جان كورد
الإرهاب له تاريخٌ طويلٌ ودموي في العالم، ولكن حتى يومنا هذا لم يتمكّن الخبراء والسياسيون والمنظمات الدولية من التوصّل معاً إلى تعريفٍ نهائي ودقيقٍ له، حتى أنّ الأمم المتحدة ذاتها لم تنتهِ من المناقشات بصدده، فالإرهابي في نظر هذه الفئة البشرية ربما هو المقاوم في نظر الفئة المقابلة، فإن اغتيال الجنرال كليبر الفرنسي في مصر على يد الطالب الكوردي سليمان الحلبي، تم اعتباره لدى الفرنسيين عملاً إرهابياً في حين اعتبره المسلمون عملية فدائية شجاعة، وذلك حسب نظرة كلٍ من الفئبين للأحداث الجارية والخلفية الفكرية أو الدينية لها، إلاّ أن الإرهاب بشكلٍ عام هو “تخويف -Terrere ” الآخرين بهدف إرغامهم على الدخول في إطارٍ سياسي ما، أو التنازل عما يجده بعضهم حقاً لهم، وقد وصل الإرهاب إلى حد اغتيال ملوك وأمراء وخلفاء وسلاطين وأباطرة، ومعلومٌ أن ثلاثةً من خلفاء المسلمين قد تم إغتيالهم، وكانوا من أصحاب الرسول الأكرم (ص)… ولم يسلم من شرّه حتى رؤساء الدول والبابا والقادة العسكريون والعلماء وعظماء التاريخ البشري.
ولقد قامت جماعة يهودية متطرّفة سميّت ب”رجال الخناجر- (Sicarii Zealots)” باغتيال أثرياء اليهود الذين كانوا يتعاونون مع المحتل الروماني في فلسطين/ اسرائيل، كما نشأت بعدها في القرن الحادي عشر الميلادي حركة “الحشاشين” التي دامت قرنين من الزمن وأرهبت ملوك الشرق الأوسط، حتى أن السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي الكوردي قد تعرّض لمحاولة اغتيال تم تنفيذها من قبل أعضاء تلك الحركة في خيمته العسكرية بالذات في (اعزاز) السورية، وهو في قمة عظمته العسكرية والأمنية…
وعلى أثر نجاح الثورة الفرنسية في عام 1789م وصعود فئةٍ إلى الحكم وضعت مصالحها المالية والسياسية فوق مصالح الشعب، وأرهبت المناوئين لها، ظهر في فرنسا مصطلح Terrorism“” في عام 1795م في الساحة السياسية للبلاد. ونجد أن الإرهاب انتشر في روسيا القيصرية على أيدي المعارضين لحكم القيصر وعلى أيدي الشيوعيين، ومعلومٌ أن السيدة فيرا زاسوليج الشيوعية التي اغتالت حاكم سان بيترسبورغ العسكري في عام 1878م سلّمت مسدسها طوعاً وقالت بأنها “إرهابية” وليست بقاتلة!
وفي القرن العشرين نجد أن اغتيال أميرٍ في فيينا قد أشعل نار الحرب العالمية الأولى… ومن ثم كثر الاغتيال كأداةٍ لفرض سياساتٍ معينة، ونجمت أنواعٌ من الإرهاب، فمنه الإرهاب الفكري، والإرهاب اليساري الذي تجلّى في تشكّل العديد من المنظمات المؤمنة بالقتل والتخويف والتفجير والخطف وإثارة الفتن لتمرير سياساتها في الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، والإرهاب الديني الذي مصدره العالم الٍإسلامي والهند على الأغلب، وثمة العديد من أسماء هذه المنظمات في مختلف أنحاء العالم، من يسارية وشيوعية ودينية متطرفة وعنصرية، مثل الكوكوسكلان والألوية الحمراء والمنظمات الإرهابية في اسبانيا وايرلندا وألمانيا مثل البادر ماينهوف والقاعدة وداعش في الشرق الأوسط وسواها، منها المدعومة من قبل حكومات ومنها ما يعتمد أساليب الابتزاز المالي كاختطاف الشخصيات الثرية والسياسية المرموقة، والسطو على البنوك للاستفادة من أموالها في توسيع نفوذها وقدراتها الإرهابية، وكذلك اختطاف الطائرات واستخدام وسائل وأساليب عديدة لتعزيز تشاطاتها وفعالياتها الإجرامية مثل تفجير المقرات والعربات ودس السموم في الطعام وإرسال الانتحاريين الذين يستخدمون القنابل المحمولة في ثيابهم وعرباتهم. ولو دوّنا جدولاً بأسماء ضحايا الإرهاب من الشخصيات السياسية والعلمية والمالية المرموقة في العالم لملأنا صفحاتٍ عديدة… وأبرزها ابراهام لينكولين وجون ف. كينيدي، ومارتن لوثر كينغ، والمهاتما غاندي ورفيق الحريري وأولف بالمه، ومحمد أنور السادات، ومحمد سعيد رمضان البوطي… وكثيرون من الرؤساء ورؤساء الوزارات وقادة الأحزاب ومدراء البنوك وسواهم…
منذ نشوء حركة التحرر الوطني الكوردية في 1880م التي قادها الشيخ عبيد الله نهري، وإلى انهيار ثورة أيلول المجيدة في عام 1975 على أثر الاتفاقية المشؤومة بين شاه إيران وحكومة البعث في العراق بوساطة الجزائر وخيانة وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر للقيادة الكوردية، لم تظهر حركة عنصرية أو دينية متشددة أو شيوعية كوردية متطرفة، رغم أن الكورد تعرّضوا إلى الكثير من المذابح وعمليات التهجير وتدمير المستعمرين لبلادهم مراتٍ ومرات، ويكفي أن نذكر بأن إرهاب الدولة التركية تسبب بين منتصف السبعينيات وإلى صعود نجم رجب طيّب أردوغان بمقتل أكثر من 25000 ناشط كوردي في شمال كوردستان، إغتيالاً من قبل “فاعل مجهول”، منهم كتّاب وفنانون وسياسيون وطلاب، سوى الذين تم قتلهم في السجون تحت التعذيب، ورغم أن إرهاب الدولة الإيرانية قد قضى على حياة الآلاف من الناشطين الكورد، في داخل البلاد وخارجها، كاغتيال الدكتور عبد الرحمن قاسملو ومن بعده الدكتور شرف كندي ورفاقهما، ومع ذلك لم تظهر بين الكورد منظمات إرهابية، على غرار ما نشأ لدى الشعوب الأخرى في الشرق الأوسط. حتى أن التفسيرات الدينية في كوردستان لم تخرج عن إطار الفهم الذي كان عليه الوضع في عهد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، حيث لم يمارسوا آنذاك أي إرهابٍ ضد أعدائهم من الصليبيين والتتار، رغم أن أعداءهم كانوا يمارسون كل أنواع العنف والقمع والتقتيل ضد المدنيين في القلاع التي استولون عليها، ولا زال هذا الفهم المعتدل للدين لدى الكورد مستمراً حتى الآن، ولقد تشدد قادة الثورات الكوردية، وعلى الأخص الزعيمان الكبيران القاضي محمد والملا مصطفى البارزاني رحمهما الله في منع التطرّف والترهيب والقمع، حتى أن القائد مصطفى بارزاني تساهل جداً في الإفراج عن الأسرى والسجناء من الأعداء المهاجمين ولم يسمح بالتعرّض لهم… وفي ظل هكذا تعليمات وسياسات إنسانية لم تتمكّن أي منظمة “إرهابية” من النشوء في كوردستان، والذين أرادوا إنشاءها بقيت مشاريعهم عبثية وعلى الورق وفشلت في المهد.
بعد ظهور حزب العمال الكوردستاني على الساحة السياسية الكوردية، دخل في صراعٍ سياسي عنيف مع كل فصائل حركة التحرر الوطني الكوردية، وفي كل أجزاء كوردستان، وقضى عن طريق القتل والاغتيالات على معظم كوادر حركة (كوك) التي كانت تطالب بالعمل المشترك من أجل تحرير الكورد وتحرير كوردستان، فاعتبرت ااشريحة المثقفة ممارسات هذا الحزب العمالي أعمالاً “إرهابية” لأنها كانت بهدف تخويف المعارضين له، ولم يكتفِ حزب العمال هذا بقتل المناوئين الكورد في الأحزاب الأخرى، بل تعرّض كثيرون من أعضائه أيضاً على أيدي رفاقهم إلى الاغتيالات والتصفيات المروّعة في داخل كوردستان وفي البلدان الأوربية أيضاً، لدرجة أن عدة قادةٍ منه تم إدراج أسمائهم قبل سنوات قلائل في قائمة “الإرهابيين” المطلوبين للعدالة في أوروبا وأمريكا… ولا زالت بعض الأحزاب والشخصيات الكوردستانية عرضةً لممارساتٍ غير اعتيادية من جهة حزب العمال الذي غيّر فلسفته وسياسته الوطنية إلى سياسةٍ كوسموبوليتية لا علاقة لها بكوردستان كما يبدو.
ورغم كل التصرّفات السيئة التي عليها هذا الحزب حيال القوى الوطنية الكوردية، وكذلك التنظيمات التابعة له في أجزاء كوردستان المختلفة، فإن القوى الوطنية الكوردستانية لم تحدد مواقفها من الحزب الأوجلاني على أنه حركة “إرهابية”، بل تركت الباب مفتوحاً عساه يعود إلى الخندق القومي الذي له موقعٌ فيه رغم كل ما يحدث في الساحة الكوردية من قبل أنصاره، فالإرهاب ليس من طبائع الإنسان الكوردي ولا من خلقيات حراكه السياسي الكبير… وصحيحٌ أن الكثير من مواقف وممارسات هذا الحزب موضع إدانة، كخطف القاصرين والقاصرات، وترهيب كوادر الأحزاب الوطنية وقتل البيشمركة ومحاولة تصفية الحراك السياسي في غرب كوردستان، وفرض الأتاوات والتهديد المستمر لبعض الشخصيات البارزة العاملة من أجل القضية القومية لشعبنا، إلاّ أن الشعب الكوردي له نظرة معتدلة في مختلف شؤون الحياة العامة، وفي السياسة أيضاً، وهذا يدعو للتفاؤل والأمل في ألا يكون ثمة أي اسم كوردي في القوائم السوداء للإرهاب في العالم.
ويجدر بالذكر هنا أن بعض زعماء الإرهاب في العالم قد أصبحوا بعد تغيير سياساتهم على قائمة المرشحين لنيل جائزة نوبل للسلام ومنهم من حصل عليها بعد أن كان يجد متعة في الدعوة لتفجير الطائرات والقتل بالجملة …
29/12/2021