نفحاتُ القلم و أنشودةُ الوطن (البيشمركةُ الشهيدُ علي عمر خليل) .

أمل حسن 
عندَما نفتحُ قاموسَ الحياة نرقدُ خلفَ الذاكرة ، نبحثُ في صفحات التاريخ عن روايةٍ من روايات التحرير و النصر والمقاومة في ظلِّ الثورات الكبرى و الانتفاضات العُظمى التي قادَها هذا الشعبُ المظلوم الذي كانَ و ما زالَ يُعاني بشدةٍ من الاضطهاد و الملاحقة والقتل والتدمير في مختلف الأراضي الكردية.
 لا بدَّ أن نسترجعَ الماضي و نستذكرَ شجاعةَ و بسالةَ بيشمركة الجبال الذينَ سطَّروا أروعَ ملاحم البطولة في تاريخ كوردستان ؛ لأنهم منارتُنا المشرقةُ و الدائمة في البحث عن غدٍ أفضلَ للشعب الكردي .
في كُلِّ عام و في الحادي عشر من الشهر العاشر تشرين الأول نُحيي ذكرى استشهاد أحد أبطالِ البيشمركة الذين كانَ حبُّ الوطن أسمى عطاياهم  في ذاكرة التاريخ الكردي، وهوَ البيشمركةُ الشهيدُ علي عمر خليل رمزُ الثورة و الثوار في انتفاضة الهجرة المليونية، و التي راحَ ضحيتَها الكثيرُ من الشهداء و أعدادٌ كبيرةٌ من الجرحى والمعتقلينَ على يد نظام البعث العراقي ، بالإضافة إلى تدمير و حرق منازلهم في المدن والقرى الكردية ، و نزوح أكثرَ من مليونَيْ مواطن من الشعب الكردي من قِبل النظام الدمويِّ الديكتاتوريِّ ، حيثُ اتَّجهوا نحوَ الجبال والدول المجاورة لهم في كلٍّ من تركيا و إيران و سوريا . 
و كلُّ ذلكَ لم يُثنِ من عزيمة شعبنا الكردي ، فامتدَّتِ الانتفاضةُ إلى جميع مدن جنوب كوردستان ، و كانتْ تعبيراً عن توق شعبنا لنيل حريته ، ورفضهِ لكلِّ السياسات العنصريَّةِ و الممارسات الشوفينية التي اتُّبِعَتْ بحقِّ شعبنا ، والتي كانتْ تهدفُ الوجودَ القومي الكردي .
إنَّ انتفاضةَ الهجرة المليونية الشامخة كسرتْ حاجزَ الخوف والترهيب ، و كانتْ امتداداً لثورتَيْ أيلولَ وكولانَ اللَّتَينِ اندلعتا في كُلِّ من عامَيْ ١٩٦١م و ١٩٧٦م، و أثبتت الثورتانِ جسارتهما ، و جسَّدَتا طموحاتهما النضالية بأنَّ الشعبَ الكردي قادرٌ على تقرير مصيرهِ على كافة الأصعدةِ النضاليَّةِ . 
وُلِدَ الشهيدُ  ” علي عمر ” في قرية ” ريحانيك ” التي تقعُ شمالَ مدينة ” ديريك ” ، حيثُ تربَّى وترعرعَ في ظلِّ عائلة وطنية مناضلة ، و هو شقيقٌ لسبعةِ إخوةٍ . 
و الشهيدُ من مواليد  ١٩٧٢/١/١م ، و بعدَ انتهاء الشهيد علي عمر من المرحلة الابتدائية عام ١٩٨٤م، تركَ الدراسةَ ليُساعدَ والدَهُ في العمل ويكونَ عوناً لهُ . 
تُوفِّيَتْ زوجتُهُ ، و هو في ريعانِ شبابه ، تركَتِ الفقيدةُ خلفها ثمانيةَ أولادٍ ، وهذا ما جعلَ من المناضل” عمر خليل ” أنْ يكونَ قدوةً لأبنائه و منارةً لوطنه و شعبه ، و رغمَ ذلكَ بقيَ وفياً على العهد لحياته الزوجية، و استطاعَ أنْ يلعبَ دورَ الأب و الأم معاً ليُعوِّضَ أولادهُ حنانَ الأم المفقود ، و يغمرَهم بعطفه وحنانه ، في ظلِّ تلكَ الظروف الصعبة و المعيشةِ القاسيةِ التي كانَتْ تمرُّ فيها البلادُ . 
بقيَ صامداً و صابراً و تجاوزَ كلِّ العقبات رغمَ حزنه العميقِ و حبِّهِ الشديد لتراب الوطن ، و استطاعَ غرسَ مشاعرَ حبِّ الوطن و نهج البارزاني السامي في عقول و نفوس أبنائهِ.
صدقَ مَنْ قالَ : إنَّ الأوقاتِ الصعبةَ تصنعُ رجالاً أقوياءَ.
و في ظلِّ تلكَ التربية الصالحة والمدرسة الخالدة تخرَّجَ البيشمركةُ  ” علي عمر ” وانتسبَ إلى النضال القومي في زمن النضال الحقيقي ، و كانَ شاباً ذكياً ومحبوباً من قِبل عائلتهِ ومعارفه وأصدقائه ، و كانَ قلبهُ نقياً ، و لم يكنْ يحملُ شيئاً من الحقد والكراهية تُجاهَ أهلهِ و أصدقائه ، و تلكَ الخصالُ الحميدة والأخلاق الرفيعة جعلَتْ منَ الشهيد ” علي عمر ” موضعَ الفخر و محطَّ الشرف والاحترام بينَ رفاق دربهِ .
عندَما اندلعتِ الانتفاضةُ الكرديَّةُ في جنوب كوردستانَ في ربيع عام ١٩٩١م ، فارقَ الشهيدُ “علي عمر” رحمةَ و حنانَ والده و إخوانه وأخواته وأصدقائه ، و أدارَ ظهره لموطنهِ الأم ، واتَّجهَ إلى إقليم كوردستانَ ، حيثُ إلى انتفاضةُ كوردستان ، لكي يحملَ سلاحَ الشرف و يدافعَ عن أراضيها المقدسة ، ويقاتلَ جنباً إلى جنب مع إخوانه من البيشمركة في المقاومة ضدَّ النظام الدموي الصدَّامي المتعطِّش للدماء  . 
و في البداية انضمَّ إلى قوَّةِ (آگري) و بعدَها إلى قوَّةِ الجبهة الكوردستانية في زاخو ، هو و مجموعة من البيشمركة من غرب كوردستان ، حيثُ كانَ الشهيدُ  واحداً من مئات المقاتلينَ الذينَ لم يغادروا كوردستانَ عندما هاجمَ النظامُ العراقيُّ السابقُ ، و حدثَتِ الهجرةُ المليونيةُ، ذلكَ الحدثُ الذي هزَّ ضميرَ العالم لأوَّلِ مرَّةٍ ، و هيَ أكبرُ هجرةٍ  مليونيةٍ لمجموعةٍ بشريَّةٍ توَّاقةٍ للحُريَّةِ رافضةٍ للظلم و الاستبداد .
في ذلكَ الوقتِ استطاعَ الشعبُ الكرديُّ كسبَ عطف العالم و تأييدَهُ بالقرار (٦٨٨) الصادرِ عن مجلس الأمن في الخامس من أبريل عامَ ١٩٩١م . 
و بعدَها بدأ المواطنونَ بالعودة إلى مُدنهم و قُراهم بعدَ أنْ تدخَّلَتِ الأممُ المتحدةُ ، و حدَّدَتْ منطقةَ حظر الطيران الجوي ، بعدَ خط العرض (٣٦) لمنع القواتِ العراقية من العودة مُجدَّداً إلى مناطق كوردستانَ . 
 و عادَتْ قوَّاتُ البيشمركةِ إلى ساحاتِ القتال ضدَّ فُلول الظلم ، لتحرير شرعية كوردستان  و جميع المؤسسات الحكومية الأخرى . 
و في سنة ١٩٩٢م، كانَ أخوهُ الأصغرُ ” سعيد عمر ”  أيضاً ضمنَ صفوف قواتِ البيشمركة و هو الأخُ الأصغرُ للشهيد علي عمر ، على الرغم من صِغَرِ سنِّهِ في ذلك الوقت . 
 و من دواعي الفخر التعبيرُ عن حماستهم الوطنية تجاهَ شعبهم و نهجهم الخالد مصطفى  البارزاني ، و هو في اللواء والفوج نفسهِ (القوة التاسعة ، لةشكةر الثاني ) و عندَما تمَّ الهجومُ المفروضُ على شرعية حكومة كوردستان في سنة ١٩٩٢م ، شاءَ القدرُ أنْ يفترقَ الأخوانِ بعضهما عن البعض ، حيثُ ذهبَ الشهيدُ ” علي عمر ” مع مجموعة من رفاقه البيشمركة إلى المعركة ، و بقيَ البيشمركةُ ” سعيد عمر ” في الفوج ؛ لأنَّهُ كانَ صغيراً في ذلك الحين ، و لكنَّ يدَ القدرِ كانتْ بالقرب منَ الشهيد علي الذي كانَ يقاتلُ بشدةٍ ضدَّ مُنتهكي سيادة كوردستان، و استُشهدَ في منطقة (بهنينێ) مقابلَ قلعة شعبانيك Kelha Şabanîkê   في منطقة زاخو في ١٩٩٢/١٠/١١م . 
خلَّفَ الشهيدُ وراءَهُ البيشمركةَ  ” سعيد عمر ” ليكونَ مُناضلاً مُخلصاً في صفوف الحزب الديمقراطي الكوردستان (PDK)و الجديرُ بالذكر في ذلكَ الحين ، أنَّهُ تمَّ منعُ نقل جنازة الشهيد ” علي عمر  ” إلى موطنه الأمِّ كوردستان الغربية من قبل نظام البعث السوري ، و لهذا تمَّتْ مراسيمُ دفنِ الشهيد ”  علي عمر ” في احتفالٍ مهيبٍ وسطَ ساحة مدينة سيميل و مجمع مسيريك التي تقعُ في محافظة دهوك ، و دُفِنَ في مقبرة مسيريك التابعة لقضاء سيميل . 
و ختاماً : اُرقدْ في قبركَ بسلام ، لِترتقيَ روحُكَ إلى سماء العُلا أيُّها الراحلُ ، يا شهيدَ الأرض الطاهرة ، توجَّهْ بهدوءٍ إلى مقبرة المجد يا مَنْ تركَ لنا أجملَ معاني الكفاح ، و لكنْ قبلَ أنْ تغمضَ عينَيكَ و تذهبَ بكَ الأحلامُ إلى عالم الحريَّةِ و الشهادةِ ، استقمْ أيُّها الفارسُ النبيلُ والشجاعُ ، و تمهَّلْ قليلاً من أجل أن نقدِّمَ لكَ هديةً جميلةً و بُشرى عظيمةً في هذا اليوم الأكثرِ حزناً ، و هيَ أنَّ كوردستانَ على أبواب النصر ، و المئاتُ من الشباب الكُردِ يحملونَ اسمكَ ، و ما زالتْ بندقيَّتُكَ جاهزةً و شامخةً على أكتاف أبناءِ إخوتكَ في ملاحم البطولة و الفداء من أجل الدفاع عن كوردستانَ ، و في خنادق العزِّ و الرجولة معَ نفحات القلم  و أنشودة الوطن . 
 و أخوكَ ” سعيد عمر ”  الذي تخرَّجَ من مدرسة الأبِ الروحي الخالد مصطفى البارزاني ، و ارتوى من ماءِ المحبَّةِ و عشقِ الوطن من ينابيع جبال كورستان الجميلة و طبيعتِها الأخَّاذةِ ، كانَ و مازالَ على الولاء باقياً ؛ لأنَّهُ استمدَّ القوَّةَ والروحَ الوطنيةَ من بين ذراعَيْ أخيهِ الشهيدِ ، و من كلماتهِ يكتبُ ما تبقَّى من السطور بحبرٍ من النرجسٍ و لونٍ منَ الوردِ ، لِتكتملَ قصيدةٌ عنوانُها البقاءُ و السيرُ على المقاومة دونَ  انحناءٍ ، و يتبعُ طريقَكَ و يسقي زهورَ الثورةِ بسواعدهِ المناضلةِ و عرق جبينه القومي على نهج البارزاني الخالد ، و يبني أسوارَ الحريَّةِ من جميع الجهات ، تحتَ شعار البارزاني الخالد : فخرٌ للإنسان أنْ يكونَ في خدمة شعبهِ . 
منّ أجل أنْ يبقى علمُ كوردستانَ عالياً ، و نهجُ البارزاني راسخاً، و اسمُ أخيهِ الشهيد رفيعاً بينَ أسماءِ صفوف شهداء الوطن ، يفخرُ به و تاجاً يرتديه و وساماً  على صدرهِ حتَّى المماتِ ؛ لأنَّ دماءَ الشهداءِ تباركُنا ، و تنعشُ أرواحَنا وتقوينا على الجهادِ . 
المجدُ و الجنَّةُ الموعودةُ لروح  الأبِ الروحي الملا مصطفى البارزاني ، ولجميع شهداء كوردستانَ . 
 تحيا أسرةُ الشهيد “علي عمر” و المجدُ الأبديُّ لروحهِ الطاهرة ، و لعنةُ اللّٰهِ على الخونة و بائعي الوطن والقضية الكردية ، والخزيُ والعارُ لأعداء البشريَّةِ .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…