أية بصمة ودّ تركها رحيلك النهائي يا رفعت داوود

إبراهيم محمود

لم تكْفنا المسافات البعيدة المتباعدة لإبقاء جراحاتنا الروحية مفتوحة، ليكون المألوف غير المرغوب فيه، وفي تنامي وتيرة حضوره: الموت، مباغتاً هذا وذاك، هذه وتلك، وفي الواجهة من هو أليف صوتاً وصورة وحضورَ أثر، كما هو الحال مع إعلان نبأ رحيل الأستاذ المربي رفعت داوود، ومن قامشلوكي الحزينة الحزينة تباعاً بين نهار الأمس وليل اليوم “14-9/ 2021 “، فأي فيلم تخوفات ليس فيه سوى اسم الموت، وشبح الموت، ولغة الموت سيادةً؟
بالتأكيد أعرفك جيداً أيها الراحل الطيب الذكر، الطيب البسمة، الطيب اللقاء مع من يلتقيك، أو يجاورك، أو يصادقك ويصافحك، وأنت بتواضعك المقدَّر، بتواضعك المشهود له من متكلمي لغات ولغات في محيطه، وجمال إصغائك لمن حولك، كما تواصلتُ معك ذات يوم في الرواق المدرسي ذات يوم، وكان هناك آخرون وآخرون، لا أدري أين هم الآن.
لكَم بات الموت حاضراً، سافراً، قاهراً بعدده وعدته، وبالمؤثرات التي تسهّل زيادة ” محصوله ” من أرواح يلتقي فيها الكبير السن بصغيرها، الرجل بالمرأة، الفتاة في أوج تفتح أنوثتها وبهاء وجهها، والفتى المتخم بالحياة، في ذروة طموحه الشبابي، وقابليته لأن يشد إليه الأنظار.
لا عدّاد ناظماً، دقيقاً، يُطمأن إليه في الزمن الكردي الراهن خاصة، ليعلِمنا بحقيقة نسبة الموتى إلى الأحياء فعلياً في مآسي الكردي الراهنة، ليكشف لنا في الكم الهائل من لوائحه الاسمية عن تجليات الموت، وألوانه وهو يأتي على المقدّر فجأة لأن تطوى صفحته، دون ميعاد، وفي اللامكان واللازمان، ليزداد الموت إيلاماً .
بالتأكيد أكتب عنك، كما كتبت قبل الآن بقليل، عن العزيز الراحل محمد قاسم، وبينكما مسافة جغرافية أكثر من مائة كيلومتر” حيث تتناظر ديريك وقامشلوكي جغرافياً “، كما لو أن بافي بيمان آثر الرحيل ليكون إيذاناً وقتياً لرحيلك، أو هكذا أحسبها، أن تكون أنت ثم هو، أو تكونان معاً. لا فرق في تصريف حكم الموت بين ” معاً، أو قبل أو بعد ” بما أن طي صفحة الحياة بالكامل يغيّب صورة الجسد الذي استهلك عمراً، وكابد منغصات وحسرات من القياس الكردي، وفي الزمن المعلوم كردياً بأكثر من معنى، وهو يشهد على بؤس المتحصل في تضاعيفه، موت يصرّف دون مقابل، بالعكس، يزيد في فتح أبواب معاناة فردية وجمعية على مصاريعها أكثر، وهي مفتوحة أيضاً، وهي في الكثير منها مخلوعة أيضاً، جرّاء انهيار الكردي صوتاً وصورة وأثراً ومن داخل الكردي، بأكثر من معنى، كما يزيد في الزمن المبثوث للحزن الخاص بالحداد على العائلي، والأهلي، والاجتماعي، على الوالد من الولد وأهله، وعلى الولد من الوالد وزوجته، وعلى الشابة المتفجرة حياة بين جانحيها، من الألم المنكوبة المغلوبة على أمرها، وعلى الصديق من الصديق، والجار من الجار…الخ.
أي قريحة جارحة صارخة تتجذر باسمها ومقامها وموقعها وتركتها الثقيلة من الفجائع، مع موت في لحظاته الأكثر تمكناً من البشر الأحياء، والكائنات الحية الأخرى طبعاً ؟
نعم، يا المربي الودود، أعني به رفعت داوود، وأنا أسترسل باسمك، وبسلطة لحظة تستغرق زمناً لا يقاس بعائده النفسي، وأنا أسطّر باسمك ببصمة ودك المتبقية في الحياة في نفوس من عاشروك عائلياً، وتعايشوا معك أهلياً، وتفاعلوا معك اجتماعياً، ليس لأنني أريد إظهار من تكون، أو ما أكونه، وأنا بعيد عنك مئات الكيلومترات ” حيث أصبحت دهوكياً منذ سنوات، دون أن تتزحزح صورة قامشلو بجهاتها، وكائناتها قيد أنملة عن شغاف الروح “، وإنما لأن في الكتابة ذات النوعية الممهورة بوطأة الموت، وإزاء اسم ليس عرضياً، إنما هو رثاء للروح التي أتنفسها، وأحملها بين جنبي، كما لو أن رحيل كل من نعرفه عن قرب مكانة، قبل كل شيء، ويتاخم العمر ولو بفارق زمني بسيط، حين نسمع بنبأ رحيله، إنما من جهة ينسد فينا شريان حياة كان يمنحنا سكينة وراحة نفسياً، ومن جهة أخرى، يسدد سهماً موجهاً إلى كبد موجوعة أصلاً، وفي السهم أكثر من رسالة الموت المألوف طراداً، وما يعقبها من ماء حار يستغرق الجسم .
أيها الودود ببصمة وده الحياتية، ليس لي إلا أن أعزي روحك المرئية، وقد فارقت جسدك العليل، جسدك الكردي الخفيف الظل، وألمك الإنساني والكردي الثقيل حجماً ونوعاً، جسدك الإنساني أنّى التفتَّ، وأعزي كل الذي يصلون بك بصلة عائلية، وأهلية، واجتماعية، وهي منحة القوة الوحيدة التي تبقينا على تواصل رغم الفراق الأبدي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…