إبراهيم اليوسف
ثمة ماهو مشترك بين أسرتينا: محمد رفعت داوود وأنا، وهو ماعزز علاقتنا، أكثر، كما أرى، إذ إنه نجل علامة كردي وهو سيدايي ملاعبدالمجيد الذي لطالما كان يرد ذكره، من قبل أبي ومن حوله من رجال الدين، كأحد العلماء البارزين السابقين عليهم، ناهيك عن أنه كتب لنا أن نعيش وأسرته متجاورين- في شارع الحرية/ قامشلي- خلال مرحلة سبعينيات القرن الماضي، إذ لم يكن بين منزلينا إلا أمتار قليلة، كي أتعرف على أفراد الأسرة فرداً فردا، لاسيما بعد أن عززت ذلك تلك العلاقة بين الراحل أبي غسان وأبي وعمومتي، وشهادة أبي له، في غيابه، واعتباره أنموذجاً و أحد الذين يمكن أن أحذو حذوهم لأنهم يجمعون بين: الدنيا والآخرة، فهو عالم في كلا المجالين. درس الشريعة والفقه واللغة والنحو والصرق، ودرس علوم الدنيا، وكان البارع في كلا المجالين، لما يتمتع به من ذكاء وكاريزما وخطابة ندر أن تمتع بها أحد مثله!
ظلت علاقتي بالأستاذ رفعت في حدود علاقة أبي وعمومتي به، ضمن زيارات المناسبات العامة، ولطالما كنت أنظرإليه بإعجاب كبير، إذ إن المجالس التي كتب لي أن ألتقيه خلالها في بيته أو بيتنا أو بيت عمي تركت انطباعاً جد إيجابي في نفسي، إلى أن عايشته عن قرب، وعملنا معاً، ليكون زميلاً، ومن ثم صديقاً كما أزعم، وأقولها بتردد، لما له من مكانة في قلبي،وذلك لأنه في الأصل- صديق أبي- وأحد المقربين منه، إلى أن كان ذلك اليوم الاستثنائي، في مطلع العام الدراسي 1984- عندما كنت أدرس في إعدادية الحمدانية في قامشلي- مع عدد من الأصدقاء منهم: خليل مصطفى و عيسى حصاف وشكري إبراهيم وإبراهيم زينال وآخرون ما عدت أتذكرهم جميعاً، وإذ بأبي غسان يدخل غرفة المدرسين، وقد انتدب مثلي ليعمل في مجال التدريس، ولنتقاسم شعب أحد الصفوف الإعدادية، وتتوثق علاقتنا تدريجياً، نلتقي في المدرسة أو في الطريق إليها، ومنها، باعتبارنا نقطن في حي واحد وليس بين بيتينا إلا مسافة جد قصيرة لاتتجاوز الدقائق سيراً على الأقدام.
كنت أرغب باستغلال الوقت إلى جانبه، في المدرسة أو الطريق إليها ومنها، رغم ما بين رؤانا من بون، فقد كنت أركب دراجة عادية أطير بها صوب عملي، أو أي موعد بعيد عن منزلي. أتذكر ذات مرة، خرجت من المدرسة وإذ به قد سبقني وهو يمسك ب” دفترتحضير الدروس” الذي لم يكن في حاجة إليه- أصلاً- بين يديه، إلا إن اصطحابه من مستلزمات عمل التعليم، توقفت عن قيادة دراجتي. سلمت عليه، لأكمل بصحبته السير، حوالي االثلاث كيلومترات التي تفصل بين بيتينا- من جهة- والمدرسة. مؤكد، أنني-عادة- وفي مثل هذه الحالة كنت أدعو من معي لركوب وسيلة نقلي، إلا إنني مع أبي غسان لم أجرؤ على ذلك، فقال لي بعد أن سرنا معاً مسافة قصيرة: الآن، يمكنك أن تتركني، لأستمتع بالمشي، ثم مازحني قائلاً:
لا إمكان للفارس أن يصاحب المترجل
في إطار مثل كردي هو:
Siwar nikarin bi yên peyare bi ” meşin”
لم تنقطع لقاءاتي بأبي غسان، طوال فترة عيشي في الوطن، إذ طالما كنت أزوره، بين حين وآخر، ضمن إطار رباط وفضاء الأدب، إذ كان بليغاً، وخطيباً مفوهاً، وشاعراً، وكاتباً، ولطالما حدثني عن مخطوطات له، بل مازلت أتذكر إهداءه باكورة إصداراته لي قبل سنوات بعيدة، وكانت عبارة عن قراءة في إحدى الملاحم الكردية، ما عدت أذكر عنوانها، إضافة إلى معرفتي بولعه بقصائد كلاسيكيي الشعرالكردي، ومعايشته لجكرخوين الذي عمل معه في حزب واحد، خلال فترة شبابه، إذ مازلت أتذكر حواره مع زميلنا المشترك خليل مصطفى الذي كان يعمل في مدرسة الحمدانية مدرساً للفنون، وكان سابقاً علينا كلينا، في المدرسة، وذلك في إطار الحديث عن الخلاف في تحديد يوم ومكان عيد نوروز قائلاً:
أما أنا فملتزم
بمعنى أن التزامه- ولربما الأخلاقي فحسب- استمرإلى مرحلة الثمانينيات، وإن كان حديثنا-في الأدب- يشغلنا عن الحديث في السياسة، بل وإن كان يعرفني عضواً في الشيوعي السوري، في تلك الفترة، وأوصل إليه جريدة الحزب، في فترة ما، من دون أن يكون له موقف متشدد تجاهها- كرجل دين- وهوما يسجل له، كمنفتح على من حوله!
ثمة موقف صعب- حاولت أن استدركه، تسويفاً، ولايمكن الاستفاضة في شرحه أكثر، حصل لي في مدينة الحسكة التي توجهت إليها من سري كانيي/ رأس العين، ذات مساء، مكرهاً، برفقة أحدهم، استعان بي لمؤازرته في مشكلة اجتماعية، وما إن أمسك برأس الخيط في سري كانيي، وانحلت مشكلته، حتى اعتذر مني، مستأذناً أن ينام ليلته هناك، من دون الاكتراث بي، بينما كان علي أن أعود، لأنتظر في كراج السيارات، ليلمحني، وهو في إحدى السيارات- من دون موعد- وأرافقه، في السيارة” “، ليتحفني والسائق ومن معنا، بأحاديثه الجميلة، وأنا أبحث من أجل استئجار سيارة خاصة!
مررنا، من هنا، لأن معنا مكان شخص واحد، وإذ بك المحظوظ!
أثناء مرض والدي، واقتعاده البيت، والتزامه السرير بسبب مشاكل في الركبتين، كان من عداد زائريه، بين حين وآخر، والتزم معنا كأحد المقربين في أيام مجلس العزاء، بل لم ينقطع عن زيارتنا، والسؤال عنا، بعد رحيل أبي، وكان معه- باستمرار- العم ملا مهدي ملا صبري، وآخرون، من أصدقاء ومحبي والدي.
بعد وفاة رفيقة دربه، حاولت التواصل معه، إلا إنني لم أفلح في ذلك، لانشغاله، ورد علي- آنذاك- أبناؤه والصديق نعمت داوود، ولم أسمع صوته إلا في عزاء شقيقه الراحل: عبدالصمد داوود، إذ عزيته، على عجل، إلا إنه بعد انتهاء مراسيم تعازي- الراحل- فاجأني برسالة مفعمة بالود، والتقدير، مادعاني للاستماع إليها، مرات، لما كانت تكتنزه من كهرباء العاطفة والتاريخ، وظللت أتواصل معه، أنى أتيح لي ذلك، رغم أنه كان يتأخر في تلقي مايصله من رسائل واتسابية، مدونة، أو صوتية!
كاتبت الصديق رفعت- قبل أشهر- مقترحاً عليه حفل تكريم أبي غسان، من قبل الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد، قبل أشهر، وقد أعمني قبل أيام أنه أصيب بفيروس كوفيد19، ورحت أتابع وضعه، إلى أن أعلمني ليلة وفاته:
لقد تحسن!
فهنأته بشفاء شقيقه، لتصدمني، في اليوم التالي، صفحة أحد أبناء أخيه التي نشرت خبروفاته، فكدت ألا أصدق الخبر، إلى أن تأكد لي ذلك، مع الأسف!
لم يتسن لمحمد رفعت الشاعر والأديب- المعلم- أن يوسع و يعمق دائرة تواصله مع متلقي الأدب والإبداع، بالشكل الذي يناسب قامته العالية، بل إن حياته الاجتماعية فوتت عليه تقديم المزيد، وهو الأديب والكاتب والشاعر والباحث متمكن الأدوات، ولهذا فإن على من حوله توثيق ونشركل ما لم يطبع من أعماله، بل وإعادة نشرما كتبه، من قبل!
لكم هو مؤلم، أن تنطفىء هكذا منارة كردية مضيئة، تربط الماضي بالحاضر، اسمها: محمد رفعت داود، نتيجة فيروس ضئيل لا مرئي، ليكون اسمه في عداد الأرقام المليونية التي حصدها الفيروس، وهو الشاب- الطاعن في السن، الذي يجب أن تكون مسؤولية تلقي جيله التطعيم على رأس قائمة جدول أعمال منظمة الصحة العالمية
*مع الاعتذارمن روح محمود درويش”لاتترك الحصان وحيداً”