتي الدهوكية، دهوك المأخوذة بعالم ثلجي أيضاً:
الدكتور فرزند، الفنان سعد، ذو الصوت الشجي: محمود، ذو الروح الخفيفة ظلاً: عدنان.
أردت من خلالهم تغطية ما، وعلى طريقتهم عما يكونه الثلج القامشلوكي الذي طربتْ له جهات.
في الحديث عن الثلج الذي تناثر ببياضه البالغ الهشاشة هذه الأيام هنا وهناك، ولقامشلو منه نصيب لافت، يمكن النظر في سويات المنبثق من سام ٍ عال إلى خفض واسع الأرجاء. مسامات تتفتح في صفحة سماء ذات مقاييس، ذات درجة حرارة معينة ، وفي وضعية مخاض معينة:
سائل ينهمر، هو ماء السماء الذي يتسلل في مختلف الأجسام، نافذاً عبر مسامات الأرض. يا لهذا الماء الهادر في سيوليته، يا له من منتظم في مجره، يا له من بادي الطلاقة في انهماره.
قابل للنظر، مرئي، ممكن لمسه، وسحقه، كما لو أنه لم يكن، إذ يسترجع روحه السائلة، أي التحول ثلجاً. له وصفه: تساقطه، انتثاره، تطايره، تبعاً لطبيعة الطقس: صحبة هواء أو دونه. ثلج معهود فيه تغطيته لما هو أرضي، وإن ازداد وقعاً في سربلته، ربما يزداد سماكة، وخنقاً لما هو دونه، وعلى قدر تحالفه مع الهواء ونسبته في الهدوء أو الشدة. تلك هي حالاته.
ممكنٌ إمساكه، أي حيث يستحيل الماء كروياً له ثُقله المقدَّر، هو ذا البَرَد، الذي يخشى من وقْعه، بمقدار كبَر حجم الحبة الواحدة، وبالنسبة لكل ما هو أخضر قبل كل شيء.
ماء يجرف، ثلج يغيّب، بَرد يسدّد. هوذا نزف للمطر، ندف للثلج، قصف للبرد.
لكل من هذا الثالوث الشقائقي مرغوبه ومضروبه، متعته وفجاعته، نشوته وبلوته.
يبقى للثلج نكهته في ملمسه وطواعيته للأكف وقد استحال كرَات أو أكبر تدحرجاً. ثلج مرسال أيد تمثل رغبات، أو حالات نفسية في الترامي والتقاذف، صحبة صور ملتقطة لتثبيت الللحظة.
يمكن للثلج أن يشكل لسان بوسع المساحة المغطاة ملهماً لخيال مستطعم مما هو سماوي، أو خفي، يخرج كوامن نفسية في ” مقذوفات ” متفق عليها.
يمكن للثلج أن تنبّه الذاكرة من الأعماق، جهة البياض المفروش أو المفترش. قرطاس لا ينتظر قلماً ليُسطَر عليه بأثر ما، صوت يستغرق مساحته، يستحيل أشكالاً بأي تمخر عباب بياضه الذي يحيل إليه كل شيء، حتى البشر أنفسهم، يتجللبون بياضاً، وليس من كائن، إلا وللبياض المتساقط غلالة مشهود لها بالهشاشة الباردة اللاذعة والمؤذكّرة بنشوة تعبر حدود الجسد الواحد.
يا للخبر السعيد المنتظَر ببصمته الثلجية، حيث يعد بسائل تال، بعجينة ترابية تستعد لمخاض قادم، كي يُفرَج تالياً عن أخضر متعدد الهويات في نباتيته، وإيقاظ لأرواح كائنات غافية، وتحفيزاً لأرواح بشر، لطالما انغمروا بغواية البياض وسره الميمون حتى ما بعد المرئي.
يأتيني من الأصدقاء القامشلوكيين الكرد، مما أتيت على ذكرهم، في الاسم الأول لكل منهم، وما يعرَف به أكثر، ما يحدد مواقعهم، أو جانباً مذكراً بما استطاعوا إليه ثلجياً.
من الصديق فرزند صور ملتقطة من أمام بيته، وهو في شقة طابقية، بياض يدنوه، ويمتد أمام ناظريه، وفي هذا الاستشراف من سباحة النظر في الفسحة التي تتاح له في ” Mêrga Hilko: مرج حلكو، نسبة إلى القرية المجاورة ” حلكو ” هذا المرج الذي كان ملؤه ينابيع رقراقة ذات يوم سالف، وليس بموغل في الزمن كذلك.
من جهة الشرق ، ثمة صورة من الصديق سعد، حيث الصورة الشجرية وقد توشحت بغلالة ثلجية ” تُولية “، شجر يشهد له على أنه قامشلوكي التساقط والسربلة، شجر بمسكنه الحدائقي أو الملاصق للشارع ربما القريب من بيته ، تاركاً العين وثبة خيال تمسح المكان حيث الشجر هو الذي يتولى مهمة تعززيز الصورة والروح الندافة للثلج 
أبعد منه، شرقاً بنسبة، يكون الصديق محمود، حيث لا يمنح أي ” محل إقامة ” للتخمين، في تحديد اللقظة الثلجية، فهو نفسه المقدَّم، هو نفسه الذي تقاسم الثلج الخفيف 
أبعد من الأصدقاء الثلاثة، حيث الصديق عدنان، والذي تُرى نصيبين من على سطح شقته في الطابق الرابع، لم يجد أقرب إليه، وإلي مما أرسِل، حيث أعرف هذا السطح المعزز بأكثر من ذاكرة لقاء ومجلس أنس. من على سطح بيته، ” طيَّر ” واتسابياً كالبقية صورة متحركة، فيديوية، تظهر كيفية استغراق البياض لسطح شقته. هل من داع 
هذا الأبيض الذي تختفي فيه كل الألوان، هذا الأبيض بصفة ” الناصع “، أعني به الثلج، وليس سواه، الذي يعمل بصمت، تاركاً لنثاره الأبيض والسريع الالتصاق بالأجسام وسواها، إعلاماً سريعاً بالمستجد، ودفعاً بالرغبات الطفولية لأن توسع حدود نظراتها، خطواتها، حركة أيديها، هفهفة مرحيات احتفاء بالمصطحب طي البياض بأرومته السماوية .
فيه ما فيه، للأرض باطناً ما يفي، للأرض وعلى سطحها، ما يفي، بين السماء والأرض، حيث تتشكل خيالات أخرى، ما يفي، لعبث الأصابع الطفولية، وللأيدي البالغة صبابتها، وللأكف الراشدة، ولذوي الأعمار المتقدمة، لكل ما ذكرت، ما يفي من هذا المتساقط برصيده الأثير!
هذا المتوسط بين ما هو سائل، سابقه، وما هو متجمد وصلب وقاس أحياناً: لاحقه، محل اعتبار! 
ثلج هو واحد، لا كثير باسم، ولا قليل منه باسم آخر، ثلج يتساقط حيث يكون الإخلاص لقانونه، تبعاً للمحدَّد له. لا تفضيل لفسحة على أخرى، لزاوية على أخرى، لرقعة جغرافية على أخرى، لكائن على آخر. الكل سواء. وليس فيما يعرَف به ما يسعجل تساقطة استجابة لفرمان، أو طارىء خارج نطاق ناموسه الطبيعي، ليس في عهدته ما يبث فيه نشوة فخار، إن تكاثف تساقطه، أو ينكمش على نفسه، أو انغمَّ، إن ديس بقدم، أو ذكِر بشتيمة ما. لا تفضيل في لسانه الذي يتخلل تساقطه لأي كان على آخر. إنه يتساقط حيث يكونه قانونه.يسيح في لحظة ما، إن دعت الضرورة الطبيعية، يتجمد، ويُزلق، إن تعاظم ضغط تماسكه وصلابته وزلاقته .
إنه الدرس الثلجي العظيم الذي يُرى إلا في وجهه الظاهري دون الباطني. يا للتعاسة هنا!
كل ثلج وأنتم ببياض مرفَق.
كل بياض وأنتم بموسم فرح وطمأنينة وتفاؤل وفير !
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…